عبد الخالق الفلاح
الاستاذ قاسم مدرس علوم كردي فيلي من بغداد له ثلاث بنات وكبيرتهم ذهبت الى خارج العراق لإكمال دراستها العليا ، وكان استاذ قاسم يجيد ثلاث لغات بالإضافة إلى اللغة الكردية والعربية وبطلاقة وهذه اللغات هي اللغةالانكليزية والفرنسية والروسية .
كانت العائلة تسكن بغداد وبحالة مادية جيدة ، وتعيش السعادة والاستقرار .
في نهاية عام ١٩٧٩ اعتقل رجال الأمن العائلة كلها وبعد مضي اسبوع قاموا باخذ قاسم بمفرده الى سجن من الصباح ويعاد المساء الى سجن عائلته وآثار التعذيب واضحة على جسمه وزوجته تمسح منه الدماء وهو يأن ويصيح من الالم ، وتتكرر هذه الحالة يوميا .
فسألته ماذا يريدون ؟ قال أنا متهم بتنظيم حزب الدعوة الإسلامية ويريدون مني الاعتراف واياك أن تنطقى بكلمة لو اخذوك ، ولم ينفع مع استاذ قاسم التعذيب حتى أخذوا بناته ومارسوا التعذيب عليهن واعترفت إحداهن على اجتماعاته في البيت ، وأثبتت التهمة عليه ، وبعدها اعادوا استاذ قاسم لزوجته من دون البنات ، وكانت تسأله عنهن وقال لا اعلم اين ذهبوا بهن ، وقام يصرخ بالسجن بصوت عالي اريد بناتي ، حتى عملوا له مواجهة معهن لمدة عشرة دقائق وذكرت له احداهن أنه تم الاعتداء عليهن فستشاط غضبا وتألم جدا.
وأعيد لزوجته وقص لها الحال وبعدها لم يرى بناته ويبدأ كل يوم بالصراخ والمطالبة بهن ويصيح ماهي الغاية من اخذهن حتى اختفى وجودهن وأثرت هذه الحادثة عليه نفسيا وشعرت زوجته أنه بحالة غير طبيعية وبدأ وضعه النفسي ينهار تدريجيا .
ثم تم أخذ زوجته الى سجن اخر ومارسوا معها انواع التعذيب للاعتراف عن الأشخاص الذين يترددون على زوجها ، ولكن من دون نتيجة لصمود المرأة وتحملها من دون البوح بأي معلومة .
ارجعوها الى مكانها الاول مع زوجها وكلما تسأل عن البنات يقولون لها سفرناهن الى ايران .
وكانوا يقولون سوف نسفركم بعدها وانتي تعودين إلى أهلك ، فرفضت واصررت أن تكون مع زوجها ، وكان همها على بنتها في الخارج أن لا تعود للعراق ولكن كيف توصل لها الاخبار .
فكلمت الحرس واعطته الرقم وواعدته بالمال ليتصل بها ويخبرها بعدم العودة لأنهم سوف يُهجرون الى ايران ، ففعل ما طلبت وارتاح بالها من جانبها .
وبقيت تنتظر التهجير الى أن حصل وهجروهما معا من دون البنات ، وقالوا انهن امامهم في ايران .
ودخلت مخيم اللاجئين في مدينة جهرم وفورما وضعت قدمها فيه بدأت تسأل عنهن وتبحث كالهائمة في كل مكان من المخيم ومن دون جدوى ، واستاذ قاسم يصرخ الله اكبر الله اكبر اريد بناتي حتى فقد عقله تماما ، واصبح لا يعرف زوجته وترك خيمته .
ولم تمضي مدة والام في حالة يرثى لها والنساء المهجرات يجتمعن حولها لمواساتها وقضاء حوائجها وهي مشغولة الفكر ببناتها حتى فاجئها ارتفاع ضغط دمها لتتوفى في مستشفى المخيم عام ١٩٨١ وتدفن هناك غريبة مهضومة من دون أن يعي بها زوجها الذي فقد عقله .
اُلحِق قاسم مع مجموعة المجانين في المخيم برعاية ابو علي راعي المجانين ، وكان يجمع الحصى ويضعها في جيبه ويصنع من التراب اشكال معينة ويقول هذه هي الغاية ، وبعض الاحيان يفاجيء احد الاشخاص بضربه ويقول هذه هي الغاية حتى عرف بالمخيم قاسم ابو الغاية .
وفي عام ١٩٨٢ زات المخيم لجنة من الأمم المتحدة لأمور الاجئين وكانت ضمن الوفد بنتهما التي في الخارج وبدأت تسأل عن امها وقيل لها إنها توفيت فصدمت من الخبر فأنهارت بالبكاء و وسألت عن ابيها فشرحوا لها حاله فذهبت إليه عله يعرفها فجاءت بلهفة ودنت منه هو جالس وهي تعانقه وتخاطبه بابا بابا وهو يضحك ولا يعي شيء عما يحدث حتى انهارت بالبكاء ووضعت رأسها بين ارجلها تبكي وبحرقة حتى بدأ جميع الوفد الأجانب معها في البكاء وكان مشهدا حزينا لا يوصف .
اين انت ياستاذ قاسم هذه بنتك المدللة الكبيرة الوحيدة التي بقيت في الحياة وقد جاءتك من مكان بعيد ، لكن استاذ قاسم قد تحول إلى قاسم ابو الغاية المجنون بالملابس الرثة الهزيلة .
لم تستطع البنت تحمل حالت والدها وهو أملها الوحيد في الحياة الباقي من عائلتها ، فساورها الامل بإعادة عقله له ليرجع استاذ قاسم ، فصحبته معها إلى طهران لعرضه على الأطباء ، لكن من دون فائدة فقد أُعيد بعد شهر الى المخيم ليعيش مع بقية أصحابه المجانين ، وتودعه البنت بحرقة ولوعة وتنفض يدها من كل امل لبقاء احد من عائلتها لتحكي معه قصة عن طفولتها عن امها عن أبيها عن خواتها الصغيرات لتشعر ولو للحظة بالحنان وأنها جزء من هذه الدنيا .
استمر قاسم على حاله إلى أن تم نقلهم إلى مخيم اصغر من الموجود يقع في مدينة ثانية اسمها ملاوي ليموت هناك ويدفن فيها ، بعيد عن مدفن زوجته .هكذا انتهت عائلة استاذ قاسم وطوى عليها الزمن حالها كحال بقية جرائم البعث المنسية في العراق