زهير كاظم عبود/ عبارة ( مستنطقين عذابات القمع القومي في مجازر الكورد الفيليين ) التي وردت في ديباجة الدستور العراقي وحدها كانت ثمنا يختصر المأساة الإنسانية والعذاب الطويل والتهجير والموت والتجارب الكيماوية على أجساد شباب في عمر الورد ، وحدها تلخص المعاناة التي لم تمارس من قبل دولة من الدول إلا في العراق المحكوم من قبل الطاغية ، حين قامت أجهزة الأمن بجمع كل أفراد عوائل الكورد الفيليين من أهل العراق رجالا ونساءا وأطفالا وشيوخا ، مقعدين وعاجزين ومرضى ، موظفين وعلماء وتجار وعمال وكسبة ، دون استثناء فمجرد كونهم من الفيليين يشكل تهمة كبيرة وجريمة لم تغفرها السلطة ، بعد أن تنتزع منهم كل أموالهم المنقولة قبل أن تقرر السلطات انتزاع أموالهم غير المنقولة وهي أموالهم وأملاكهم الثابتة وفق القانون ، وتجردهم من جميع مستمسكاتهم الثبوتية والقانونية التي تثبت عراقيتهم وطنيتهم ، وتمنع عنهم كل اتصال أو التقاء أو توصية أو الوصول الى ما يملكون بأية وسيلة ، وتقسمهم الى ثلاث أقسام وفق اختيارات وتفصيل وضعته الأجهزة الأمنية.
القسم الأول : يتم نقلهم بسيارات عسكرية بسرعة ورميهم على الحدود الملتهبة بين العراق وإيران ، في مناطق ممتلئة بالألغام ، وفي سهول وجبال غير مأهولة بالبشر ، وتطلقهم مع إطلاق النار عليهم ، حتى يركضوا ويتسارعوا بالابتعاد عن حدود العراق باتجاه إيران ، فيركض منهم من يستطيع حتى لا يصاب جراء وابل زخات الرصاص ، فيقع في حقول الألغام ، وحين ينفجر اللغم المحظوظ منهم من تبتر يده أو رجله فينقل مبتورا ، والأكثر حظا منهم من يتجاوز تلك الألغام بقدرة الحظ ، ويحمل عددا منهم آبائهم وأمهاتهم على ظهورهم ، ولا راحة ولا مجال للتنفس في هذه الرحلة نحو المجهول ، فيستقبلهم حرس الحدود الإيراني وينقلهم الى مخيمات قريبة من مناطق الحدود تجمعهم باعتبارهم مواطنين مشردين دون وطن ، وبشر دون هوية للتعريف عن شخصياتهم ، ولاجئين لا يحملون صفة اللجوء ، بانتظار ما تقرره عليهم سلطة دولة مجاورة لم تزل تداوي جراحها من حرب بينها وبين العراق أكلت من شبابها وثرواتها وترابها ، مثلما خسر العراق فيها مثلها ، فيقيم بعض من هؤلاء في مخيمات إيرانية ، ويرحل غيرهم الى بلاد الله الواسعة ، فيبدأوا بحياة جديدة في مغترباتهم وأوطانهم الجديدة ، فيبدعون ويبرزون ، ويساندوا المعارضة العراقية من أجل السعي لإسقاط سلطة الطاغية.
الثاني : تقاد أعداد كبيرة من شبابهم بصرف النظر عن تحصيلهم الدراسي والإنساني ومكانتهم الاجتماعية الى أقبية الزنازين في سجن أبي غريب دون أن يعرف أي منهم التهمة المسندة إليه ، ، فيتم تحميلهم بسيارات ( الزيل العسكرية ) أكداسا ، يتم الاحتفال بوصول طوابيرهم بصفوف من عناصر أجهزة الأمن التي تعتدي عليهم حين ينزلون الى أماكن احتجازهم ، بالضرب بعصي غليضة وأنابيب مطاطية وهم عراة إلا من ملابسهم الداخلية ، ويتكرر المشهد في عدة صباحات أمام أنظار سجناء سياسيين ، دون أن يتعرفوا على أسباب ضربهم ومعاملتهم بهذه القسوة ، ويتم تقسيمهم في زنزانات خاصة أخليت إلا منهم ، بانتظار أن يتم إنجاز صفحة غادرة ومهينة بارتكاب جريمة إنسانية كبيرة بإخضاعهم جميعا الى التجارب الكيمياوية ليقضوا نحبهم تحت هذه التجارب ، دون ضجة من الدول التي تضع أعلامها في مجلس الأمن ، ودون اعتراض من منظمات حقوق الإنسان ، ولم يتعرض لها كتاب التاريخ العراقي مع الأسف ، ودون أن يتم التعرف على أسماء منفذي تلك الجريمة ، حتى ونحن نحتفل بمرور 16 سنة على نهاية حقبة صدام ، ودون أن تتطرق لتلك الجريمة الإنسانية البشعة حتى المحكمة الجنائية العراقية العليا ، حين حاكمت رموز النظام في قضية الجرائم المرتكبة بحق الكورد الفيليين ولم تحاكم منفذي تلك الجرائم والأدوات التي نفذتها ، ولا تمت ملاحقتهم والقبض عليهم ، وبقي مصير تلك الأعداد من شباب الفيليين مجهولا حتى اليوم فلم تستدل أمهاتهم على قبورهم ، ولا تمكنت امراءة أو شيخ أن يجد له مكانا ولو رمزيا ليبكي فلذة كبده فتحجرت الدموع مع ما تحجر من الم ومحنة وحزن في قلوب من بقي منهم من الأحياء ، ولا قامت السلطات الحالية بالاستدلال على أماكن دفنهم.
الثالث : تم تجميع عدد كبير آخر من تلك العوائل ونقلهم بسيارات عسكرية مغلقة في الليل البهيم وبسرية تامة ، تم نقلهم من العاصمة أو من بقية المحافظات وإبعادهم الى أقصى مجاهل الصحراء العراقية الخالية من البشر قرب منطقة نقرة السلمان ، واحتجازهم في بنايات طينية تحت رحمة هجير الشمس الحارقة في النهار ، وتحت رحمة البرد القارص الشديد في الليل ، ووسط عواصف الرمل المستمرة ليلا ونهارا ، ويتم منعهم من مغادرة المنطقة مطلقا ، ولا سبيل لترك المنطقة الصحراوية ، وتركوا دون رعاية صحية ومساعدة غذائية أو أشراف خدمي وشحة في المياه ، ومن يموت منهم يتم دفنه وسط تلال تلك الرمال المتحركة ، فباتوا تحت رحمة الطقس وتقلباته ، وتحت قسوة حكم السلطة التي قامت باحتجازهم دون ذنب ومنعت كل وسائل الاتصال بهم.
لا نريد التعرض لرحلة العذاب التي عمت على كل مواطن عراقي من أبناء الكورد الفيليين ، ولكن الأنصاف يقتضي أن نعيد للذاكرة من أن العراقيين متساوين في الحقوق والواجبات ودون تمييز هذا ما تقوله المادة ( 14 ) من الدستور العراقي ، ومادامت المساواة هي القاعدة التي تبني عليها أسس القوانين ، فأن شمول كل من تضرر من النظام البائد يشمل بشكل واضح جميع أبناء الفيليين ، ويحق لهم أن يحصلوا على كل الأمتيازات والحقوق التي نص عليها وحددها قانون السجناء السياسيين وتعديلاته ، وإذا تمعنا بدقة سنجد أن أول شريحة قدمت كل هذا الكم من الشهداء والتضحيات الجسام بدماء وأرواح شبابها وخسرت استقرارها وحياتها وأملاكها وأماكن عملها ووظائفها وقيدت حريتهم وتبعثرت قبورهم وأختفت أجساد أولادهم هم أبناء الفيليين.
أعرض هذا الأمر على السلطة التشريعية وهي تناقش القوانين التي تنصف الناس ، وخصوصا اللجنة القانونية في مجلس النواب ، وأعرض الأمر على مجلس الوزراء ممثلا برئيسه ليلتفت الى هذه الشريحة التي لم ترفع صوتها للمطالبة بحقوقها ، وكلي ثقة من أن أصحاب الضمائر الحية سيتذكرون مأساة عراقية عاشتها شريحة من الفيليين كانوا وقود فضحت جرائم السلطة ، وساهمت في إسقاطها ، والسعي الى تشريع قانون يساويهم بمن هم دونهم تضحية وخسائر.