2017-07-07 17:28:00
عصام أكرم الفيلي

( 1 )
حين دخلت لأول مرة الى مطار بغداد الدولي بعد سقوط الصنم بفترة وجيزة ، بكيت بمشاعر لا استطيع وصفها لذكرى اقصها عليكم ، كان ذلك زمن الطاغية المقبور وكنت اعمل حينها موظفاً في النهار وسائق تاكسي في الليل ، في احدى الليالي تعرضت لضرب عنيف والفاظ مهينة لمجرد خطأ بسيط في دخولي الى شارع قريب من المطار ، كنت انقل عائلة استأجرتني من منطقة راغبة خاتون الى سكن المطار الذي كان يسمى في حينه المجمع الفرنسي ، واخطأت في الدخول هناك بشارع واحد ولخمسين متراً لا اكثر ، فخرج اشباح صدام بملابسهم الزيتونية اللون من بين الاشجار ، وكان ما كان من اهانات وضرب من أمن المطار في زمن العهر الصدامي .
ولهذا بكيت بدموع حرى في دخولي الثاني للمطار بعد ان ذهب صدام الى مزبلة التاريخ لأسباب اقصها عليكم ايضاً ، في ذلك اليوم فوجئت بأن احد الفيليين هو المسؤول عن اهم شارع في المطار واتذكر ان النقطة الأمنية فيه كانت تسمى ( الفا وان ) ، اهم نقطة أمنية ومسؤولها فيلي ، فكان ذلك اول احساس يتغلل في اعماقي ليثير مشاعر تصرخ بأن الزمن تغير ، في تلك اللحظات تذكرت الليلة المهينة وما حصل فيها من الأمن الصدامي في المطار ، فكيف لي ان احبس دموعي !؟ ، وكأن فيض المشاعر يأبى ان يفارقني وانا اتجول في المطار ملكاً معززاً مكرماً برفقة اخوتي واصدقائي هناك ، لا اعرف لماذا طلبوا مني اصطحابي في جولة كأنها تفقدية للمطار وشوارعه ومفاصله ونقاطه ، ولكني عرفت قصدهم الذي تُرجم لدموع اخرى بعد دقائق حين شاهدت المسؤول عن نقطة أمن الشحن الجوي كردي فيلي ، بكيت للمرة الثالثة حين شاهدت المسؤول عن أمن الصالة كردي فيلي ، بكيت للمرة الرابعة حين شاهدت المسؤول عن امن المدرج كردي فيلي ، بكيت خامسة حين شاهدت المسؤول عن فريق التدخل السريع كردي فيلي ، كل النقاط والمفاصل الأمنية في المطار كان مسؤولوها فيليون رغم ان الشركة الأمنية الرئيسية هي شركة بريطانية ، فعرفت سر الجولة التي انزلت من عيني دموع الفرح تلك ، وهذه هي قصتي الفيلية مع المطار ومع أمن المطار في زمنين .


( 2 )
في اول دخول لي الى المنطقة الخضراء وكان ذلك قبل حوالي عشر سنوات ، كانت العجلة التي اقلتني تسير في شارع جميل مزين بالورود ومزروع بالاشجار على جانبيه ، في احد التقاطعات انعطف السائق يميناً وبعد عشرات معدودة من الامتار ظهرت امامي لقطة مفاجئة ، لقطة لشيء ومكان كنت في زمن الطاغية اخشى مجرد النظر اليه فضلاً عن التقرب منه ، لقد ظهرت امامي البوابة الشهيرة للقصر الجمهوري الصدامي المسماة بوابة قبة الصخرة ، تلك البوابة التي شيدها صدام حسين لتكون مدخلاً رئيسياً لقصره الرئاسي ، كان الطاغية يمر من تلك البوابة كل يوم ، وكنا في ذلك الزمن الأسود نرى قبة الصخرة المنتصبة اعلى تلك البوابة من بعيد ، ونحول انظارنا عنها بسرعة خوفاً من ذلك الرعب المجهول الذي كان مزروعاً حتى في عظامنا ، فلا احد فينا كان يتجرأ على مجرد النظر الى البوابة الرئيسية لصدام حسين وقصره الجمهوري .


ولهذا حين رأيتها بعد سقوط الجلاد ، لم تكن تمثل لي مجرد بناء بل كانت قصة وتاريخ وقضية ، طلبت من السائق ان يخفف السرعة لأدنى قدر ، لا اعرف حقيقة المشاعر التي انتابتني في تلك اللحظات الا انها من كثرتها واختلاطها كبيرة على الوصف ، وصلنا اليها ، الى تلك البوابة اللعينة التي يعلوها مجسم قبة الصخرة ، طلبت منه التوقف ، نزلت من العجلة فاقداً لأي شعور بالزمان أو المكان ، فقط انظر الى البوابة ، اتلمس جدرانها المشيدة من حجر الحلان ، ارفع عيني الى اعلاها والى تلك القبة ، اجول بنظري الى الشارع الى الاشجار الى كل شيء وكل الجهات ، نعم ان هذا حقيقي ، انا الفيلي المحطم اقف بشموخ في بوابة صدام حسين ، وصدام حسين بكل جبروته في المزابل .


( 3 ) 
نعود الآن الى عنوان هذه السطور ، الى سر القاعة العمياء ، في زيارة الوفد الفيلي الذي دعي الى مجلس النواب يوم أمس الخامس من تموز ، كان المقرر عقد الاجتماع في قاعة معينة ، ولكنني نقلت الاجتماع الى قاعة اخرى بحكم طبيعة عملي وامكانية ذلك ، صحيح ان القاعة الاولى كانت صغيرة ولا تستوعب العدد ، ولكن كان لدي سبب آخر اقوى وهو سري الجميل وسر القاعة التي نقلت اليها الاجتماع وهو الذي اعترف اليكم به الان ، سألتني السيدة سروه عن سبب نقل مكان الاجتماع فكانت اجابتي لصغر حجم القاعة الاولى ، ولكن هذا في الحقيقة لم يكن السبب الرئيسي ، لقد نقلته الى قاعة كان اسمها في زمن المقبور صدام حسين ( القاعة العمياء ) !


فما هي تلك القاعة وما هو سرها ولماذا نقلت الاجتماع اليها ؟ انها ايها الاخوة احدى اهم القاعات التي تخص صدام حسين وكان يعقد فيها اجتماعاته المهمة ، القاعة محصنة تماماً ، الجدران والسقف من الكونكريت المسلح وبسمك لا تؤثر فيه الصواريخ ولهذا لم يقصفها الامريكان ايام الحرب رغم كونها مهمة وفي موقع وبناية مهمة ، مغلفة من جميع الجهات بمواد كاتمة للصوت وارضيتها مضادة للنيران مهما كانت شدتها ، ابوابها محصنة وثقيلة ولا يمكن فتحها بسهولة  ، فيها منظومة متكاملة للصوتيات والمرئيات والاتصالات وكانت تحوي في زمن المقبور كما سمعت منظومات متطورة جداً للقيادة والسيطرة ، بالاضافة الى العديد من المميزات والامكانات التي تتيح لصدام حسين التحكم في كل شيء وهو جالس في قاعته تلك دون ان يخترق اسرارها احد ، ولهذا كان صدام حسين يسميها ( القاعة العمياء ) .

طالما تعجبني الدلالات الرمزية للأشياء والاماكن ، واحب الربط الروحي بينها وبين الاحداث ، ففي هذه القاعة كان يجلس صدام حسين ليتحكم بمصيرنا ، وفي هذه القاعة بالذات كان اجتماع الفيليين بعد زمن تغير ونظام ذهب الى مصيره المحتوم ليقرروا صفحة من مستقبلهم ، لقد كان سبب نقلي لمحل الاجتماع رسالة روحية لها دلالات زمنية ورمزية لأوضاع مختلفة ، فهنا كان يجلس صدام حسين ليتخذ قراراته الاجرامية بحق الكُرد وكردستان والبيشمركة والفيليين ، وهنا كان اجتماع ابناء البيشمركة سروه عبد الواحد وكاوة محمد وامين بكر وهوشيار عبد الله ومحمود رضا وشيرين رضا ونوزاد شواني ومسعود حيدر الذي قدم من عائلته 282 شهيد بيشمركة ، وهنا جلس الفيليون طالب وياسر وعامر وستار وناظر ومحمد وعلي حسين وحيدر هشام ومحمد كوران وشاكر النعماني الفيلي ليبحثوا ويتدارسوا الحلول لجرائم صدام بحقهم ، في نفس القاعة ، القاعة العمياء .