لقاء اعده عبد الصمد اسد
منذ مرور خمسة وخمسين عاما على انقلاب البعث في 8 شباط العام 1963 والى اليوم, العراق والمنطقة ارضاً وشعباً يدفعون ثمن جرائم حزب البعث الدموي ومناصريه من القوميين العنصريين...
ففي كل عام من مثل هذا التاريخ, يستذكر الضحايا صور واحداث ومآسي تلك الفترة المظلمة في حياتهم, والتي جرت على يد عصابة سادية, قادت انقلاباً باسم "الوحدة والحرية والاشتراكية" على ثورة 14 تموز, فاجهضت تجربة وان لم تكن نموذجية بالكامل, الا انها كانت قد حققت بفترة وجيزة من عمرها القصير مكاسب كبيرة لدولة وشعب انعتق من نير العبودية والفقر والجهل, بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه الذين لم يغدروا به واسشهدوا معه على يد زمرة كان قد عفا الزعيم الشهيد عنهم من قبل, فخلد التاريخ اسماء من وقفوا وساندوا قائد وثورة 14 تموز بنور النزاهة والشجاعة..
لقد اعترف بعد حين، كثير من كبار كبار البعث وشركائهم الذين دارت بين ايديهم السلطة بالمكر والتآمر والخداع بانه "لاوحدة ولا حرية ولا اشتراكية " تحققت في ظل انقلاباتهم وانما حل الدمار والتشتت والحروب العبثية بدول وشعوب المنطقة. وعلى صعيد الداخل العراقي تم خنق الحريات وخلق اجهزه مخابراتية تساعدها المنظمات البعثية بكتابة التقارير, وممارسة الاعتقالات العشوائية والاضطهاد والقتل والتهجير, وبلغت ذروتها حين عاد البعث الى السلطة في 17 تموز من العام 1968,عن طريق المكر والخداع كعادته
ولتسليط الضوء على بعض من احداث زمني حكم البعث, الاول في 8 شباط 1963, والثاني في 17 تموز1968، صادف ان التقيت اواخر العام الماضي في حسينية الاكراد الفيلية الواقعة في (عكَد الاكراد) ببغداد بالفنان المسرحي الاستاذ جعفرراضي, لقد كان ذلك اللقاء في مجلس عزاء احد ضحايا التهجير الى ايران والشتات والموت في الغربة, مثله مثل المئات ممن هجرهم النظام من موطن خزنت خنادق تاريخه الطويل مزاياهم في البذل والعطاء, دون ذنب او جريمة اقترفوها, غير دفعهم ضريبة انتماءهم القومي والوطني.. والاستاذ جعفر راضي من مواليد ذات المنطقة ( عكَد الاكراد), وواحد من تلاميذ المدارس الفيلية الاهلية التي كانت الرائدة في تخريح اجيال تسلحت بالعلم والثقافة والشجاعة التي اهلتهم في الدفاع عن مكاسب ثورة 14 تموز, فكان معظم المتصدين وضحايا الانقلابيين البعثيين هم من شبابها وعوائلهم ..والاستاذ جعفر راضي نموذج من ذلك الجيل الذي تعلم ودافع وصارت عائلته احد الضحايا… وكونه عاصر احداث الانقلاب الاول استحضر من دفاتر خزائن ذاكرته بعض مما شاهد وتعرض له شخصياً والالاف من العراقيين. وكان ذلك اللقاء يحدث لاول مرة في بغداد بعد مضي اكثر من اربعين عام, بين رياضي مغترب في بريطانيا وفنان مسرحي مغترب في السويد تشتت اوصال عائيليتهما بين عدة دول بسب ظلم واضطهاد البعث العراقي, مثلهم مثل الملايين من ابناء الشعب العراقي الذين صارت الهجرة والتهجير سنة حياتهم في ظل البعث والتي بلغت ذروتها بعد سيطرة صدام على السلطة في اواخر سبعينات القرن الماضي
وعلى سجية المسرحيين في صدق تصوير الاحداث، استحضر الفنان جعفر راضي, صفحة مشرفة عن مقاومة شباب وعوائل الكورد الفيليين انقلاب شباط 1963 والصمود البطولي بتحمل آلام تلك الاشهر القليلة من حكم البعث... فوصفها بالقول " لا يمكن بالنسبة لضحايا تلك المرحلة من زمن البعث الاول في 8شباط 1963, نسيان او فصل احداثها عن احداث ومحن الانقلاب الثاني في 17 تموز 1968 لا من حيث هوية الضحايا ولا نوع الممارسات اللا انسانية التي جرت بحقهم ,من قبل جلادين جدد الغالبية من بينهم كانت من نفس المدرسة الفكرية العنصرية الحاقدة" (....). فحين هجم البعثيين وشركائهم القوميين في 8 شباط العام 1963,على وزارة الدفاع, والذي صادف وقوعه صباح يوم الجمعة الرابع عشر من شهر رمضان كان الناس صيام, وكنت يافعاً.. وقد فوجئنا ببيان من الاذاعة يعلن عن وقوع انقلاب, وسمعنا ازيز الطائرات مصحوباً بصوت اطلاق القنابل, وبعد انكشاف هوية الانقلابيين, اندفعت مجموعة من شباب منطقتنا (عكَد الاكراد) مخترقين شارع الكفاح باتجاه وزارة الدفاع والتقوا في طريقهم بمتظاهرين تسارعو من مناطق اخرى من اجل التصدي للانقلابيين, فصادف مرور الزعيم عبد الكريم قاسم فطمأنهم, ورفض مطلب تزويدهم بالسلاح والح عليهم بالعودة الى بيوتهم. وعندما عاد شبابنا واستمر القتال في وزارة الدفاع, تمترسوا ومعهم اعداد كانت توافدت من مناطق اخرى في شارع الكفاح وخاصة عند مداخل محلة (عكد الاكراد).. وكانت العوائل الفيليه الى جانب توفيرها الطعام فتحت ابواب بيوتها من اجل استخدام المقاومين الاسطح للتنقل بين الازقة" واضاف" رغم صغر سني في تلك الايام, شاركت مع شبابنا مقاومة البعثيين لمدة ثلاثة ايام , وكانت تشاركنا ايضاً ابنة الشهيد فاضل عباس المهداوي وهي تحث على المقاومة, وكان سلاح الشباب رشاشات بور سعيد وعدد قليل من المسدسات وقنابل المولوتوف وكنا نصنعها بانفسنا … واستمرت مقاومتنا الشرسة للانقلابيين حوالي اربعة ايام متتالية بلياليها, مما دفع عبد السلام عارف شريك الانقلابيين ان يهدد المقاومين بالقصف والملاحقة , فارسل عدة دبابات مع قوة عسكرية تمركزت في ساحة النهضة واطلقت قذائفها على بناية تقع في بداية محلة عكَد الاكراد وكان قد تحصن المقاومون داخلها. ونتيجة الحرص على ارواح عوائل المنطقة وتفوق الانقلابيين عدداً وتسليحاً, ونفاذ الدعم اللوجستي للمقاومين توقف القتال, ولكن البعض من الشباب المقاوم توجه الى الكاظمية لدعم المقاومة هناك حتى تمت السيطرة للانقلابين على السلطة ونفاذ ذخيرة المقاومين ايضاً وسقوط عدد من الشهداء بينهم, وتم اعتقال البعض وقيام الانقلابيين بحملات شعواء في مناطق كثيرة من العراق ومن ضمنها منطقتنا (عكًد الاكراد) حيث تم اعتقال وتعذيب واعدام اعداد كبيرة من مختلف الاعمار من المقاوميين وافراد من العوائل بعد مداهمة الدور من قبل الحرس القومي, ومنذ تلك الايام تحين البعثيين الفرص للانتقام من الكورد الفيليين وهذا ما حصل خلال اعوام عودتهم الى السلطة في 17 تموز العام 1968"..
وعن تلك الاعوام القاسية في الانتقام من الكورد الفيليين بالخصوص والتي لم تتوقف في زمني حكم البعث من حيث الظلم القانوني والتمييز والاضطاد ومن جرائم ممارسة التهجير بحق الالاف منهم نقل الفنان جعفر راضي تجربته المريرة مع نظام البعث الثاني اذ قال" وفي الانقلاب الثاني وبعد تخرجي من المعهد العلمي في بغداد واختياري الفن المسرحي صرت شاهداً على اول عملية انتقام جماعي في ظل عودة البعثيين للسلطة حيث تم تهجير 70,000 كوردي فيلي في اوائل عام 1970 اي اثناء توقيع اتفاقية 11 آذار بين القيادة الكوردية وحزب البعث", واضاف راضي واصفاً تلك المرحلة انه "رغم توقيع ذلك الاتفاق ومن ثم قيام جبهة وطنية مع اليسار الشيوعي الا ان النظام البعثي وكعادته في المكر والاجرام لم يكن اميناً على تنفيذ اتفاقية آذار مع الكورد ولا ميثاق الجبهة مع الشوعيين, فاقدم على تمزيق الاولى في تموز العام 1975 باتفاقه مغ شاه ايران, وغدر بشركاء الاتفاق الثاني ولاحق اعضاء الحزبين الكوردي والشيوعي واصدر ضدهم وضد كل من يشك بولائهم للنظام البعثي احكام بالفصل من الوظائف والاعتقال والاعدام والتهجير وقد كنت احد ضحايا الاعتقال والفصل والتهجير ولم يكتفي جلاوزة النظام بتلك العقوبات فقط بل بلغت ذروة جرائمها اواخر السبعينات في ظل سطوة وسيطرة قبضة صدام على السلطة حيث توجها بعمليات اوسع وكنت وعائلتي احد ضحاياها في نيسان العام 1980 بتهجيره مئات الالاف من العوائل والغالبية العظمى من بينهم كانوا من ابناء جلدتي الكورد الفيليين بعد ان جردهم من وثائقهم الثبوتية العراقية واحتجز وغيب عشرات الالاف من شبابهم في مقابر جماعية لم يتم العثور عليها الى اليوم"...
ان جرائم سلطة البعث في زمنيه الغابرين, لم تقتصر فقط ضد الاحزاب التي تحالف معها, ثم غدر بها, او فئة دون اخرى من اطياف الشعب وانما ادخل العراق في صراعات وحروب مدمرة مع دول الجوار وفي مشاكل كثيرة مع العديد من دول العالم فأدت تلك الممارسات والسياسات الى احتلال العراق واحلال الدمار والخراب في جميع مفاصل الدولة التي زادتها خراباً عملية المحصاصة السياسية بعد التغييرفي عام 2003 الى اليوم. وهذا يعني بجمع اعوام حكم زمني البعثيين والنظام الجديد ان غالبية نفوس العراقيين عاشت ثلثي اعمارها في دائرة القلق من مصير ومستقبل مجهولين