شفق نيوز/ انتفاخ الأحزاب العراقية أصبح مثيرا للانتباه. كشفت ذلك انتخابات العام 2018، ثم التظاهرات الشعبية التي اندلعت منذ ثمانية شهور من خارج ارادة الاحزاب القائمة، وبعيدا عن سلطتها وقبضتها التي كانت قوية، ثم في ترشيح مصطفى الكاظمي وتكليفه تشكيل الحكومة، وهو الآتي الى السلطة من دون قاعدة حزبية او انتماء لحزب او تيار سياسي يمثله.
"التعددية السياسية" التي طفت على وجه الحياة السياسية منذ ما بعد الغزو الاميركي وانهيار نظام صدام حسين، شكلت بالنسبة الى كثيرين فرصة نادرة لا بالتغيير الجذري في العراق وحده، وإنما في عموم المنطقة التي تحظر غالبيتها تعددية الاحزاب، او تقيدها، وتميل بشكل عام اما الى النظام الملكي، او نظام الحزب الواحد، او حكم العائلة.
ولهذا فان العراق شكل حالة فريدة وقتها، ومحاولة استثنائية للقطع مع الماضي السياسي للعراق، منذ ان عاد حزب البعث الى السلطة بإنقلاب 17 تموز/يوليو 1963 مشكلا اول حكومة بعثية في تاريخ البلاد، بعدما أمعن في سحق خصومه سواء كانوا من الشيوعيين والقوميين او من الاسلاميين. ومذاك، هيمن الحزب الواحد على مقاليد مشهد الحكم في بغداد، لا تحالفات حزبية، ولا ائتلافات انتخابية، ولا حكومات تمثيل تعددي.
احتكار السلطة ربما قاد العراق ما ذهب اليه من كوارث ونكبات ألمت بالعراقيين، ولهذا فان التعددية السياسية التي ظهرت فجأة ما بعد العام 2003، شرعت الابواب امام الاحزاب المحظورة والجديدة والمعارضين القدامى والجدد والعشائرية والطائفية والمرتبطة بالمتمولين ورجال الاعمال وسماسرة السياسة، للتكتل والتحزب والتجمع لتشكيل أحزاب وتيارات وكتل سياسية، هدفها – وهو هدف مشروع – كسب ولاءات الناخبين، والفوز بأكبر عدد ممكن من مقاعد البرلمان، بل والوصول الى الوزارات الحكومية.
لكن الامور وصلت الى مرحلة الانتفاخ. الاحزاب لم تثبت اخلاصها لناخبيها على مر السنوات، واعتمدت على تغليب مبادئ المحاصصة والمحسوبيات لخدمة بعض الاتباع، فيما الحالة المعيشية للعراقيين راحت تتدهور من سنة الى أخرى. انهمكت غالبية هذه القوى والاحزاب بالصراع فيما بينها، وفي صراعاتها الداخلية على المناصب والمكاسب، وانشغلت بخوفها المتوارث منذ ايام صدام حسين، من احتمال اقصائها من المشهد، فأساءت استخدام المادة 49 من الدستور التي تنص على "مراعاة تمثيل سائر مكونات الشعب العراقي" لتحولها الى اداة لتأكيد المحاصصة وتقسيم الغنائم فيما بينها، بدلا من الحرص على تحقيق تطلعات الناخبين انفسهم.
ولهذا ربما، فقد وصلت الامور الى مرحلة قاتمة. ففي الانتخابات الاخيرة في العام 2018 لم تنجح الاحزاب سوى في استنهاض همة نحو 44 في المئة من الناخبين للادلاء باصواتهم. وهو انهيار كبير مقارنة بنسبة المشاركة التي سجلت العام 2005 بنحو 79 في المئة. وفي محاولة تشكيل حكومة لخلافة عادل عبدالمهدي، جاءت شخصية من خارج الطبقة السياسية متمثلة بمصطفى الكاظمي.
وقال الخبير في الشأن السياسي العراقي فاضل أبو رغيف، لوكالة شفق نيوز ان "مجيء الكاظمي، كسر حاجز ان رئيس الوزراء، مشروط بان يتم اختياره من رحم الأحزاب السياسية، بل على العكس، جاء الكاظمي، بقرار مخالف للأحزاب، وهذا بسبب نجاح التظاهرات الشعبية بحد كبير في تغيير شكل النظام السياسي". ولفت الى ان "الاحزاب السياسية، تحاول حالياً عرقلة اي مشروع اصلاح وتغيير للكاظمي، لغرض الاطاحة، تمهيداً لاختيار رئيس وزراء وفق مقاسات الاحزاب".
اذا الانتخابات الاخيرة هي الادنى مشاركة منذ سقوط صدام حسين. فبعد المشاركة ب79 % العام 2005، سجلت نسبة 62,4% العام 2010، ثم 60% العام 2014. علما بان الاحزاب المسجلة تبلغ حاليا 320 حزبًا وائتلافًا وقائمة، غالبيتها اما دينية او قومية او مناطقية، ما يستدعي ضرورة حسم قانون جديد للاحزاب، بعدما عاش العراق بلا قانون كهذا منذ دستور 2005 حتى العام 2015 عندما صدر القانون رقم 36، وما زال.
لكن أبو رغيف اعتبر ان "الانتخابات البرلمانية في العراق مؤخراً تمخض عنها مشاركة اقل من 20% من الشعب العراقي، ولهذا البرلمان العراقي الحالي، لا يمثل غير اقل من 20% من الشعب العراقي".
المشكلة الاخرى التي تسجل على النشاط الحزبي الحالي في العراق، استمرار عملية الانشقاقات والتشظي، ما يؤشر بشكل واضح على هشاشة التركيبات الحزبية القائمة وضعف هيكلياتها التي لا تتيح احتواء النزاعات والخلافات الداخلية.
وقال المحلل السياسي الكوردي ياسين عزيز لوكالة شفق نيوز ان "نظرية الاحزاب عموما فشلت الى حد كبير وبات المشهد و حتى الشارع يبحثون عن شخصيات وطنية، بالمجمل الاحزاب لن تختفي لانها اطار تنظيمي و مرتبط بمجموعة مصالح لكنها تتراجع وتخرج منها شخصيات تتجمع في ائتلافات غير متماسكة كما الحال مع نظام الاحزاب".
فعلى سبيل المثال، حزب الدعوة الذي قاد عدة حكومات عراقية بعد الغزو، صار يضم أكثر من جناح، احدها لحيدر العبادي وآخر لنوري المالكي. الصراع الداخلي، كان من بين اسباب خروج المالكي من الحكم، وفشل العبادي في العودة بولاية حكومية ثانية.
مثال آخر، ما كان يعرف باسم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي تحول لاحقا الى المجلس الاعلى الاسلامي في العراق، ثم انشق عنه عمار الحكيم ليؤسس "تيار الحكمة" بعد خلافات وصراعات داخلية بين جيلين مختلفين، الجيل الاصغر سنا بقيادة عمار الحكيم، وجيل قدماء القادة في الحزب الأكثر قربا من النفوذ الايراني.
وقال ياسين عزيز ان "العزوف عن الانتخابات له عدة اسباب منها الملل من الوجوه المتكررة و فقدان الثقة بالاحزاب و شعاراتها و عدم ترجمة الشعارات والوعود الى ارض الواقع الامر الذي ازداد الوضع سوءا كما ان العزوف جاء بسبب عمليات التزوير الهائلة التي تحدث في كل استحقاق انتخابي".
وبعدما كنا نشهد في مرحلة ما الغزو أحزابا وائتلافات مثل حركة الوفاق الوطني، حزب المؤتمر الوطني، الحزب الاسلامي العراقي، هيئة علماء المسلمين، حزب الدعوة، المجلس الاعلى للثورة الاسلامية، حزب الوفاق الاسلامي، وحزب الفضيلة، طفت في الانتخابات الاخيرة اسماء احزاب وتكتلات مختلفة، مثل "تحالف سائرون" بزعامة مقتدى الصدر الذي تصدر الفائزين، وتلاه "تحالف الفتح" بزعامة هادي العامري، ثم "تحالف النصر" بزعامة حيدر العبادي، و"ائتلاف دولة القانون"، و"ائتلاف الوطنية" و"تيار الحكمة" و"تحالف القرار العراقي".
وظهرت اسماء جديدة اخرى، بينها "الأنبار هويتنا"، و"الجيل الجديد" و"تحالف بغداد" و"نينوى هويتنا"، و"التحالف العربي" و"جبهة تركمان كركوك" و"بيارق الخير" وغيرها.
اذا المشهد الحزبي يشهد انقلابا جذريا ومستمرا في السنوات الاخيرة، والانتخابات البرلمانية الماضية كانت دليلا ساطعا على ذلك ما يطرح تساؤلات خطيرة عما يجري وكيف يمكن ان يتطور المشهد مستقبلا، وخصوصا الان مع صعود مصطفى الكاظمي الى واجهة العمل السياسي العراقي.
وردا على سؤال عن امكانية ذهاب العراق نحو قيادة البلاد من الحزب الواحد، بعد اختيار رئيس وزراء، من خارج رحم الاحزاب المتنفذة والحاكمة، قال الخبير أبو رغيف، ان "الاحزاب السياسية في العراق، هي احزاب تدويرية، بمعنى انها تقوم بتدوير نفسها، ولا نظن ان هذه الاحزاب سوف تنقرض او انها ستغيب عن المشهد السياسي او تختفي، بل على العكس سوف تزيد هذه الاحزاب، خصوصاً لوجود انقسامات وانشطارات داخل الحزب او التحالف الواحد".
واعتبر الخبير في الشأن السياسي العراقي ان "العراق باق في نظام الاحزاب المتعددة، ولم يقاد من خلال الحزب الواحد، بل في الانتخابات المقبلة، الأحزاب، ستكون اكثر من الحالية، بسبب الانقسامات الداخلية".
وحول التجربة في كوردستان، قال ياسين عزيز انه "على الرغم من وجود احزاب كثيرة الا ان الاسبقية والقوة ستبقى بيد الحزبين الرئيسيين الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني، وبقية الاحزاب التي يمكن ان تكون مساهمة في العملية السياسية فلن تتجاوز مقاعدها ال١٠ مقاعد برلمانية في المرحلة القادمة، لذا فانها لن تكون منافسة بقوة خاصة انها لا تمتلك قوة عسكرية ولا تتفق في مرات كثيرة لوقت طويل على المواقف السياسية".