بقلم مايكل نايتس:
زميل أقدم في معهد واشنطن، وقد عمل في القضايا التي تنطوي عليها العلاقات الاستراتيجية للولايات المتحدة والعراق وإقليم كوردستان منذ عام 2003.
شفق نيوز/ للمرة الثانية في ست سنوات، يتعرض إقليم كوردستان العراق، لخطر انهيار اقتصادي بسبب مزيج قاتل من انخفاض أسعار النفط، وتفشي وباء الكورونا، وإصلاحات اقتصادية غير مكتملة، ونقص الاحتياطيات السيادية.
ففي النصف الثاني من عام 2014، أدى انخفاض أسعار النفط إلى النصف من 110 دولارات للبرميل إلى 60 دولاراً، إلى أن يجثو إقليم كوردستان العراق على ركبتيه، مما أرغمه على تنفيذ استقطاع جزئي من رواتب موظفي قطاعه العام لمدة أربع سنوات إلى أن تعافى الوضع المالي للإقليم وانتعشت الأسعار العالمية بما فيه الكفاية.
وحالياً، انخفضت الأسعار مجدداً إلى النصف من نحو 60 دولاراً للبرميل إلى أقل من 30 دولاراً، في حين تسبّب فيروس كورونا بوقف الدخل غير النفطي لإقليم كوردستان العراق الذي كان ينمو بسرعة سابقاً، من الجمارك والرسوم والضرائب. والأسوأ من ذلك، قد لا يمكن عكس الانهيار الاقتصادي هذه المرة إذا فشلت حكومة الإقليم في اتخاذ القرارات الصحيحة بسرعة، وإذا فشل المجتمع الدولي في تقديم الدعم قريباً. وتتمتع الولايات المتحدة بدور حاسم تستطيع القيام به على كلا الجبهتين.
كحكومة إقليمية شبه مستقلة داخل العراق، يعتمد إقليم كوردستان العراق على مصدرين للتمويل. الأول هو دخله الخاص، من صادرات النفط بشكل رئيس، التي تشمل نحو 320،000 برميل يومياً تديرها بشكل مشترك شركات نفط من الإقليم وأخرى دولية، بالإضافة إلى نحو 170،000 برميل يومياً يديرها الإقليم نفسه. أما المصدر الثاني، فهو ترتيب تقاسم العائدات السنوية مع حكومة العراق الاتحادية، والتي تختلف سنوياً في التطبيق الدقيق وتعتمد على السلامة المالية لبغداد.
وفي أواخر عام 2019، كان اقتصاد الإقليم يقدم أداء جيداً إلى حد ما في ظل مناهزة سعر برميل خام "برنت" حوالي 64 دولاراً للبرميل. وقد بلغ إجمالي التكاليف التشغيلية والتزامات خدمة الدَيْن حوالي 1.2 مليار دولار شهرياً، ولكن تم الوفاء بها من خلال مزيج من الدخل من مبيعات النفط المستقلة (حوالي 700 مليون دولار)، والتحويلات من بغداد (328 مليون دولار)، والدخل غير النفطي (261 مليون دولار). وبموجب ترتيب جديد بين بغداد وإقليم كوردستان العراق، من المتوقع أن يحصل الكورد هذا العام على دخل أكبر (يصل إلى 1.44 مليار دولار تحت أسعار النفط المرتفعة في أواخر عام 2019) حتى بعد نقل 250 ألف برميل من إنتاجهم إلى بغداد.
لكن الأزمات الحالية قضت على هذه الصورة الواعدة. فعلى الرغم من انخفاض الميزانية التشغيلية الشهرية بحوالي 950 مليون دولار، إلا أن إيرادات الإقليم لا تولّد سوى حوالي 648 مليون دولار، وتشمل هذه التحويلات الفيدرالية (328 مليون دولار)، والمبيعات المستقلة (270 مليون دولار)، والدخل غير النفطي (50 مليون دولار). إن العجز الشهري الناتج الذي قدره 300 مليون دولار يحفّز قادة إقليم كوردستان العراق على التفكير في تقليص المدفوعات للمستثمرين الدوليين (والتي يبلغ مجموعها حوالي 270 مليون دولار شهرياً) كبديل لتخفيضات الرواتب واسعة النطاق التي استُخدمت لموازنة الميزانية في الفترة 2015-2019.
في ظل الأزمة المالية، تميل الحكومات إلى اعتبار المستثمرين الدوليين هدفاً سهلاً، لأن أصولهم عالقة ويفتقرون إلى السلطة السياسية التي يتمتع بها السكان المحليون. غير أن ثقة المستثمرين بكوردستان متدنية بالفعل بسبب سلسلة من الأزمات السابقة، وهي هجمات تنظيم داعش عام 2014، ونقص المدفوعات في الفترة 2014-2015، والاستفتاء على الاستقلال الذي لم يؤت ثماره عام 2017. وحتى قبل حالة الطوارئ الحالية، كان إقليم كوردستان العراق قد بدأ يتخلف عن تسديد دفعات مستحقة للمستثمرين في أواخر عام 2019 بسبب تجميد احتياطياته المالية في "بنك البحر المتوسط" الذي يواجه مشكلات في لبنان - وهي إشارة تحذيرية خطيرة لأن العديد من المستثمرين ملزمين بموجب القانون بالإعلان عن عدم الدفع، ويمكن أن يعاني جميعهم من تخفيضات كبيرة في سعر الأسهم وسحب التمويل.
وخلال العام الماضي، وفّر قطاع النفط الذي تُشغّله شركات دولية لإقليم كوردستان نصف عائداته الشهرية (حوالي 500 مليون دولار)، أو 6 مليارات دولار سنوياً، مما جعله الصناعة الوحيدة في المنطقة على المستوى العالمي. وفي 19 شباط، أبلغ وزير الطاقة الأمريكي دان برويليت رئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني أن قطاع النفط "معجزة"، وأشار إلى أن "الكورد محاطون باليابسة، في وسط قارة، ومع ذلك تفُوقْ كميات النفط التي يصدرونها اليوم صادرات ليبيا". وعزا هذا التقدم إلى "العمل الجيد" و"القيادة" اللذين يوفّرهما بارزاني، لكن المعجزة أصبحت في خطر تدمير الذات بعد بضعة أسابيع فقط من ذلك التصريح.
وللاستجابة لما يحصل، على إقليم كوردستان العراق أن يعيد اعتماد المقاربة التي اتُبعت بعد انهيار أسعار النفط عام 2014، والتي كانت تقوم على المضي قدماً في الإصلاحات الاقتصادية وسط طمأنة المستثمرين في الوقت نفسه بأن الإقليم شريك موثوق. وواجهت الإدارة الكوردية السابقة خياراً صعباً مماثلاً، وهو: مطالبة الناس بتحمّل تخفيضات الميزانية فيما كانوا يحاربون تنظيم داعش. لكن هذا بالضبط ما فعله إقليم كوردستان العراق، وكان رد فعل الناس رائعاً. ونتيجة لذلك، عندما جاءت الأزمة التالية - خلال استفتاء عام 2017 وتداعياته اللاحقة - بقي المستثمرون في المنطقة وكانوا راغبين في تعزيز صادراتها من النفط، حتى مع فقدان 220 ألف برميل يومياً بسبب سيطرة الحكومة الفيدرالية على كركوك. ومن خلال إدارة أزمة 2014-2015 بشكل صحيح، وضع قادة الإقليم الأسس للصمود عند مواجهة الأزمة المقبلة والخروج منها بصورة أقوى.
من المحتمل أن إقليم كوردستان العراق يملك الاقتصاد الأكثر ضعفاً في الشرق الأوسط - حيث لا يتمتع بالنفاذ إلى أي من احتياطيات العراق السيادية البالغة 60 مليار دولار، وهو مثقل بالديون التي قد تتجاوز 10 مليارات دولار (أو حوالي 70 في المئة من "الناتج المحلي الإجمالي" السنوي لكوردستان)، كما أنه غير قادر على التفاوض على القروض السيادية أو حزم المساعدة. فضلاً عن ذلك، إنه أحد أقوى أصدقاء أمريكا في المنطقة، بعد أن وُلد تحت حماية الدوريات الجوية الأمريكية وتم إدراجه في الدستور العراقي بدعم أمريكي كبير. وبناءً على ذلك، يجب على واشنطن اتخاذ الخطوات الفعالة وغير المكلفة التالية لضمان صمود الإقليم اقتصادياً ويتوجب:
اولاً، ضمان مساهمة بغداد في العائدات في عام 2020. حين تحوم أسعار النفط حول 30 دولاراً تقريباً، لا يمكن لإقليم كوردستان العراق تغطية تكاليفه بواسطة عمليات بيع مستقلة، ويعود السبب جزئياً إلى خصم إضافي قدره 11 دولاراً للبرميل يجب أن يتحمله عن تكاليف رسوم خطوط الأنابيب وخصومات التجار. وفي الموازاة، لم تمرر الحكومة المركزية حتى الآن ميزانيتها لعام 2020 لأنها تنتظر تعيين رئيس وزراء جديد، بحلول 16 نيسان.
ومن أجل تجنيب الكورد ضربة مزدوجة محتملة، على المسؤولين الأمريكيين تشجيع بغداد بقوة على الاستمرار في تزويد إقليم كوردستان العراق بالحصة الشهرية الحالية البالغة 328 مليون دولار المستحقة لميزانية 2019 (التي يتم إعادة استخدامها هذا العام على أساس تناسبي إلى أن تتم الموافقة على الميزانية الجديدة). وحالما يتم إقرار الميزانية، على واشنطن الاستفادة من نفوذها الخاص ونفوذ المؤسسات المالية الدولية لضمان عدم تعرّض الكورد لعقوبات غير عادلة - وعلى وجه التحديد، يحتاجون إلى ما لا يقل عن 700 مليون دولار شهرياً من بغداد للتعويض عن دخلهم النفطي وغير النفطي المتضائل. يجب على المسؤولين الأمريكيين التأكد أيضاً من حصول الإقليم على حصته العادلة من أي حزم مساعدات اقتصادية أو مخصصة لمواجهة فيروس كورونا الممنوحة من "البنك الدولي" أو غيره من المؤسسات إلى العراق.
وثانياً، ضمان قيام إقليم كوردستان العراق بدفع المستحقات للمستثمرين. عملت وزارة الطاقة الأمريكية بجد لدعم الإقليم من خلال توفير التأييد والتمويل بالأسهم لمشاريع البنية التحتية في قطاعيْ النفط والغاز، غير أن هذه العلاقة ستتدهور إذا توقف الأكراد عن دفع المستحقات للمستثمرين. على الوزارة الأمريكية إبلاغ المسؤولين في الإقليم على الفور بأن خطتهم الحالية - أي تأجيل دفعات أربعة أشهر متأخرة لمدة تسعة أشهر أخرى على الأقل - ستقضي على ما تبقى من ثقة المستثمرين. وعوضاً عن ذلك، يتعين على قيادة إقليم كوردستان العراق عقد اجتماع مع المستثمرين عبر الهاتف عن بُعد، وعلى الفور للتفاوض على اتفاق لإرجاء الدفعات بالتراضي، بدلاً من تقديم قرض مفروض إلى الإقليم خاص بقطاع الطاقة. إن التحرك سريعاً أمر أساسي؛ فانهيار مستثمر واحد فقط سيؤدي إلى إخافة الآخرين.
وثالثا المساعدة على استبدال الديزل المستورد بالغاز الكوردي. إن وزارة الطاقة الأمريكية في وضع جيّد يخوّلها دعم خطط إقليم كوردستان العراق الرامية إلى توسيع نظامها لتوزيع الغاز الطبيعي ليشمل محطات الطاقة التي لا تزال تعمل على الديزل المستورد الباهظ الثمن. ومن شأن هذه الخطوة وحدها أن توفّر للكورد عشرات الملايين من الدولارات شهرياً وتزيد توافر الكهرباء بمقدار 750 ميغاواط بتكلفة قليلة. ويمكن للأنبوب نفسه تصدير الغاز إلى تركيا في المستقبل.
ورابعا، شراء النفط الكوردي. يقوم احتياطي البترول الاستراتيجي الأمريكي بشراء النفط بأسعار منخفضة حالياً، وفي حين تأتي معظم هذه المشتريات من منتجين أمريكيين، إلا أن هناك مجالاً لشراء بعضها من الخارج. على سبيل المثال، يمكن لواشنطن شراء بعض الخام الكردي كشكل من أشكال القروض الميسّرة في هذه الأوقات الحرجة.
وخامسا، دعم "البيشمركة". تقدّم الولايات المتحدة حالياً 17 مليون دولار شهرياً إلى قوات الأمن في إقليم كوردستان العراق التي تحارب كلاً من تنظيم داعش وفيروس كورونا. غير أن هذه المساعدة انخفضت من 23 مليون دولار في العام الماضي ومن المزمع أن تتوقف كلياً في نيسان. وبدلاً من ذلك، على واشنطن الإبقاء على المساعدة طالما دعت الحاجة إليها وزيادتها من جديد إلى مستوى عام 2019.
وسادسا، طمأنة بارزاني وتوجيه دفة إصلاحات. إن رئيس وزراء إقليم كوردستان العراق ملتزم بإجراء إصلاحات اقتصادية، ولكن الحكومة السابقة قوّضت هذا الجهد منذ البداية على نحو مثير للجدل من خلال تخفيفها القيود على تخفيضات الرواتب في نهاية فترة ولايتها، مما يكبد الحكومة الجديدة تكاليف شهرية تناهز قيمتها 200 مليون دولار.
إن تعامل بارزاني الفعال مع فيروس كورونا يسلط الضوء على قدرته القوية كمصلح اقتصادي، كما أن الحاجة إلى خفض الرواتب والمخصصات تمثّل اختباره الأول. يتعين على الحكومة الأمريكية الترحيب بهذه الجهود بحرارة، والضغط على الجهات الفاعلة الكوردية الأخرى في السليمانية وأربيل ودهوك لتدعم علانية جميع تدابير التقشف التي أمر بها بارزاني بدلاً من استغلال الوضع لتحقيق مكاسب سياسية قصيرة النظر.
وسيكون لكل هذه المساعدة فائدة إضافية مهمة، وهي: زيادة النفوذ الأمريكي في وقت لا ترغب فيه قيادة إقليم كوردستان العراق بدعم رئيس وزراء الحكومة الاتحادية المعيّن عدنان الزرفي. ومن شأن الالتزام الكردي بدعم الزرفي أن يساعد العراق إلى حدّ كبير - ويساعد إقليم كوردستان على الصمود، لأن رئيس الوزراء الجديد سيكون له دور أساسي في إقرار الميزانية المقبلة. وإذا ما فشلت هذه المقاربة وتضاءلت المشاركة في العائدات، فلن يكون أمام واشنطن الكثير مما يمكن أن تفعله لمساعدة اقتصاد إقليم كوردستان العراق.