شفق نيوز/ ليست صدفة ان يقوم رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في أحد أول قراراته، وفي الاجتماع الاول لحكومته في التاسع من ايار/مايو الجاري، باعادة الفريق عبدالوهاب الساعدي الى جهاز مكافحة الارهاب وترقيته لمنصب رئيس الجهاز، ويتضمن البيان الرسمي تعبير "اعادة البطل" الى الجهاز.
يدرك الكاظمي التراكم الايجابي الذي صنعه الفريق الساعدي في اذهان العراقيين عموما ومؤسسات الدولة، وخصوصا المؤسسة الامنية، والتي ساهم بفعالية في حمايتها في وجه خطر داعش، وهو المنسوبة اليه قيادة معارك حاسمة مع التنظيم الارهابي من بيجي، الى المعركة الثانية لتكريت، الى المعركة الثالثة للفلوجة ومعركة الموصل التي بانتهائها، ضرب تنظيم داعش في الصميم. ألم يعلن ابوبكر البغدادي "دولته" المزعومة من جامع الموصل؟
ولا يتعلق الامر هنا باحداث صدمة ايجابية في الشارع العراقي من جانب الكاظمي الذي تسلم للتو مقاليد رئاسة الحكومة، فحسب، اذ من الطبيعي ان هناك العديد من الضباط من اصحاب الكفاءات والاخلاص ممن تشهد لهم المعارك القاسية التي خيضت في وجه عصابات داعش منذ العام 2013.
اذا لماذا الساعدي؟ هناك جانبان يمكن رصدهما وهما يساهمان في توضيح جوانب من شخصية عبد الوهاب الساعدي، الاول هو احقاق الحق، اذ من المعروف ان الساعدي سجل اعتراضه على قرار تنحيته المفاجئ في اواخر ايلول/سبتمبر 2019، ثم خضع لقرار القائد الاعلى للقوات المسلحة ومؤسسته العسكرية، وهذه نقطة تسجل ايضا لصالح رصيد الكاظمي الذي عاجل الى وضع الامور في نصابها الصحيح.
ويحمل الساعدي رصيدا شعبيا وعسكريا لافتا. ولهذا فقد كان استبعاده في ذلك التوقيت، وبالطريقة التي جرت بها، مساسا بمصداقية مؤسسات الدولة وجهاز الحكم في البلاد، في وقت أحوج ما يكون فيها العراق الى استعادة هيبة مؤسساته ودولته.
ولهذا، فانه مثلما كان الرجل المناسب في المكان المناسب في المعركة ضد الارهاب قبل سنوات، شكل الساعدي الان لحظة مناسبة ليكون في المكان المناسب، سواء بالنسبة الى تولي الكاظمي الحكم، او بالنسبة الى عودة فلول داعش الى النشاط الاجرامي مستغلا الفراغ الامني القائم في ما يسمى المناطق المتنازع عليها بين بغداد واقليم كوردستان.
اما الجانب الثاني حول سبب اختيار الساعدي دون سواه ليعود على رأس جهاز مكافحة الارهاب، فهو على الارجح ما اظهره من مرونة في التعامل مع "الحليفين – الخصمين" على ارض المعارك ضد داعش، والقصد هنا : ايران والولايات المتحدة.
لقد عرف عن الساعدي في خضم المعارك الدائرة، قدرته على ان يكون "جسر الوصل" بين الايرانيين والاميركيين، اذ برغم انهم كانوا يقاتلون داعش على ارض العراق، الا ان العلاقة لم تكن ودية غالب الاحيان بين قوات "الحشد الشعبي" المقربة من ايران، وبين الاميركيين.
لكن الساعدي، كان قادرا، بسبب مكانته العسكرية والثقة التي يتمتع بها، من لعب دور "تجسير الهوات" بين الطرفين لانجاح العمل الميداني وقتما كان يتطلب او يستوجب او يفرض حضور الاميركيين و"الحشد" في الوقت ذاته.
ولهذا، لم يكن غريبا ان ترى اتهامات سيقت بحقه، بانه "مقرب من الاميركيين" وفي المقابل اتهامات اخرى بانه "مقرب من الايرانيين". وعلى الرغم من ان دوره كان يحتم عليه ان يكون توفيقيا بينهم، الا ان قرار عزله المفاجئ من جانب حكومة عادل عبدالمهدي، عزز "التهمة" التي قيلت بحقه بانه "مقرب من الاميركيين".
علما بأنه مما يروى عن الساعدي انه خلال معركة تحرير الفلوجة من داعش، انتقد علانية الاداء الاميركي في المواجهة لتقاعسهم عن الاستجابة لدعواته بتدخل سلاح الجوي الاميركي لتوجيه ضربات جوية مهمة لانجاح المعركة. فعل شيئا مشابها في تعامله مع الايرانيين، اذ يقال انه كان بامرته عدد محدود من القوات في معركة تحرير بيجي، لكنه لم يقبل بتدخل الايرانيين في المواجهة وحسمها مع جنوده، كما أشار هو بنفسه في تصريح لوكالة "اسوشيتدبرس".
ومن المهم الاشارة الى انه لم يعرف عن الساعدي اهتمامه بالعمل السياسي او بالتقرب من السياسيين، بلا يعتقد انه سبق له ان رفض توصية بمنحه حقيبة وزارة الدفاع في عز انشغاله بالمعركة على الارهاب.
اذا، يجد الكاظمي في الساعدي الرجل المناسب في هذه اللحظة من تاريخ العراق. الكاظمي نفسه وحكومته، جاءت بتوافق ضمني واضح بين الاميركيين والايرانيين. يؤدي الساعدي في هذه اللحظة خدمة ضرورية للنهج الذي سيسير عليه رئيس الوزراء العراقي الجديد، في تحقيق التوازن في علاقته مع طهران وواشنطن.
يعزز الساعدي فريق الكاظمي في معالجة الملفات الحساسة. فالى جانب مكافحة الارهاب التي عادت لتصعد على راس أولوليات العراقيين مع تصاعد خطره، سيكون الفريق الساعدي حاضرا في لعبة التوازن التي ينشدها الكاظمي، ما بين حتمية العلاقة مع الايرانيين، وأثقال العلاقة مع واشنطن.
وفي الافق مسألتان مهمتان: مصير الحشد الشعبي بعد تزايد الاشارات على وجود خلافات ومنافسات داخلية حادة على القيادة والزعامة وطبيعة الدور الايراني في ظل وجود حضور المرجعية، وثانيا مستقبل الوجود العسكري الاميركي في العراق الذي سيكون في الغالب البند الأول في اجتماعات الحوار الاستراتيجي المزمع بين بغداد وواشنطن في شهر حزيران المقبل.
ومنذ اغتيال الاميركيين قاسم سليمان وابومهدي المهندس، تمر المصالح الاميركية – الايرانية بلحظات اختبار قاسية. يدرك الكاظمي ان العراق قد يدفع جزءا من ثمنها، وهو كان واضحا عندما دعا الطرفين مؤخرا الى تجنب تصفية حساباتهما على ارض العراق. الفريق الساعدي، يمكن ان يشكل مفتاحا مهما في هذه اللحظة، لوأد التوترات المحتملة، واخماد النيران التي يمكن تشتعل من خلال قناة التلاقي التي سيوفرها الساعدي من دون ان يتعرض للطعن السياسي من احد الفرقاء السياسيين في العراق، لانه ليس محسوبا على جهة سياسية محددة.
فقد عرف الساعدي بانفتاحه على الجميع. السيد مقتدى الصدر مثلا عبر عن غضبه من قرار اقالته المفاجئ في ايلول الماضي. العديد من الشخصيات السياسية الاخرى، انتقدت القرار وطلبت من حكومة عبدالمهدي، تقديم توضيحات. زعيم تيار "الحكمة الوطني" عمار الحكيم ايضا كان من بين منتقدي القرار اذ غرد قائلا "هكذا اجراء حينما يكون بديلا عن المكافأة والتقدير فانه يبعث رسالة مغلوطة ليس فقط عن اليات ادارة الملف الامني حسب بل عن ادارة الدولة بشكل عام".
اما في الشارع، فقد كان الاستياء اكثر وضوحا، اذ بعيد اقالته، نزل الاف الشبان يتظاهرون احتجاجا، واشتعل تويتر بهاشتاغ تضامني مع الساعدي.
يعتقد محللون ان اقالة الساعدي كانت شرارة أشعلت عوامل التفجير الاخرى التي دفعت العراقيين الى النزول الى التظاهر باعداد كبيرة بعد ايام على الاقالة الغامضة.
ولتعزيز مكانة الساعدي وجهاز مكافحة الارهاب، زار الكاظمي مقر الجهاز في بغداد، ليشدد على اهميته في "حماية الدولة وضرورة إبعاد جهاز مكافحة الارهاب عن التدخل السياسي".
وفي الواقع، قد تبرهن الايام الاتية على ان الساعدي سيكون لاعبا حيويا في رأب الصدع الاميركي – الايراني في العراق، بحكم خبرته في التعامل مع هذا الاحتقان بين الطرفين. ان نجاحه في لعب هذا الدور هو من ساهم – الى جانب عوامل اخرى مهمة - في جلب النصر الميداني على داعش. سيحتاج العراق في المرحلة الراهنة الى شخصية كالساعدي، لتنفيس التوترات بين طهران وواشنطن داخل العراق. وهذا ليس ترفا، اذ ان انفجارا بينهما الان، سيطيح بالتوازن الدقيق القائم بينهما في بغداد، وربما في منطقة الخليج عموما. ولا يظهر على ساحة المشهد العراقي، من يتمتع بالمكانة اللازمة للعب هذا الدور في المرحلة الراهنة. هذه هي نقاط قوة الساعدي.
يعتقد ان الساعدي يحتفظ ايضا بعلاقات طيبة مع القادة العسكريين في اقليم كوردستان، وهذه نقطة مهمة في المرحلة الراهنة بعدما صارت ملفات علاقات بغداد واربيل تحت ضغط الاستعجال لمعالجتها، خصوصا في الجانب الامني مع تزايد نشاط الارهابيين في المناطق المتنازع عليها. وجود الساعدي على رأس جهاز مكافحة الارهاب، يعزز بالتأكيد المعركة المشتركة ضد داعش، وهو تعاون تفرضه التحديات والجغرافيا والمصير المشترك.
من هو الساعدي؟
وبحسب معلومات وكالة شفق نيوز، فقد ولد الساعدي في مدينة الصدر في 1963. حصل على شهادة البكلوريوس في علوم الفيزياء ورتبة ملازم في الجيش من الكلية العسكرية العراقية، قبل أن يدرس في كلية الأركان العراقية التي تخرج منها في 1996، وتدرج في الرتب العسكرية الى حين نقله الى جهاز مكافحة الارهاب، واشرف على تخريج العديد من جنود وضباط الجهاز.
قاد عمليات تحرير عدة مناطق من سيطرة تنظيم داعش بينها بيجي، أكبر مصفاة نفط عراقية، والفلوجة، والموصل. وتحول الساعدي إلى بطل عسكري عراقي في بضعة سنوات، لتمكنه في مدة من الزمن برؤية عسكرية ناجحة، في القضاء على التنظيم الارهابي.
ولا يزال العراقيون يتذكرون تلك الطفلة، التي ظهرت في فيديو تقاسمه الكثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي تبحث عنه باكية في أحد أزقة الموصل، لتشكره على تخليص المدينة من قبضة تنظيم "الدولة الإسلامية". واحتضنها الساعدي بدفء كبير، وكان هذا المشهد للساعدي، العسكري والإنسان، محط إعجاب وتقدير من العراقيين.