شفق نيوز/ تظهر المعطيات على الارض أن الأزمة الأخيرة التي اندلعت من محافظة السليمانية، تحت شعار رواتب موظفي القطاع العام، ليست سوى انفجار لكافة أزمات اقليم كوردستان، دفعة واحدة، تحت شعار مطلبي معيشي.
عوامل الأزمة تتنوع من الخلاف السياسي الحاد حول الدستور والنظام السياسي في الإقليم شبه المستقل عملياً، وتمرّ بانعدام الثقة بين الأحزاب الرئيسة المنشغلة بالحرب مع تنظيم "داعش"، ليأتي ملف حزب العمال الكوردستاني التركي ويضيف إلى كل تلك العناوين العريضة، طابعاً متفجراً كانت شظاياه واضحة في أحداث السليمانية، في الأيام الثلاثة الماضية.
وتضع الاضطرابات التي فرضت نفسها بقوة على المشهد في إقليم كوردستان، أخيراً، والتي خلّفت قتلى وجرحى، الاستقرار النسبي والنمو الاقتصادي فيه على المحك.
فقد قام معلمو المدارس والموظفون الحكوميون في بلدات عدة تابعة لمحافظة السليمانية، وهي إحدى المحافظات الثلاث التي يتألف منها إقليم كوردستان، إلى جانب محافظتي أربيل ودهوك، بالإضراب عن العمل مطلع الشهر الجاري، بسبب تأخر الحكومة في صرف رواتبهم للأشهر الثلاثة الماضية.
وفي الوقت الذي كان أولئك الموظفون بانتظار إعلان حكومة الإقليم عن إجراءات وحلول لمشكلة الرواتب، ذهبت الأحزاب المشاركة في الحكومة إلى تعقيد الوضع أكثر، بالإعلان عن إخفاقها في التوصل إلى حل بخصوص تعديل قانون انتخابات رئاسة الإقليم ورسم سلطات رئيس الإقليم، لتبقى الأزمة السياسية مصدر تهديد لاستقرار الإقليم، وحتى لحركة السوق فيه، ولتبقى الأوضاع مفتوحة على جميع الاحتمالات، من بينها الاقتتال الداخلي.
وفي ظل هذه الصورة القاتمة، انفجر الشارع باحتجاجات غاضبة، لكن لم يكن المعلمون والموظفون ممن تأخرت رواتبهم عناصر فعالة في ذلك الحراك، بل كان الشبان والمراهقون هم من حركوا الوضع. لكن، بدلاً من أن يذهب المتظاهرون إلى المقرات الحكومية للاحتجاج أمامها لإجبار الحكومة على إيجاد حل للرواتب، فضلوا إضفاء بُعد سياسي واضح على الأزمة، عندما تعرضوا لما لا يقل عن 10 مقار تابعة للحزب الديمقراطي الكوردستاني وقاموا بحرق معظمها وتخريبها، كما قتلوا وأصابوا عناصر تابعين للحزب.
وسارع حزب الرئيس مسعود بارزاني إلى توجيه الاتهام لجهة محددة وهي "حركة التغيير" المعارضة، وهي ثاني الأحزاب تمثيلاً في البرلمان، وقال إن هناك أدلة بحوزته تثبت أن قادة في الحركة المذكورة "اندسوا" وسط المحتجين ووجهوهم نحو المقار الحزبية وطالبوا بحرقها.
وقال آري هرسين، عضو برلمان كوردستان ورئيس لجنة البيشمركة إن حركة التغيير وأحزابا أخرى مؤيدة لها لعبت دوراً محرضاً ضد حزبه.
وأضاف، في تدوينة على فيسبوك، "قامت تلك الاحزاب ببث مواد لعبت على العامل النفسي للشبان والصبية، وحرضتهم على استهداف الرئيس وحزبه وتحميله وحده مسؤولية أزمات الإقليم".
وليس العامل الداخلي هو الوحيد في تفجر الوضع في كوردستان، حيث هناك عوامل خارجية أيضاً، بعدما كشفت فيديوهات للاحتجاجات، إطلاق بعض المحتجين نداءات تمجد حزب العمال الكوردستاني، في إشارة لدور ما لأنصار الحزب في الأحداث، بحسب "العربي الجديد".
ويربط كثيرون، في حال ثبت تورط "العمال الكوردستاني" في الأحداث، بين العلاقة المضطربة التي تربطه بالحزب الديمقراطي من جهة، في مقابل العلاقة الجيدة بينه وبين حزب الاتحاد الوطني وحركة التغيير المنشقة عنه، من جهة ثانية
ويعود أصل هشاشة الوضع السياسي في إقليم كوردستان إلى كونه يحتكم إلى قوانين، لا إلى دستور يفصل في جميع القضايا كمرجع.
وقد نجح الحزبان الرئيسان في الإقليم وهما الحزب الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني في عام 2009 بتمرير مسودة دستور للإقليم في البرلمان تمهيداً لطرحها على الاستفتاء الشعبي، لكن الانشقاق الذي كان حصل في حزب الرئيس السابق جلال طالباني، ونشوء حركة التغيير من صفوفه، أدى إلى تعطيل الاستفتاء الدستوري، إذ وقفت الحركة التي نشأت حديثاً ضد مسودة الدستور وطالبت بإعادة كتابتها.
هذا الوضع السياسي الهش، فضلاً عن ظهور تهديدات "داعش" للإقليم، واندلاع الحرب معه، دفع بكل من حركة التغيير، وحزب الاتحاد الإسلامي، والجماعة الإسلامية، وهي كانت أحزاب المعارضة في الدورة البرلمانية السابقة، إلى استغلال الفرصة لممارسة الضغط على الحزب الديمقراطي الكوردستاني لتقديم تنازلات، بدأت باستحقاقات الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وقد تم ذلك بالفعل، فجرى تشكيل حكومة ائتلافية ذات قاعدة واسعة، وطرحت الاستحقاقات الانتخابية جانباً. ثم كان التنازل التالي بالمطالبة بإعادة كتابة مسودة الدستور من جديد، وقد تم تشكيل لجنة من 21 عضواً لإعادة كتابة الدستور، لكن الأحزاب الكوردية، بدلاً من حل الخلافات في مسودة الدستور، استبقت الأمور وراحت تعمل لتعديل النظام السياسي في الإقليم في البرلمان، وهو ما خلق الأزمة السياسية الحالية.
وتنادي أربعة من الأحزاب الخمسة الرئيسة في الإقليم، وتشغل بمجموعها 58 من أصل 111 مقعداً في البرلمان، بإخضاع رئيس الإقليم للمساءلة أمام البرلمان عند حصول الأزمات والإخفاقات، وبالحد من سلطاته الواسعة، وهو ما يرفضه الحزب الديمقراطي الكوردستاني الذي ينتمي له رئيس الإقليم ورئيس الحكومة نيجيرفان بارزاني أيضاً.
ويتضمن قانون الرئاسة النافذ حالياً في إقليم كوردستان، بنوداً تنص على انتخاب الرئيس من قبل الناخبين بصورة مباشرة، كما تمنحه سلطات سياسية وأمنية وتنفيذية أكبر بكثير من تلك التي يتمتع بها رئيس الجمهورية في بغداد، حيث الرئيس في الحالة الأولى حاكم فعلي، وفي بغداد منصبه شرفي رمزي.
ويحق للرئيس في إقليم كوردستان، قيادة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية باعتباره القائد الأعلى لها، كذلك يحق له الإشراف على عمل الحكومة والمصادقة على قوانين البرلمان أو تعطيلها، وإلغاء البرلمان وحل الحكومة في بعض الحالات، وتعتقد الأحزاب الأربعة المطالبة بإجراء تعديلات أن سلطات الرئيس الواسعة تجعل من البرلمان غير فاعل في أداء مهامه التشريعية والرقابية على الحكومة.
أما وجهة نظر الفريق الآخر، فتفيد بأنه لا يشترط أن يلجأ الرئيس إلى استخدام جميع سلطاته، بدليل أن الرئيس الحالي مسعود بارزاني، المستمر في الرئاسة منذ عام 2005، لم يقُم ولو لمرة واحدة بحل البرلمان أو الحكومة، كما لم يتخذ قرارات عسكرية وأمنية حساسة من دون مشاورة الأحزاب والبرلمان.
ويرى هذا الفريق أيضاً، أن الإقليم بحاجة إلى رئيس ذي سلطات حقيقية، على عكس ما هو حاصل في بغداد مع رئيس الجمهورية، الذي يعجز عن التدخل في الخلافات والأزمات بين أطراف البرلمان والحكومة
بدورها، أدت الأزمة الاقتصادية في الإقليم دوراً كبيراً في تفجر الأوضاع، وكانت الأزمة الاقتصادية قد ولدت في أعقاب توقف الحكومة العراقية، مطلع 2014، بقرار من رئيس الحكومة السابق نوري المالكي، عن صرف حصة الإقليم من الميزانية والبالغة 1.2 مليار دولار شهرياً، ورواتب الموظفين والمتقاعدين، وهي تقدر بـ730 مليون دولار شهرياً. وتسبب ذلك في الضرر المباشر بالنسبة لمعظم سكان الإقليم.
وتقدر إحصائيات رسمية عدد متقاضي الرواتب من حكومة الإقليم بمليون و430 الفاً، بينهم 682 ألفاً هم موظفون مدنيون لا يزالون في الخدمة، ونحو 180 ألفاً كعسكريين وأفراد المؤسسات الأمنية، و568 ألف متقاعد من الفئتين المدنية والعسكرية.
ويشكل أصحاب الرواتب نسبة 28.60 في المائة من مجموع سكان الإقليم البالغ عددهم نحو خمسة ملايين نسمة.
إلا الاوضاع على الارض سلكت منحى اخر في اشارة الى تعمق الازمة بعد ان قدمت حركة التغيير شكوى لدى ثلاث دول كبيرة والامم المتحدة من منع دخول رئيس البرلمان المنتمي لها وابلاغ وزرائها بالحكومة الاقليمية بمغادرة اربيل.
ومنعت السلطات الامنية بمدينة اربيل دخول رئيس برلمان كوردستان يوسف محمد، وذلك بعد ان اعلنت حركة التغيير ان المكتب السياسي للحزب الديمقراطي ابلغهم بمغادرة مسؤولي الحركة في الحكومة والبرلمان مدينة اربيل.
وقال رئيس البرلمان يوسف محمد في مؤتمر صحفي عقده بمكتب البرلمان بالسليمانية وحضرته شفق نيوز، "ماحدث هو انقلاب واضح على الشرعية التي يمثلها البرلمان الممثل للشعب".
وذكر بيان لحركة التغيير، أنها طالبت رؤساء دول امريكا وبريطانيا وفرنسا والامم المتحدة والبرلمان الاوربي بالتدخل.
وبينت "ان هذه الافعال منافية للديمقراطية، بل انها ضد القانون".
ودخل مؤخرا رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي على خط الازمة ودعا الاحزاب السياسية بحل المشكلة، وعدم اعطائها بعدا اخر.
واكبر مخاوف سكان اقليم كوردستان يتمحور حول سيناريوين، الاول يتمثل بظلال المعارك الداخلية التي اندلعت في تسعينيات القرن المنصرم، او تقسيم كوردستان الى ادارتين،- اربيل، والسليمانية، وهو ما كان معمولا بيه سابقا، إلا ان حجم الانقسام الحاد لا يمنع من تسيد منطق الحوار مجددا، وهو ما يروم له بعض السياسيين للحفاظ على تجربة كوردستان الحديثة.