شفق نيوز/ عملية مغادرة بناية الرحلات المغادرة في مطار بغداد كانت مثل الذي يمشي داخل الفرن، فقد وصلت درجات الحرارة حينها إلى أكثر من 50 درجة مئوية. لم أكن في بغداد منذ ثلاثة أعوام، فعندما غادرتها آخر مرة كنت اعتقد أن البلاد تسير في الاتجاه الصحيح.
ولكن الأمور اتخذت منعطفا خطيرا منذ حزيران العام الماضي- وهي في نفس الوقت ليست في الاتجاه الصحيح، فقد شرّد أكثر من ثلاثة ملايين شخص، والكثير منهم هرب خوفا على حياته. تم اختطاف الأطفال، واغتصاب الفتيات، وتعرضت عشرات الآلاف من المنازل للنهب او المصادرة.
لقد كانت ساعة الذروة حين كنا ننطلق باتجاه "المنطقة الدولية"، وهي منطقة محصنة تقع على مساحة 10 كيلومتر مربع حيث توجد مكاتب الأمم المتحدة. وعلى "طريق تشارلي" أو "طريق الموت"، كما كان يعرف خلال حرب العام 2003- اصطفت العشرات من السيارات العراقية عند نقطة التفتيش، حيث تحاول حمولتها البشرية الوصول إلى العمل.
بغداد
في الساعة 7 مساء، التقينا زميلنا علي في بغداد، حيث كان عائدا للتو من مخيمات المهجرين، وكان يتصبب عرقا حين أخبرنا عن البؤس الذي شهد قائلاً "لقد كانت الأيام القليلة الماضية جحيما مطلقا، لقد كان الناس يتوسلون لأجل الحصول على مياه الشرب". كان علي وزملائه يعملون على نقل المياه إلى المنطقة.
لقد كان علي من بين نحو 40 موظفا عراقيا يعملون مع اليونيسيف في بغداد لتقديم المساعدة للاطفال والعوائل المحتاجة. في كل صباح يقوم هؤلاء برحلة محفوفة بالمخاطر إلى مكان عملهم، وفي الأسبوع الماضي وحده، انفجرت قنبلتان في العاصمة، مما أسفر عن مقتل أكثر من 100 شخص. ووفقا لبعثة الأمم المتحدة في العراق، فقد كان شهر تموز من العام الحالي الأكثر دموية حتى الآن. وقال عمر وزميل آخر "علينا أن نغادر المنزل في الساعة الخامسة صباحا من كل يوم لتجنب الازدحامات المرورية والتفجيرات".
عودة على طريق المطار، فقد علقت لافتة ضخمة كتب عليها: "إرادة الشعب أقوى من الطغاة!" وبعد مرور أيام قليلة، حدثت احتجاجات واسعة في بغداد، حيث كان العراقيون يحتجون على نقص الكهرباء وسط ما نقل على أنها أقسى موجة حر منذ عقود.
أربيل
توجهنا شمالا إلى أربيل، في إقليم كوردستان الذي استقبل العام الماضي العدد الأكبر من الأسر الفارّة من العنف في مدينة الموصل ومناطق أخرى، حيث ترك العديد منهم أحبائهم خلفهم.
ويروي رامي البالغ من العمر 12 عاما كيف اختفى جده عندما هاجمت مجاميع مسلحة منزله في الحمدانية خارج الموصل. ويعيش رامي الآن في مخيم بحركه الذي يأوي 1,500 طفل.
وأثناء المشي داخل المخيم، لم يكن بوسعي سوى أن أفكر: "انتظر للحظة- لقد كنت هنا من قبل"، إلا أنني واقعا لم أكن. أدركت ما الذي يذكرني به هذا المخيم الموجود في العراق، إنه يذكرني بمخيم الزعتري للاجئين السوريين في الأردن، فأوجه التشابه موجودة في كل مكان حيث الجو المغبر والحرارة العالية والخيام التي تملأ المكان. ففي بلد مختلف يمر في صراع مختلف لسبب مختلف، تتشابه قصص البؤس الخاصة بالناس، وتبدو كأنها صرخات في فراغ لاتهدأ.
المستقبل
ينفق العراق 35 بالمئة من ميزانيته على الأمن، فيما يتضاءل هذا التمويل في المجال الإنساني. وفي هذه الزيارة، واصلت التفكير في الواجب الضخم الذي يقع على عاتق عمال الإغاثة، وحتى قبل بضعة سنوات من الآن، كان العراق قريبا جدا من تحقيق اهدافه الخاصة بالتنمية الألفية لاسيما حين يتعلق الأمر بالتحاق الأطفال في التعليم، الأمر الذي كان مثار اعجاب نظرا إلى أن العراق مر لأكثر من ثلاثة عقود في صراعات وعقوبات وركود اقتصادي، إلا أنه مثل اليمن وسوريا، يغرق اليوم في أعمال العنف والقتل والأسى، ويقف الأطفال في صميم هذه المعاناة.
هناك بضعة ارقام مخيفة تتواصل في الارتفاع وهي بمثابة تذكير للتحديات التي تقف أمامنا: يوجد 3 ملايين طفل خارج المدرسة في العراق، في حين يموت 35,000 طفل دون سن 5 سنوات في كل عام.
آمل أنه حين أعود مرة أخرى إلى العراق في غضون بضع سنوات، أن أجد كل واحد من هؤلاء الأطفال جالسا خلف رحلة في مدرسة جميلة، وأن جميع المواليد الجدد سينمون ليكونوا أطفالا أصحاء. وهنا اتساءل ما سيكون مصير رامي؟ هل سيستمر في العيش داخل مخيم؟ هل أنه سيخرج ويبني حياته؟ أو أنه ربما، مثل عدة آلاف، ينتهي الأمر به فاراً من العراق بصورة كاملة، ربما على متن قارب متهالك، وهو يفكر، يأمل، بغض النظر عن الرحلة، يجب أن تكون الحياة بالتأكيد أفضل حالاً في مكان آخر؟
جولييت توما: خبيرة الاتصالات والإعلام في مكتب اليونيسف الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ترجمة أحمد عبد الأمير