شفق نيوز/ في باحة منزله الجديد بحي الخضراء جنوب شرق تلعفر، يجلس القيادي في «الدولة الاسلامية» ابو عمر التركماني، ومن حوله زملاؤه «المهاجرون القوقاز» الذين يرتبطون بعلاقات وثيقة مع كبار قادة التنظيم المنتمين الى المدينة التركمانية، التي تعد واحدة من أبرز معاقل «داعش» ومركزاً مهماً لتجنيد المقاتلين وتدريبهم.
في ذلك الحي الشيعي، حتى قبل عام وثلاثة أشهر، والذي تحول الى حي «للمجاهدين» القادمين من تركيا وأذربيجان وتركمانستان وأوزبكستان وشمال القوقاز، يظهر المقاتلون وسط عوائلهم، وهم يخوضون في أمورهم المعيشية ويتبادلون الزيارات ويخططون لحياتهم الجديدة، بينها عائلة أبو عمر الذي قصد المدينة بعد أسابيع من سيطرة تنظيم الدولة عليها، واتخذ من بيت تاجر شيعي منزلاً له.
بدا الحي كما كل تلعفر، هادئاً تماماً أواخر شهر آب (أغسطس) 2015، على رغم الحديث الذي تناقلته مجالس وجهائها عن مقتل ابن مدينتهم سعود محسن حسن، الرجل الثاني في التنظيم، والمقدم السابق في الحرس الجمهوري العراقي، والذي عرف في اوساط الجماعات الإسلامية المتشددة بعد 2003 باسم «فاضل الحيالي» و «أبو معتز القريشي» و «الحاج معتز»، قبل ان يكنى في تنظيم الدولة بأبي مسلم التركماني، والذي يعتبره الكثير من التركمان قائد عمليات «تحرير» نينوى وتلعفر في حزيران (يونيو) 2014.
نائب أبي بكر البغدادي، الذي أعلن عن مقتله مرات عدة، وكان آخرها إعلان مجلس الأمن القومي الأميركي ذلك في 22 آب 2015 بعد غارة لطائرة من دون طيار قرب الموصل، والذي تأكد بعد أن نعاه المتحدث باسم التنظيم أبو محمد العدناني في تسجيل صوتي، لم يكن المجهز الرئيس للتنظيم بالأسلحة وأحد أبرز قادته العسكريين فحسب، كما عرف عنه، بل أيضاً صاحب القرار في نقل المقاتلين الأجانب بين سورية والعراق، وبينهم أبو عمر نفسه.
وينقل مقربون من ابي مسلم، الذي ظهر مراراً في تلعفر والموصل والفلوجة عقب سيطرة التنظيم عليها، ان الفضل يعود له ولعدد آخر من التركمان في التنظيم، في تجنيد نحو 800 مقاتل من المتحدثين باللغات التركية والذين وجد الكثير منهم طريقه الى تلعفر وسكنوا في أحيائها المتعددة وبينها حي الخضراء.
أحياء المجاهدين الأجانب
«هناك حياة جديدة تبرز في هذا الحي وبقية الأحياء الشيعية التي هجرها سكانها في الموصل. عشرات البيوت في المدينة التي ظل الشيعة والسنّة يتقاسمون أحياءها وأسواقها طوال عقود، أصبحت اليوم منازل للمجاهدين المتحدثين بالتركية بلهجاتها المختلفة. انها مدينتهم الجديدة»، يقول ابو سعد وهو يمسح بيدين مرتجفتين العرق الذي تشكل على جبهته السمراء.
تلعفر التي تعد مركز التركمان في العراق، شهدت خلال ساعات أكبر عملية تحول ديموغرافي في تاريخها الحديث، بعد أن هجرها نحو نصف سكانها الـ 250 الفاً واحتضنت مئات المقاتلين العرب والأجانب مع عائلاتهم، لتبرز في المدينة مسارات حياة جديدة لم تتضح معالمها بعد. حدث ذلك بعد أيام من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مدينة الموصل في 10 حزيران 2014.
يقول أبو سعد، وهو مدرس متقاعد، تجاوز السبعين من عمره «منذ اليوم الأول قرر التنظيم انهاء قرون من التعايش المذهبي في المدينة، فاعتقل كل شيعي لم يغادر المدينة، ودمر كل المساجد الشيعية (32 مسجداً ومزاراً بحسب مسؤولين في الوقف الشيعي)، ثم عمد الى تدمير المكتبات والمراكز الثقافية الشيعية، وألحقها بعمليات تدمير لمنازل الشخصيات السياسية والادارية والأمنية من الطائفتين، حتى القلعة التاريخية الشهيرة للمدينة لم تسلم من التدمير».
أبو سعد الذي آثر البقاء في المدينة معتقداً أن «غزوة داعش» لن تستمر غير اسابيع لتعود الحياة الى ما كانت عليه، يقول وهو يميل بوجهه نحو بقايا سور القلعة «لا نصدق ما حدث ويحدث، خلال ايام، نصف ابناء المدينة تركوها وصاروا مهجرين في بقاع الأرض، وحل محلهم مقاتلون قدموا من تركيا وأذربيجان والدول التي تتحدث التركية أو اللغات القريبة منها... هم باتوا قادة المدينة، إلى جانب القادمين من الموصل والعياضية (ناحية تتبع تلعفر إدارياً)».
تلعفريون في هرم القيادة
ساعدت العلاقات الواسعة للقياديين في «داعش»، ابا أنس التركماني وعبدالرحمن مصطفى قدو المعروف بأبي علاء العفري، واللذين كانا مُعتقَلين سابقين في سجن بوكا الذي اداره الأميركيون قبل رحيلهم من العراق، في تحويل تلعفر الى حاضنة «للمجاهدين المهاجرين» ومعقل بارز للتنظيم.
فمدرس الفيزياء في عهد حكم صدام حسين، علاء العفري، الذي اعتلى منبر المسجد العمري في تلعفر، وعرف بخطابه التحريضي، والذي اختفى بسبب ملاحقات أمنية في الفترة الأخيرة لحكم حزب البعث بالعراق، ظهر فجأة بعد نيسان (أبريل) 2003 كقيادي بارز في تنظيم «القاعدة»، ليصبح عاملاً فاعلاً في تحويل تلعفر الى مركز للمجاهدين.
العفري، الذي أعلن مراراً مقتله بين 2009 و 2015 من دون ان يؤكد التنظيم ذلك، كان له دور في الحرب الطائفية التي شهدتها المدينة بين عامي 2004 و2009 والتي أوقعت بحسب مصادر رسمية أكثر من ثلاثة آلاف قتيل وستة آلاف جريح من السكان.
وتطول قائمة أبناء المدينة ممن اعتلوا مناصب رفيعة في تنظيم الدولة، بينهم موفق مصطفى كرموش الذي يكنى بأبي صلاح، ويعرفه «مجاهدو» تلعفر كاحد المسؤولين الماليين البارزين، الى جانب بشار إسماعيل الحمداني المكنى بـ «أبي محمد» ويعرف بإدارته لملف السجناء، اضافة الى شوكت حازم فرحات ويكنى بـ «أبي عبد القادر» وهو اداري بارز في التنظيم، وعوف عبدالرحمن العفري ويكنى بـ «أبي سجى»، ويعرف بكونه مسؤولاً بارزاً عن الشؤون الاجتماعية في التنظيم.
أتراك واذربيجانيون وشيشان
يتناقل مسؤولون تركمان، أرقام متقاربة في شأن المقاتلين الأجانب الذين اسكنوا في تلعفر، ففيما تشير النائبة التركمانية نهلة الهبابي الى إسكان 300 عائلة تركية وشيشانية وأفغانية وأوروبية، يقول عضو الهيئة التنفيذية في الجبهة التركمانية نور الدين قبلان ان التنظيم أهدى 200 مسكن لعائلات عناصره القادمة من سورية، ومن بينها منزل «قبلان»، كما حولوا عشرات المنازل الى مقرات أمنية ومخازن للسلاح والمؤن.
القادمون من الموصل والعياضية في المجمل حصلوا على مناصب ادارية، اما الأجانب القادمون من وراء الحدود وبينهم أبو عمر، فحصلوا على مناصب أمنية تنفيذية الى جانب مناصب مالية «والفئتان منحتا بيوتاً في الاحياء الشيعية شرق تلعفر وجنوبها التي خلت من سكانها، كما حصلوا على الكثير من الغنائم في بداية الحرب حين استولى التنظيم على مناطق سنجار وسهل نينوى».
أبو عمر، واحد من قيادات التنظيم التي تعمل في الشرطة الإسلامية المعروفة بالحسبة، والمعنية بمحاسبة المخالفين لقوانين الدولة. الأمير الذي كان يتوسط المجلس بمنزله في أول أيام الأضحى، وهو يرتدي ملابس افغانية رمادية اللون، تحدث لمضيفيه بالتركية عن التكافل في الأعياد وعن أجر رعاية اليتيم، وعن الإصدارات الفيديوية الجديدة للدولة والتي تبرز «انجازاتها» الأمنية والخدمية.
غائبون بلا أثر
في كربلاء الى الجنوب من تلعفر وتبعد منها مسافة 600 كيلومتر، حيث حطت عائلة علي محمود، في مطلع تموز (يوليو) 2014. أغرورقت عينا علي، واختنقت الكلمات في حنجرته، وهو يتلقى تهاني العيد من جاره الكربلائي الذي سأله عن أخبار شقيقه المفقود.
قال علي «لا شيء جديداً... لا نعرف ان كان حياً او ميتاً، انه العيد الثالث الذي ننتظر فيه أي خبر عنه».
شقيق علي، واحد من مئات المفقودين في تلعفر، عقب سيطرة تنظيم الدولة عليها وتحويلها الى «سجن كبير لآلاف الايزيديين والشيعة وحتى السنة المتهمين بموالاة الحكومة العراقية»، ويقول الناشط الايزيدي جميل شنكالي «المدينة تحولت الى معتقل كبير، جدرانها تكتم مئات القصص عن عذابات السبايا الايزيديات، قصص مروعة عن البيع والشراء والاعتداء والتعذيب والقتل».
تذكر تقارير لمراكز دراسات ومنظمات مدنية، أن ما بين 300 الى 400 تركماني قُتلوا أو اختفوا أثناء وبُعيد سيطرة تنظيم «داعش» على تلعفر، وان بينهم اكثر من 60 امرأة و70 طفلاً. لكن المتحدث باسم الجبهة التركمانية علي مهدي، وبعد عام من سيطرة التنظيم على تلعفر، كشف عن وجود 800 فتاة وامرأة تركمانية محتجزة، ويضيف: «لدينا قوائم باسمائهن... هن أسيرات لدى داعش الذي يتاجر بهن».
إبادات جماعية
خيط الأمل الرفيع ببقاء المعتقلين المدنيين أحياء، يكاد يتقاطع تماماً مع الأخبار التي ظلت طوال أشهر ترد من تلعفر وتؤكد تنفيذ التنظيم للعديد من عمليات القتل المنفردة والجماعية بحق المدنيين الشيعة.
يقول أبو أسراء، وهو مواطن سنّي من تلعفر ما زال يقيم في المدينة «جرت عمليات قتل واسعة بعيد اقتحام المدينة، حدث كل شيء خلال دقائق في محاكم أدارها امراء التنظيم».
ويؤكد ابو اسراء الذي ابقى اتصالات سرية مع عدد صغير من أصدقائه الشيعة المقربين، على رغم ان ذلك يعد جريمة تؤدي بصاحبها الى القتل، ان حملات الإعدام في المدينة لم تتوقف أبداً وبعضها ينفذ علانيةً، وهي تطاول «السنّة الخائنين»، والشيعة الذين يشك بولائهم على رغم إعلان توبتهم، وكل من يحاول تهريب الايزيديات.
«نسمع ان فلاناً قتل، من دون أن يتجرأ أحد على السؤال عن السبب، التهم عادة تتعلق بكونهم عناصر أمن سابقين أو موظفين ومسؤولين بارزين مختبئين أو مواطنين متعاونين مع الحكومة، إلى جانب المتهمين بالخيانة والتجسس وإعطاء إحداثيات عن مواقع التنظيم، تجد بين المقتولين الشيعي والسنّي والايزيدي والكردي وأحياناً حتى غير العراقي».
وعن أساليب تنفيذ الاعدامات يقول ابو اسراء: «أشهرها رمي المتهمين وهم احياء في بئر «علو عنتر» شمال تلعفر، ويُقتل البعض بإطلاق النار عليه في ساحة خالية في «الحي العسكري» وأحياناً في باحة مرآب النقليات القديم، والبعض يقتل بقطع الرأس».
الاعدامات، ينفذها في الغالب ملثمون لا يمكن عامة الناس معرفة هوياتهم وجنسياتهم، لكن في بعض عمليات المعاقبة بالجلد يكشف المنفذون عن وجوههم بينهم تركمان من سكان المدينة، يضيف ابو اسراء «اعرف بعضهم شخصياً، بينهم من يؤمنون بأن ما يقومون به هو تطبيق لحكم الله، وآخرون هم مجرد مجرمين وأصحاب مصالح».
صناعة الرعب، التي يجيدها التنظيم، يعتبرها الباحث الاجتماعي كاظم سليمان، سلاحه الأكبر الى جانب قدرته على التحشيد الطائفي «الخوف هو الذي يحكم ولايات الدولة، لا شيء غيره، هم يبثونه كل يوم وبمختلف السبل، بينها شرطة الحسبة».
يجوب أبو عمر مع رفاقه، الذين يتجنبون في العموم ذكر الدول التي أتوا منها وماضيهم «الجهادي»، كل يوم الأسواق والأحياء السكنية بسيارات شرطة الحسبة او على دراجة نارية، لمراقبة «تطبيق حدود الشرع، ومنع المنكرات الظاهرة» وتسليم المخالفين الى القضاة الشرعيين في الدولة الذين يصدرون احكام تتباين بين الجلد والسجن وقطع اليد والقتل.
دولة الخوف
ينقل محمد خليل، جانباً آخر من الحياة في المدينة «دواوين الدولة تفتح أبوابها في شكل طبيعي، الجهات الخدمية تعمل بانتظام، وأي غياب عن العمل او تلكؤ فيه يواجه بقسوة. الخدمات أفضل مما كانت عليه قبل عامين، العديد من الشوارع تم تعبيدها، هناك حدائق أنجزت، والأزقة أصبحت أنظف. والمواطنون اعفوا من أجور الماء والكهرباء».
يصف خليل واقع التيار الكهربائي والوقود بالجيد. يقول: «المولدات الأهلية تعمل عند انقطاع الكهرباء، والماء وضعه أفضل مما كان عليه قبل حكم الدولة». لكن أسعار البنزين والغاز تعادل ضعفي أسعارها في العراق.
عبدالقادر، وهو مدرس متقاعد، ينفي ما يتردد عن توقف الدراسة. يقول: «في العام الدراسي المنصرم التزم الطلاب بالدوام، وتم تدريس المناهج القديمة ذاتها بعد إلغاء بعض موادها، لكن المناهج الجديدة طبعت وستدرس في العام الجديد، الطالبات يداومن بانتظام كما سائر الفتيات بالخِمار».
الأمر نفسه تؤكده وفاء، وهي طالبة في المرحلة الإعدادية «داومنا كالأعوام السابقة، إلا أن التنظيم أناب مسؤولاً عنه في كل مدرسة يشرف على أداء الكادر التدريسي والتزام الطالبات بالحجاب والخمار».
وتلفت وفاء الى ان أزياء الناس تغيرت تماماً «الكثير من الرجال بخاصة الموظفين باتوا يلبسون الزي الأفغاني. كبار السن ما زالوا يرتدون الزي العربي. وبعض الشباب كما صغار السن يرتدون الملابس المدنية بشرط ان لا تكون ضيقة، والنساء يرتدين العباءات التي تخفي كامل الجسد مع الخمار... الجميع تعودوا على ملابسهم».
الرضا المعلن عن الخدمات والتعليم، لا يمتد الى القطاع الصحي فالكثير من الأدوية والمستلزمات الطبية لا تتوافر للمواطن «إلا بعد وساطات مع مسؤولي داعش الذين يستحوذون على معظم الأدوية لمعالجة مقاتليهم» وهناك نقص كبير في عدد الأطباء وفي شكل خاص ذوي الاختصاصات.
تقول وفاء «أعرف ذلك لأن والدي مريض بالقلب، نحن نخشى دائماً ان تتدهور حالته ويحتاج الى فحوصات او تدخل جراحي، حينها ستكون حياته مهددة حتى لو فكرنا بنقله الى الموصل».
جهاد النكاح
ينكر جميل سعيد، الذي كان يسكن في حي القادسية، كل ما يتردد من روايات في شأن جهاد النكاح «سمعنا عنه الكثير في وسائل الاعلام، لكن لم يدق علينا أحد الباب، ولم يُطلب من اي عائلة تعداد عدد بناتها، ولم نلمس يوماً شيئاً من كل ذلك (...) إذا كان جهاد النكاح موجوداً في مكان ما، ففي تلعفر لا وجود له، الكثير من المقاتلين الأجانب وفدوا مع زوجاتهم وأولادهم «البعض من غير المتزوجين تزوج من مسلمات او اتخذ من ايزيدية زوجة له».
سعيد يؤكد ان مقاتلي التنظيم من الوافدين العرب والاجانب «يعيشون حياة طبيعية، المقاتلون منهم يتلقون مبالغ شهرية تتجاوز 300 دولار وإعانات غذائية ولديهم إجازات دورية، اختلاطهم مع بقية العائلات محدود، لكن منهم من بدأ يقيم علاقات مع سكان تلعفر الاصليين».
معسكرات الأشبال
احمد، الذي يملك اراضي زراعية بمحيط تلعفر، كشف بحكم علاقاته، عن وجود ثلاثة معسكرات على الأقل بمناطق مختلفة «مخصصة لتأهيل وتدريب الفتيان الشيعة والايزيديين ممن أجبرهم التنظيم على ترك دينهم او مذهبهم والالتحاق به، على خوض المعارك والعمليات الانتحارية، وهناك معسكرات أخرى خاصة بشباب تلعفر وبالمهاجرين (الأتراك والآذريين والقوقازيين) ممن قدِموا من خارج العراق وانضموا الى التنظيم».
يؤكد معلومات احمد، شقيقه كريم، لكن الاثنين لا يملكان معلومات عن مصير الايزيديات «لا نعرف شيئاً، نسمع ان العديد منهن أسلمن ويعشن حياة طبيعية».
ويضيف كريم «سمعنا في الأشهر الأولى الكثير عنهن، فقد وزعوا في بيوت ومقرات داخل المدينة، لكن في الأشهر الأخيرة ومع محاولات فرار بعضهن ومعاقبة بعض أهالي المدينة على ذلك، انقطعت اخبارهن، جرى نقل البعض الى سورية، ولا يمكن اليوم لعامة الناس رؤيتهن، ولا احد يجرؤ على السؤال عنهن، لكن بعض امراء «داعش» في مجالسهم الخاصة يتحدثون عن احتجازهن في مواقع أمنية، كما ان هناك تركمانيات محتجزات».
الغنائم ورواتب بغداد
لا تختلف الحياة الاقتصادية في تلعفر كثيراً، عن ما هي عليه في المناطق الخاضعة لحكومة بغداد، كما يؤكد العديد من الشهود.
عبدالله همات، الذي يملك محلاً للمواد الغذائية في سوق القلعة يقول: «الحديث عن ندرة المواد الغذائية والارتفاع الكبير في الأسعار أو انعدام بعض المواد غير صحيح، أسعار الخضروات عموماً هي أقل، والمواد الغذائية من زيت ودقيق ورز سعرها أعلى بقليل». ويكمل «الدولة الاسلامية توزع بين الحين والآخر مساعدات غذائية على عوائل المقاتلين».
وفي شأن العملات المتداولة وطرق التجارة يقول: «يمكنك ان تحصل على أي شيء، فالطرق مفتوحة الى سورية ومنها الى تركيا عبر الرقة وجرابلس، ولا تزال العملة العراقية هي السائدة، وفي سورية يتم استخدام الليرة السورية واحياناً التركية».
إلا ان حاتم طه، وهو راعي غنم وتاجر لحوم، يؤكد تراجع القوة الشرائية للمواطنين عموماً «في الأشهر الأولى لسيطرة داعش كانت الاوضاع ممتازة لوفرة الغنائم وتعدد مصادر التمويل، لكن في الفترة الأخيرة تراجعت القوة الشرائية ومعها الحركة الاقتصادية، قلة فقط يمكنهم شراء اللحوم رغم ان سعر الكيلوغرام لأفضل نوعية لا يتجاوز العشرة آلاف دينار».
ويشرح طه، أسباب التغيير الحاصل «الموظفون كانوا يستلمون رواتبهم من الحكومة العراقية حتى فترة قريبة، لكن معظم تلك الرواتب توقفت. مئات العائلات كانت تعتمد عليها في تأمين حاجاتها من الأغذية، أما بقية المستلزمات فهي رخيصة».
الترهيب والترغيب
على وقع الثنائية أعلاه، تستمر الحياة في المدن التي يحكمها أمراء الدولة.
يقول أبو حسن، الذي التزم بيته تاركاً عمله في بيع وايجار العقارات، ان التنظيم عزز من مقومات وجوده، عبر إقامة شبكة علاقات مع وجهاء العشائر على اساس المصالح والمشاركة في القرار والمغانم، وعبر تكثيف وسائل الترهيب بتنفيذه عمليات إعدام لمن يتهمون بالخيانة ومن خلال تنظيم استعراضات مسلحة يرتدي فيها المقاتلون الزي الأفغاني المرقط والأقنعة السوداء.
يضيف: «التنظيم لديه اليوم سجون سرية لا يعلم عامة الناس بها، لكنه يتخذ أيضاً من بعض المدارس والبنايات الفارغة سجوناً معروفة لدى الكثيرين كبناية كلية التمريض ومتوسطة زينب للبنات».
المجاهدون التركمان
رجاء، وهي عشرينية، من عائلة سنّية انضم العديد من أفرادها الى التنظيم حتى قبل سيطرته على تلعفر، تكشف جانباً من حياة المقاتلين «الكثير من الشباب التركمان انخرطوا في صفوف الدولة عن قناعة وبينهم شقيقي، هم مقتنعون أن حكم الدولة أفضل من سطوة حكومة بغداد الطائفية، واليوم تجد الكثير من أبناء تلعفر لهم دور في ادارة المدينة، وهم يشعرون بتميزهم».
رجاء التي قضى شقيقها في مواجهة مع البيشمركة بمنطقة زمار، ولم يتم استرداد جثته، أكدت ان الشباب ممن انتموا للدولة يستلمون شهرياً 120 دولاراً مع اعانات غذائية، فيما يستلم المقاتلون بالجبهات البعيدة من مناطقهم مبالغ اعلى.
سهلت علاقة عائلة رجاء، بالتنظيم عملية استحواذها على منزل «فخم» لأحد الضباط «الشيعة» وهي لا ترى اي مشكلة في ذلك وتقول: «كان مؤثثاً في شكل جيد فسكنا فيه، ووزعنا بعض محتوياته على معارفنا الفقراء... كل من لا يملك داراً يمكنه ان يأخذ ترخيصاً من الدولة ويسكن في بيت متروك».
لكن أياد، وهو شاب متزوج ولديه طفلان، عارض عائلته في الانتقال الى بيت مماثل استولى عليه شقيقه، ووافق في النهاية خوفاً من ان يتهم بالتعاطف مع الشيعة «نعم نحن عائلة فقيرة والبيت كان فارغاً، لكني اشك ان ما قمنا به أمر صائب. أخاف من المستقبل».
التورط بالقتل
جواد محمد، وهو شيعي من تلعفر يقيم في النجف، يرى ان غالبية سنة مدينته مغلوبون على أمرهم «نعرفهم جيداً، معظمهم يرفضون قتل اي انسان على اساس مذهبه او دينه، لكنّ هناك متشددين للاسف أصبح الأمر بيدهم، وهناك أصحاب مصالح، وهؤلاء يقتلون كل من يخالفهم».
محمد يرى ان عودة الشيعة الى تلعفر تزداد صعوبة كلما طال زمن استعادتها فالـ «المتورطون مع داعش تزداد اعدادهم مع مرور الوقت وتزداد جرائمهم».
ويبدي اقتناعه بأن هؤلاء يمثلون الخطر الأكبر «ربما القادمون من خارج الحدود يعودون حين يشعرون بأن بقاءهم أصبح مستحيلاً او مكلفاً، لكن المتورطين مع التنظيم ممن ارتكبوا جرائم لن يستسلموا، سيقاتلون بشراسة».
محمد لم يخفِ استياءه من طريقة ادارة الحرب ضد التنظيم «منذ عام، هناك 125 الف مشرد بين مدن الجنوب وكردستان، ينتظرون ساعة الخلاص، لكن كل ما يحدث هو قصف موقع او اثنين كل بضعة ايام أو اسابيع. استهدفوا مرتين مستشفى تلعفر ومرات دوائر خدمية. وهذا يثير غضب الناس».
نهاية الوجود الشيعي
النازح الى كربلاء علي عباس، يبدي الرؤية السوداوية ذاتها في شأن العودة «بمجرد رحيل داعش لن تعود الحياة... الحرب الطائفية ستشتعل مجدداً، فهناك جراح عميقة في كل بيت».
ومثل الكثير من النازحين الى جنوب العراق، حيث تختلف الثقافة واللغة، يجد عباس صعوبة في بناء حياة جديدة حيث يقيم، مع استمرار الحرب والفقر «حياتنا أمست جحيماً هنا. أبحث عن أي فرصة للهجرة خارج البلاد».
يشارك عباس «إحباطه واغترابه» النازح السنّي الى اربيل احمد التلعفري، مؤكداً ان محاولة استعادة الماضي تشبه محاولات التنظيم بناء حياة جديدة في مدينته: «لن يتحقق ذلك. سنحتاج الى سنوات لترميم النسيج الاجتماعي فالكثيرون يفكرون بالانتقام».
يقول التلعفري «حين تقف في اي حي شيعي وترى البيوت الخاوية مشرعة الأبواب وركام البنايات المهدمة والحسينيات التي سويت بالأرض، ستعرف ان الحياة لن تعود الى سابق عهدها، وستعرف ايضاً ان المجاهدين المهاجرين لا يمكن ان يحلوا محل سكان المدينة الراحلين».
لكن فاطمة حسين، وهي زوجة مقاتل شيعي، قتل بعملية انتحارية في مطلع حزيران الماضي خلال التحاقه بقوات الحشد الشعبي، تؤكد ان «حلم» العودة لمدينتها لا يفارقها «كنا نملك كل شيء، البيوت والعقارات والاراضي الزراعية. واليوم نحن نازحون نعيش على مساعدات الخيّرين».
تلعفر (نينوى) - عباس عبدالكريم
* أُنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج). إشراف سامان نوح.