شفق نيوز/ يمكن تعريف اللغة بأنها احدى وسائل التفاهم بين الناس، افراد او مجتمعات مختلفة مهما كانت خصائص لغاتهم. وقد عرفت ايضا بانها "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم".
يستحضر هذا التعريف للتذكير بأن اللغة برغم بساطة تعريفها، كانت من عناصر الخلاف بين العراقيين في ما مضى، الى ان جرى التفاهم على دستور جديد ونال باستفتاء شعبي 78% من الأصوات العام ٢٠٠٥، وأقر بأن اللغة العربية واللغة الكوردية هما اللغتان الرسميتان للعراق.
وشكلت هذه الخطوة انجازا تاريخيا بالنسبة الى العراقيين عموما والكورد خصوصا، لانها أقرت ضمنيا وببساطة اعترافا بلغة تواصل وتقارب بين الشعوب، لا أداة تفرقة وتشرذم وخلاف.
وفي هذه النقطة تحديدا، ليس العراق استثناء غريبا بأي شكل من الاشكال. فهناك الاف اللغات في العالم، ومئات اللغات الرسمية المعتمدة من قبل حكومات الدول المختلفة، كما ان دولا عديدة، تعتمد أكثر من لغة رسمية وفق دستورها، ولم يشكل ذلك عقبة أو أزمة في استمرارية مجتمعاتها وتطورها.
الا ان السؤال البديهي الذي يطرح نفسه بالنسبة الى العراق الذي يسير وفق عملية ديمقراطية جديدة منذ اعتماد الدستور الجديد، تعتمد الانتخابات وتبدل شخصيات الحكم عبر عمليات دستورية تتضمن صناديق الاقتراع وتصويت مجلس النواب: ماذا لو ان العملية السياسية أثمرت صعود شخصية كوردية الى رئاسة الجمهورية لا تتقن اللغة العربية بشكل قوي؟ في وقت لم يشهد التاريخ العراقي وجود رئيس او مسؤول بارز يجيد اللغة الكورية.
تولت شخصيات كوردية رئاسة العراق وفق توافقات سياسية، وهو جلال طالباني الذي كان يتقن العربية بسبب دراسته الثانوية في كركوك ثم في كلية الحقوق في بغداد، وبالتالي لم يشكل توليه موقع رئاسة الجمهورية وقتها، ما بين عامي 2005 و2014 اي اشكالية بالنسبة الى اي طرف، ولقد تولى من بعده الرئيسان فؤاد معصوم وبرهم صالح، وهما أيضا من القيادات السياسية الكوردية، ولم تشكل لغتهما الكوردية أو العربية، عائقا امام أدوارهما.
وبالتالي فان السؤال المطروح تحديدا يتعلق بمن لا يتحدث اللغة العربية بشكل كامل. والسؤال ليس افتراضيا بالكامل، اذ صار اسم رئيس اقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني يشكل طرحا جذابا ومحتملا لتولي موقع الرئاسة العراقية، نظرا لما يتمتع به من قدرة على الانفتاح و"تدوير الزوايا" مع مختلف الاطراف لا في اقليم كوردستان وحده، وانما في العراق عموما، من خلال تعزيز نقاط التفاهم بين المتخاصمين والمختلفين، ما يفتح أبواب الحوار والحلول المشتركة بينهم.
قلة من الشخصيات السياسية في العراق، قادرة على تأدية مثل هذه الادوار. ولهذا فان نيجيرفان بارزاني قد يكون في سدة رئاسية الجمهورية في زمن ليس ببعيد. وسيكون ذلك حدثا فريدا من نوعه في العراق، ذلك ان نيجيرفان بازراني لا يتقن اللغة العربية تماما. صحيح انه يفهمها بوضوح، لكنه لا يتكلمها بطلاقة ،فهل سيكون هناك من سيعتبر ان هذه الاشكالية – ان كان توصيفها كذلك صحيحا – قد لا تتيح لنيجيرفان بازراني اداء مهماته على أكمل وجه؟
فعمليات الانفال بحق عائلته والمواجهات المستمرة والنضال ضد النظام السابق تسببت بعرقلة اجادة نيجيرفان بارزاني العربية بطلاقة، لكن تلك الظروف مكنته من اتقان الفارسية والإنجليزية.
وقد قلنا ان اللغة هي اداة تقارب وتفاهم. فكيف يمكن ان تكون اللغة عائقا امام شخصية كنيجيرفان بارزاني الذي لم تمنعه لغته الكوردية من القيام بأدوار وعقد اتصالات ومفاوضات مع كبار المسؤولين الدوليين والاقليميين مهما كانت جنسياتهم ولغاتهم! لماذا اذا بهذا المعنى، يمكن ان يعتبر أحد ما ان عدم اتقانه اللغة العربية بشكل كامل، سيكون عائقا أمام مثل هذا الرجل الذي تميزه كفاءاته ومهارته في ادارة مسؤولياته، وليس لغاته؟
وبهذا السياق يقول الخبير القانوني العراقي طارق حرب، لوكالة شفق نيوز، ان "الشروط المقررة في الدستور العراقي، لإختيار رئيس جمهورية العراق، وهي العمر والخبرة والكفاءة والجنسية والاهلية، وليس من بينها اتقان اللغة العربية.
ويضيف “ليس هناك اي جنبة قانونية او دستورية، اذا كان رئيس الجمهورية العراقي، لا يتكلم اللغة العربية، فالدستور حدد شروط اختيار الرئيس بالجنسية والاهلية والكفاءة والخبرة وعمره".
مع إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية في العام 1958 نصت المادة الثالثة من الدستور المؤقت الصادر في عهد عبد الكريم قاسم على أن "العرب والكرد شركاء في الوطن". وبكل الأحوال، فان الدستور العراقي الجديد كان واضحا. فالعراق بلد متعدد القوميات والقومية الكوردية هي القومية الرئيسية الثانية الى جانب القومية العربية. كما ان هناك مكتسبات دستورية لا يمكن القفز فوقها، في الجوانب الثقافية والتعليمية. ففي المادة الرابعة من المبادئ الاساسية تأكيد على ان اللغة العربية واللغة الكوردية هما اللغتان الرسميتان للعراق.
وهذا يعني ان الجريدة الرسمية تصدر باللغتين. كما ان المخاطبة والتعبير في المجالات الرسمية كمجلس النواب، ومجلس الوزراء، والمحاكم، المؤتمرات الرسمية، يمكن ان تكون بأي من اللغتين. اما المراسلات والوثائق الرسمية، فمعترف بها باللغتين. كما ان المدارس تتيح تعلم اللغتين، وفي الاوراق النقدية وجوازات السفر والطوابع. بمعنى آخر، فان المؤسسات الاتحادية في العراق وفي اقليم كوردستان، تستعمل اللغتين العربية والكوردية.
اذا، دستوريا، يمكن لسياسي عراقي أن يكون متمكنا بلغة واحدة أو لغتين. اللغتان تكملان بعضها البعض، ولا تتعارضان، وبالتالي بديهيا بامكان اي مسؤول سياسي التقدم لادارة شؤون مهماته الرسمية مهما كانت اللغة التي يتقنها، سواء عربية أو كوردية.
وجدير بالذكر ان محاولات لحسم النقاش جرت سابقا في العراق. خلال عهد رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز في الستينيات، فبعد معركة هندرين جرت محادثات نتج عنها بيان 29 حزيران/ يونيو 1966 الذي اعترف للمرة الاولى بالطابع القومي الثنائي للعراق والذي مهد بشكل لاحق الى حصول الكورد على الحكم الذاتي في العراق.
بمعنى آخر، هناك جذور قديمة للبحث في مسألة ثنائية اللغة في العراق، وربما لم تكن تحتاج الى كل هذه السنوات من الجدل لتصل الى صيغة دستورية توضحها وتحسمها. ففي أماكن اخرى في العالم، لا يبدو الأمر كذلك. خذ مثلا، الامم المتحدة التي تقول على موقعها الالكتروني "يكتسي تعدد اللغات، بوصفه عنصرا اساسيا في الاتصال المتناسق بين الشعوب، أهمية خاصة جدا بالنسبة لمنظمة الأمم المتحدة. وهو إذ يشجع على التسامح، فإنه يكفل أيضا مشاركة فعالة ومتزايدة للجميع في سير عمل المنظمة، وكذلك فعالية أكبر ونتائج أفضل ومشاركة أكبر. وينبغي الحفاظ على تعدد اللغات وتشجيعه بإجراءات مختلفة داخل منظومة الأمم المتحدة، بروح الإشراك والاتصال".
ومعلوم ان الامم المتحدة تعتمد رسميا ست لغات في عملها، هي بالاضافة الى العربية، الصينية والانكليزية والفرنسية والروسية والإسبانية. ولم يشكل هذا التعدد اللغوي داخل أكبر منظومة دولية اي عائق في تواصل ممثلي اكثر من 200 دولة في العالم لديها الاف اللغات واللهجات المعروفة وغير المعروفة، خلال الاجتماعات الخاصة بالامم المتحدة، بما في ذلك اثناء انعقاد الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للامم المتحدة، طالما ان المشاركين استخدموا واحدة من اللغات الست المعتمدة.
اذا العراق ليس حالة يتيمة على مستوى العالم أمام تحدي الاعتماد الى أكثر من لغة رسمية على مستوى السلطة العليا، والامثلة الأخرى كثيرة.
خذ تشاد مثلا، فهذه الدولة الافريقية تعتمد العربية والفرنسية بشكل رسمي وبها أكثر من مئة لغة أفريقية. اما الجزائر فلغتها الرسمية هي العربية والأمازيغية، لكن الفرنسية معتمدة كثيرا في وسائل الإعلام، التعليم، والأعمال التجارية.
وفي افغانستان، لغتها الرسمية هي البشتوية وهي لغة قبائل البشتون التي تشكل غالبية في البلاد التي تتمتع ب49 لغة مسجلة بينها الدرية والاوزبكية والتركمانية. صحيح ان غالبية رؤسائها اتوا من جذور بشتونية، الا ان الرئيس الراحل برهان الدين رباني الذي تولى الرئاسة عدة مرات في مرحلة ما بعد الخروج السوفياتي من افغنستان، كان من العرقية الطاجيكية وهم بغالبيتهم يستخدمون اللغة الدرية الطاجيكية والفارسية.
هناك ما هو أكثر من ذلك. التمازج والتداخل العربي والكوردي في المنطقة كبير برغم خصوصية كل جانب، وهناك اسماء بارزة في تاريخ المنطقة، في السياسة والادب والعلوم والثقافة. وبرغم هذه الخصوصية لم يحل ذلك دون تولي شخصيات كوردية الرئاسة في الجمهورية السورية الحديثة، محمد على بيك العابد، حسني الزعيم، فوزي السلو وأديب الشيشكلي.
في سياق مواز، سويسرا مثال شديد الوضوح على تعدد اللغات لا يحول دون الوصول الى مناصب الرئاسة الاولى. فلغاتها الرسمية هي الايطالية والفرنسية والالمانية والرومانشية. كما ان اللغة السويسرية الوحيدة الموجودة هي الرومانشية التي يتحدث بها اقل من واحد في المئة من سكانها. هذه الميزة تمثل شكلا راقيا من التعايش وهي تعبير عن مصادر ابداع واتساع مدى الثقافة والفكر في هذه البلاد.
المهم هنا، ان السويسريين يطبقون منذ أكثر من 50 سنة، نظاما خاصا بهم في الحكم وادارة شؤون البلد، حيث تتقاسم الأحزاب السياسية الأربعة المهيمنة الحقائب الوزارية للحكومة، وينتخب النواب الرئيس والوزراء في الوقت نفسه. وبطبيعة الحال، بما ان النواب يتحدرون من مناطق اما تعتمد اللغة الايطالية او الالمانية او الفرنسية، في ظل عدم وجود لغة وطنية جامعة للكل، فانهم يختارون احيانا رؤساء او رؤساء حكومات، يتحدثون لغة رسمية من اللغات الثلاث، وليس بالضرورة من يتمتع بميزة استخدام اللغات الثلاث.
بمعنى آخر، فان التباين اللغوي، ليس عائقا. ان هذا التنوع اللغوي لم يمنع من تحول سويسرا الى احدى أكثر الاقتصادات والنظم السياسية استقرارا في العالم. ألا يستحق العراق ان يتعظ؟