نحن نعيش في عراق يمر بأزمة، أزمة اجتماعية وأزمة سياسية وأزمة في التعليم (المدرسي والجامعي على حد سواء)، والتي اعتبرها أُم الأزمات، انها ثاني قضية بعد الفساد، تشغل بال العراقي وتقض عليه مضجعه، إذ لم يعرف إلا التدهور منذ السبعينيات من القرن الماضي، وظل في منحنى تنازلي وتفاقمت مشاكله عبر توالي السنوات. والواقع يرينا إن الفساد لعب دوراً رئيساً في تدهور التعليم، وليكون عائقاً كبيراً أمام كل حل لهذه الأزمة، وليفاقم من مشكلة التعليم الحكومي والابنية وكفاءة التدريسي.
لقد بينت الأحداث بأن الاجراءات التي تقوم بها الدولة هي إجراءات فاشلة، والسبب في نظرنا يكمن في كونها إجراءات أحادية، بينما المشاكل، مشاكل بنيوية تستلزم حلولاً جماعية تتدخل فيها جميع الجامعات والمدارس والتربويين ويشارك فيها الخبراء الأجانب، كل من مكانه مع الانطلاق من تشخيص للواقع وتحليل للأخطاء السابقة وتشخيص لمواقع الفساد، فالاستعجال والارتجالية ليست حلاً صحيحاً لصناعة القرار، وليست فيها ضمانة لجودة ما ستنتجه.
يتميز مجتمعنا التعليمي بانعدام التجانس، وبسلسلة من الممارسات القسرية حيث تهيمن عليه علاقة سيطرة وخضوع، تنعكس غالباً على الطريقة التي تُقدم بها المعرفة (إبراهيم الحيدري، الحوار المتمدن 2016)، وبانعدام المساواة والعدالة، وبظهور شكل محلي يتمثل بفساد إداري تديره مراكز جديدة لصنع القرار، قوضت سلطة اتخاذ القرار لدى المدرس في المدرسة والجامعة، وأدت الى فقدان المواطنين للثقة في النظام التعليمي بسبب التصور بفساد القرارات العليا وانعدام تأثيرها على جودة التعليم.
عندما تُشرب أشكالاً متخلفة من المعرفة وانعدام التكافل جميع الجوانب الأساسية للمجتمع، أو عندما يتم اختراق هياكل المجتمع وعملياته لإعادة إنتاج نفسه من خلال عمليات تعتمد على معرفة ماضوية، فإن عمليات حشو الأدمغة بالتلقين تصبح أكثر ملائمة وأهمية من عمليات إنشاء المعلومات الجديدة، ويصبح التحدي الرئيس هو مقاومة، ونبذ المعرفة الوافدة والتيارات الإنسانية التي تعزز الكرامة والمساواة، واستخدام العقلانية التجريبية، في مقابل تكريس الاستجابة والخضوع، وتقبل الخرافة والتقاليد البالية بدون إعمال العقل في التمييز بين الغث والسمين، وبين الحقيقة والخرافة.
المدرسة والجامعة في مجتمع اليوم تُكسب الطالب "ثقافة سطحية"، وبالأحرى "ثقافة كارثية"، لأنهما يوليان أهمية أكبر للتلقين والحفظ كطريقة في التدريس، وتعتبر المدرس مصدر المعرفة، وتّغيب الطالب وأهميته في بناء التعلم، وتُهمل ما انتجته ميادين علم النفس، والاجتماع من بيدوغوجيات حديثة تجعل المتعلم محوراً لعملية التعليم والتعلم، وتركز على بنائه من حيث يعّلِّم نفسه بنفسه.
الحاجة إلى تعليم جديد
في البداية، كان التعليم والمُثُل العليا التي يجسدها، يطمح إلى خلق مواطنة "مثالية". في وقت لاحق، تحول هدف التعليم إلى ضمان ان يكرر الطلاب ما يريده النظام السياسي من مقولات عبثية ويجاهروا بما لا يقبله العقل، ومؤخراً تحول مرة أخرى إلى إيقاظ الروح الطائفية. اليوم، لم يعد المثل الأعلى هو الإبداع بمعنى القدرة على التعلم، والاستعداد مدى الحياة لمواجهة تحديات جديدة، وتغيير الاستجابات لغرض تحقيق اقصى درجات الاستفادة، فلا يمكن أن يكون هناك تعلم بدون إعادة التعلم، ومن دون المراجعة التي يجب إجراؤها عندما ندرك ضعف ما اعتقدنا أننا نعرفه سابقاً. لم يعد التعليم يفهم على إنه إعداد للحياة، وعنصر أساس في التقدم والتغيير الاجتماعي بل إنه أصبح عملية مجردة لإعداد مؤهلين لإشغال وظائف عن طريق الدراسة بالاستظهار، أي تلقين معرفة مجردة مطلقة ليس لها سوى علاقة واهية بتجارب الحياة اليومية، ومن دون أي اهتمام بفهم الموضوع، وبحيث لا يسمح بمجال للتساؤل او البحث او التجريب.
لا جدال حول رداءة التعليم الأولي في العراق والحقيقة إنه حتى الأطفال الذين أتموا المرحلة الابتدائية يفتقرون إلى المهارات الأساسية في القراءة والكتابة والرياضيات. العديد من المناهج لا تضع أهدافاً واضحة. إنها مثقلة بالمواد الدراسية، ولا تلبي الاحتياجات التعليمية لتلاميذ المدارس الابتدائية، وفي كثير من الأحيان، لا يتم إيلاء الاهتمام للعوامل الاجتماعية والظروف المعيشية للطلاب، كما تقدم العديد من المناهج الدراسية نماذج مشوهة أو نمطية للجندر. وغالباً ما تكون طرق التدريس قديمة، ونادراً ما يهتم بالعمل الجماعي، والتعلم المستقل، والفكر النقدي، وحل المشكلات، واستخدام التقنيات الحديثة، وتعليم المهارات الحياتية. ونتيجة لذلك، يفتقر الشباب إلى المعرفة والمهارات الأساسية التي ستساعدهم لاحقا في شق طريقهم الى الجامعة او في سوق العمل.
أما بالنسبة للتعليم الجامعي فهو في مأزق توفير الشهادات التي لا يحتاجها سوق العمل، وانعدام مهارات المستقبل الضرورية، لذلك نشهد جيلاً شاباً محبطاً بسبب عدم التوافق المزمن بين المهارات، وسوق العمل. إن عدم اكتساب الشباب للمهارات الأساسية والتدريب ذي الصلة الذي يحتاجونه لدخول عالم العمل بثقة أدى الى نزوع الخريجين الى الوساطات، وشراء الوظائف، ورضوخهم لتأثير القوى السياسية الفاسدة التي توفر لهم الوظائف بشروط مجحفة تمس باستقلاليتهم الذاتية، وتغذي فيهم الصفات السلبية في نبذ وكراهية الآخر، وتوّطن الغش والفساد في الشخصية. وفي ظل هذا المأزق يواجه نظام التعليم العالي بأكمله تدهوراً مؤسساتيا، ويبدو إن العوامل المسؤولة عن هذه الحالة المؤسفة للتعليم تجتمع مع الفساد في نقطة واحدة.
الفساد في التعليم ليس مشكلة تواجه العراق وحده بالرغم انه في مقدمة الدول. إنه وباء ينتشر في جميع أنحاء العالم، حتى في الدول التي تحمل راية التعليم المعاصر، وتتباهى بأوساط أكاديمية رفيعة المستوى. لقد بحثت اليونسكو في تقرير صدر عام 2007 بالتفصيل كيف أضر الفساد بالجامعات والمدارس في جميع أنحاء العالم. وأشار كويشيرو ماتسورا، المدير العام لليونسكو في ذلك الوقت، إلى أن "هذا الفساد الواسع الانتشار لا يكلف المجتمعات مليارات الدولارات فحسب، بل إنه يقوض بشكل خطير أيضا الجهود الحيوية لتوفير التعليم للجميع".
وفي حين أن الفساد في التعليم هو قضية عالمية، فإن المقارنة الموضوعية بين اتجاهات الفساد في العراق والدول الأخرى تكشف عن اختلافات مهمة من حيث الطبيعة والوسائل والأساليب. في العراق، يتم إضفاء الطابع المؤسساتي على الفساد في التعليم بحيث أصبح هو القاعدة، في حين أن العناصر المارقة في البلدان الأخرى تشارك في الفساد على المستوى الفردي وبطرق سرية للغاية. على سبيل المثال، توجه الاتهامات الى كثير من القادمين من الخارج في الأحزاب المشاركة في السلطة اليوم، بأن شهاداتهم مزورة او صادرة من جامعات غير معترف بها من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية، وأبرزها الشهادات الصادرة من معاهد دينية. وقدرت مصادر رسمية وجود الآلاف من الشهادات المزورة لمختلف منتسبي الدولة، والبرلمان فضلاً عن مسؤولين من بينهم قياديون في الأحزاب وكذلك موظفين بدرجات وظيفية عالية.
ومن الأمثلة الأخرى على الفساد في التعليم هو الغش الذي يبدو إنه قد غزا المؤسسة التعليمية ونخر جسدها فعلاً وممارسة، كما نخر، بشكل عام، جسد المؤسسات الاجتماعية. فأصبح ظاهرة عامة تتميز بها امتحانات المدارس والجامعات، حيث غزا الصفوف وأصبحت الأسئلة تباع وتشترى، وأضحى ظاهرة بكل المقاييس، تفشت وانتشرت بين الطلاب والمدرسين، فانعكست سلبا على أخلاقيات المجتمع، واليوم لا يمكننا التفريق بين الغشاش الذي استطاع الدخول الى كلية الطب، وبين الإنسان السوي الذي جد واجتهد ليحصل على مقعده بكل جدارة واستحقاق. ومن المحتمل جداً أن تجد بين الأطباء المرموقين أو القادة الميامين من شق طريقه في التعليم عن طريق الغش. كلما التقي بأحد هؤلاء انظر اليه بعين الشك والريبة وأقول في نفسي لربما هو أحد الغشاشين يحاول التظاهر بالنزاهة. ولماذا لا أشك في نزاهة الفرد إذا كان الغش منتشراً بصورة وبائية في المدارس والجامعات؟
وأخيراً، ما هو مطلوب من الدولة والحكومة وبصورة عاجلة، هو معالجة الأزمة التي يمر بها النظام التعليمي موضوعياً. فالأسباب واضحة، والمعالجة واضحة، لتكون نتيجة هذه المعالجة برنامجاً إصلاحياً شاملاً من خلال الوقوف عند جوانب مسببات هذه الأزمة، وباعتبار هذه المعالجة موضوعاً اجتماعياً، وسياسياً يهمّ مستقبل العراقيين، ومستقبل تقدم العراق بشكل عام. خطوتان ايجابيتان قد يؤدي انتهاجهما الى التخلص من كثير من مشكلات التعليم، والى مستقبل أفضل، ألا وهما التخلص من الفاسدين أولاً، وثم الاستثمار في التعليم بالنظر إلى حقيقة أن العراق يقع في قمة البلدان الفاسدة، وقمة البلدان في تدهور التعليم كما تشير المؤشرات. لكن صرف المبالغ الضخمة دون أي مراقبة قوية، أو نظام تنظيمي ومساءلة مناسبة لن يحقق أي نتائج مثمرة، وبدونها ستبقى الإصلاحات في قطاع التعليم حلماً بعيد المنال. لن يكون هناك سوى إهدار للموارد وخلق المزيد من الفرص لاختلاس الأموال.