2017-05-17 19:46:00

  حينما أعلن تحرير معظم قرى وبلدات ومدن كوردستان العراق في ربيع 1991م إثر الانتفاضة العارمة للشعب وقواه السياسية والاجتماعية، توقع الكثير من الأصدقاء والأعداء وحتى من الذين هربوا وتركوا الإقليم في حينها، إنها عدة أشهر وستغرق كوردستان ببحر من الدماء والدموع والفقر والفاقة، إلى درجة أنها ستتوسل العودة إلى أحضان الدكتاتورية مرة أخرى، بينما توقع أكثر المتفائلين، إن الكورد لن ينجحوا بإدارة أنفسهم، وإنها أيضا بضعة أشهر لا غير ستتحول كوردستان إلى جزيرة للإرهاب والخراب، ولكن ما حدث بعد ذلك ومع خروج كل ما يتعلق بالنظام في بغداد من المناطق المحررة، بما فيها كل وسائل الإدارة ومفاتيح العمل والكثير من السجلات والوثائق، وخلال أشهر فقط كما قالوا استطاع الكورد وشركائهم في المنطقة من المكونات الأخرى، لا إلى الغرق في بحر من الدماء والفوضى بل إلى اختيار طريق آخر للصراع حينما أعلن الرئيس مسعود بارزاني، إن انتخابات عامة هي التي ستقرر من يقود ويحكم المنطقة المحررة من كوردستان، وكان بحق أول خطاب يؤشر ملامح المرحلة القادمة في المنطقة عموما، ليأتي بعده مباشرة واحد من أروع تجليات التسامح والمصالحة الاجتماعية التي تمثلت بإصدار العفو العام عن كل حقبة صدام حسين وحزبه وملحقاتهم من الكيانات والميليشيات، التي عاثت في الأرض فسادا، باستثناء حقوق المواطنين المتعلقة بالدماء، والتي طلبت فيها القيادة آنذاك من المواطنين العفو والبدء بمرحلة جديدة من الحياة خالية من الأحقاد والانتقام والتفرغ لبناء كوردستان، هذان القراران أعطيا باكورة ثمار العمل النضالي لعشرات السنين من اجل كوردستان وتحقيق العدالة والديمقراطية فيها، وربما سبقت حتى مانديلا في أطروحاته للتسامح والتعايش.

 

     إن أول عملية اختراق لحاجز الخوف والرعب من الأنظمة الدكتاتورية هنا في الشرق الأوسط وتحديدا في المحيط العربي، حصل هنا في إقليم كوردستان وفي وسط وجنوب العراق في ربيع 1991م، حينما انتفض الشعب وواجه سلطات الدكتاتور المتمثلة بأجهزة الأمن والمخابرات وميليشيا حزب البعث وقطعات الحرس الجمهوري والحرس الخاص، واستطاع تحرير كل المقرات والمواقع التي كانوا يحتمون فيها خلال عدة أيام، وفيما نجح الكوردستانيون في انجاز مشروعهم الديمقراطي وإقامة كيانهم الفيدرالي، نجح النظام في سحق المنتفضين في وسط وجنوب البلاد لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها هنا.

 

     لقد واجه الإقليم في استقلاله الذاتي الأول تحديات كبيرة خاصة الحصار المتعدد الأطراف والاحتراب الداخلي بين اكبر حزبين في الإقليم بعد فترة ليست طويلة من تحرير المنطقة، وقد ساهمت كل القوى المضادة لتطلعات شعب كوردستان في إشاعة الإحباط والفوضى بين الأهالي، ورغم كل مآسي الاحتراب ظهر معدن هذا الشعب وحكمته، ونجحت الثوابت العليا ومصالح كوردستان السامية، أن توقف ذلك الصراع وبدأ مرحلة جديدة من البناء والاعمار والتوحد، والتي تعززت بتوحيد كبير للإدارتين ووضع خطط تنموية طموحة نقلت الإقليم نقلة نوعية كبيرة، عززت مكانته الإقليمية والدولية، بحيث أصبح واحة للسلم والأمن والازدهار.

 

     واليوم وبعد ما يقرب من 15 سنة على قيام النظام السياسي البديل، بعد إسقاط النموذج الشمولي الذي استمر من عام 1958 وحتى نيسان 2003 ، فشلت الإدارة العراقية الجديدة من أن تقنع المواطن في الإقليم بأنه شريك فعلي في هذه الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية، بل وفشلت في أن تفي بوعودها وتطبيق الدستور الذي اتفقنا عليه، وكرست ذات السياسات التي اعتمدتها كل الأنظمة الشمولية في ما يتعلق بنتائج التعريب والتغيير الديموغرافي، وخاصة في المناطق المستقطعة من الإقليم، حيث يتم استنساخ ذات التخويفات والإرهاب النفسي من توجه الإقليم إلى استفتاء شعبه على حق تقرير المصير، بل إن أجهزة دعاية اكبر كتلة برلمانية تقوم بإعمال متطابقة جدا مع سلوكيات البعث في إشاعة الكراهية والأحقاد ضد شعب كوردستان وقياداته التاريخية، فقد سخرت معظم أجهزة الدعاية والإعلام بما فيها المملوكة للدولة، لإشاعة الإحباط والكراهية ضد الإقليم وشعبه، على ذات النسق البعثي أو من سبقه من تشكيلة الأنظمة الشمولية، بما لم يدع أي فرصة غير الاستفتاء على حق تقرير المصير، خاصة وإنهم يمارسون فلسفة الأغلبية الطائفية والسياسية مع شريك أساسي في الدولة التي فقدت كل مقوماتها، وعادت ذات الاسطوانة في التخويف والترهيب من الاستفتاء أو الاستقلال، بوسائل شتى خاصة تلك الناعمة منها التي تدعي الحرص على الإقليم وشعبه، وهي التي تعمل ليل نهار على حصاره وإذلال شعبه واختراق جدرانه الداخلية، بل والتعاون مع أعداء الإقليم خارجيا من اجل إعاقة الاستفتاء.

 

     لقد قرر شعب كوردستان إجراء الاستفتاء ولن يستأذن أحدا بذلك، بل سيحاور ويناقش بغداد فقط في نتائج الاستفتاء.