الجزء الثالث / السلطة الرابعة واستقلال القضاء
كان ولا يزال للإعلام بكافة صنوفه المكتوب منه او المسموع او الاعلام المرئي والذي يسمى اصطلاحاً بـ(السلطة الرابعة) تأثير مباشر على سلوكيات الفرد المتلقي بين الفائدة وتوسيع المدارك كتأثير إيجابي الى أسلوب الإيحاء والتوجيه الخاطئ كتأثير سلبي والذي ينسحب على عموم سلوكيات افراد المجتمع وواضح ذلك في تجارب الشعوب والأنظمة التي برعت في استخدام الاعلام كاداة لتوجيه المجتمع وفيما مضى كان الدور الأبرز هو لما يسمى بالصحافة الوثائقية وهي الأقل تأثيراً كونها تعيد سرد التجارب الماضية للشعوب والخوض فيها لا يتعدى تكرار الوقائع والأحداث.
اما في الوقت الحاضر فالدور الأكثر تأثيراً هو لما يسمى بالصحافة الاستقصائية والتي يتحرك العاملون فيها وفق منهج البحث عن أمور جدلية او وقائع تكون بمثابة حديث الساعة ولان اغلب من يباشر هذا العمل الان هم افراد او مؤسسات ربحية فبات من الصعب السيطرة على سلوكيات العمل الصحافي للكثير منهم مالم تكن هناك تشريعات ضابطة لتلك السلوكيات بالقدر الذي يحفظ حرية الاعلام وفي الوقت نفسه يضمن مصلحة المجتمع من خلال ضبط وتقنين ماينشر للعامة من وقائع بالشكل الذي اصبح التطور العلمي في وسائل الاعلام سبباً مهماً في صعوبة ضبط المحتوى المطروح وذلك لسرعه وسهولة عرضه للمتلقي، ومن خلال الاطلاع على القوانين ذات الشأن في العراق فاننا نجد اولا ما جاء في المادة ٣٨ / ثانيا من دستور جمهورية العراق الذي كفل حرية الصحافة والطباعة والإعلان والاعلام والنشر بشرط عدم الاخلال بالنظام العام او الاداب العامة، كما نجد قانون نقابة الصحفيين رقم ١٧٨ لسنة ١٩٦٩ الذي تناول كل ما يتعلق بالنقابة وكذلك قانون حماية الصحفيين رقم ٢١ لسنة ٢٠١١ والذي تناول حماية هذه الفئة المجتمعية،ولم يتم تنظيم حرية الصحافة بموجب هذا القانون او فرض عقوبات رادعة على من يتجاوز هذه الحرية، مما يستلزم وبقدر تعلق الامر بالشأن القضائي حصول اضافة تشريعية تلزم الصحفي والاعلامي بحظر نشر واذاعة مجريات التحقيق الجنائي، كون ان الاعلام هو من يوجه الرأي العام غالبا وان الراي العام من اكثر الجهات تأثيرا على مبدأ استقلال القضاء، وان عدم تنظيم ذلك بتشريع سيؤثر بشكل سلبي على هذا المبدأ وبل سيتعداه الى التأثير ايضا بمبدأ البراءة المفترضة.
ووفق التشريع العراقي فان التحقيق الجنائي يمتاز بعدم العلانية فلا يجوز لأي شخص حضور التحقيق امام قاضي التحقيق سوى الخصوم ووكلاءهم، وان هذا المنع يسري على الصحفيين وكافة وسائل الاعلام المسموعة والمرئية كون ان الاتهام في مرحلة التحقيق هو يقع في دائرة الشك والاحتمال وان اعلان الاجراءات في هذه المرحلة يخل بمبدأ البراءة المفترضة والتي يجب ان يستمر افتراضها حتى تثبت ادانه المتهم، كما انه سيؤثر على استقلالية القاضي وحياديته في حالة نشر مجريات التحقيق في هذه المرحلة او نشر صور ضوئية لقرارات السادة قضاة التحقيق وبالشكل الذي يؤثر على الراي العام فيصبح القضاء امام مطالبات واحتجاجات مجتمعية تؤثر سلبا في استقلاله.
كما ان المادة ٢٣٥ من قانون العقوبات العراقي نصت على ان " يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة وبغرامة لا تزيد على مائة دينار أو باحدى هاتين العقوبتين من نشر باحدى طرق العلانية امورا من شأنها التأثير في الحكام أو القضاة الذين انيط بهم الفصل في دعوى مطروحة امام جهة من جهات القضاء أو في رجال القضاء أو غيرهم من الموظفين المكلفين بالتحقيق أو التأثير في الخبراء أو المحكمين أو الشهود الذين قد يطلبون لاداء الشهادة في تلك الدعوى، أو ذلك التحقيق، أو امورا من شأنها منع الشخص من الافضاء بمعلوماته لذوي الاختصاص.
فاذا كان القصد من النشر إحداث التأثير المذكور أو كانت الامور المنشورة كاذبة تكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على سنتين وغرامة لا تزيد على مائتي دينار أو احدى هاتين العقوبتين.... " وهذا المنع موجه الى الكافة وان الضرورة تحتم اصدار تشريع جديد موجه الى القائمين على الصحافة على غرار قانون العمل الصحفي رقم ٣٥ لسنة ٢٠٠٧ في اقليم كردستان والذي نص صراحة في الفقرة ٦ من المادة ٩ منه على فرض عقوبات مالية كبيرة " على كل من يضر بإجراءات التحقيق والمحاكمة الا اذا اجازت المحكمة نشرها ".
حيث ان المشكلة تثار عندما يتجاوز الاعلام مهنيته وينشر اجراءات التحقيق ويستبق الاحكام وصولا الى التأثير السلبي على الرأي العام هادفا دفعه الى الانحياز الى احد الاطراف، لذا ندعو المشرع العراقي الى التدخل وادراج نص صريح يحد من دور الاعلام السلبي في التأثير على استقلالية القضاء والقاضي، والزامه بنقل صور واقعية عن المحاكمات بعد استحصال موافقة المحكمة بهدف توظيف الاعلام لخدمة العدالة التي هي الهدف المطلوب من كافة الاطراف وان الهدف من ذلك تعزيز استقلال القاضي لا تبرير موقفه لان القاضي يبرر قراراته عن طريق تسبيبها ضمن منطوق الحكم ولكافة الاطراف حق الطعن وفق القانون.
وان الدستور العراقي وان نص على حرية الصحافة وحرية التعبير عن الرأي الا ان ذلك يجب ان ينظم بموجب قانون لان عدم تنظيمه سيؤثر حتما على باقي المباديء الدستورية، لذلك نحتاج الى فرض عقوبات رادعة لكل من يستغل الحريات بشكل مخالف للقانون، وبذلك فان مبدأ استقلال القضاء لم يعد يتناول العلاقة بين السلطة القضائية من جهة والسلطتين التشريعية والتنفيذية من جهة اخرى بل تعداها الى السلطة الرابعة خاصة في وقت اصبحت الرقابة محدودة على الاعلام بشكل عام والصحافة بشكل خاص فاصبحت ذات تأثير في الرأي العام وفي عمل القاضي بالشكل الذي يستوجب تدخل تشريعي كما يستوجب تثقيف الراي العام بمبدأ استقلال القضاء عن طريق حملات اعلامية في الاعلام المرئي والمسموع والمقروء.