يعيش الكثير من التدريسيين في الجامعات حالة غير طبيعية تتميز بالإكراه الوظيفي بسبب ما تمليه عليهم إدارة بيروقراطية وحزبية، تشمل كثير من حياتهم التعليمية والأكاديمية، ما ينعكس سلباً على حرياتهم الأكاديمية وعلى أدائهم التدريسي واستفادة طلابهم من معارفهم وعلومهم. فالجامعات العراقية ومنذ تأسيس وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ظلت وفية للسلوك التقليدي في إدارة محكمة بيد الوزير والى درجة قليلة متأرجحة بيد رؤساء الجامعات ومعتمدة على درجة الصلاحيات التي يمنحها الوزير لرؤساء الجامعات والتي بدورها تعتمد على رؤى الوزير ورغباته وثقته برئيس الجامعة، بيد أن هذه الصلاحيات تضاءلت بمرور الزمن ولم يعد لها شأن في عهد الوزارة الحالية.
ولقد أدت هذه الممارسات الفوقية الى التزام التدريسيين بصورة عامة بمهام وظيفتهم الأساسية في التدريس الصفي واتباع أسلوب التلقين المعتمد على وريقات معدودة من الملخصات وبمفردات المقررات العمومية التي وضعتها لجان وزارية حرفاً وقالباً، كما أدت هذه الممارسات الى تفشي مظاهر الرقابة من قبل الجهات الوزارية وازدياد تدخلها في مهنة التدريسي وإشرافها المباشر على عمله، واشيع أسلوب توجيه الكتب الرسمية عن طريق موقع الوزارة على الفيسبوك والذي بدوره أدى الى انتشار ظاهرة طرح الأسئلة في مواقع التواصل الاجتماعي حول كل ما يقلق التدريسي من شؤون أكاديمية وعلمية وتربوية بدلاً من مناقشتها مع المسؤولين في جامعته، وما ساهم في توسيع هذه الظاهرة هو المركزية المقيتة والتي أضعفت القدرة الإدارية للمسؤول الجامعي في أخذ القرار وزادت من تخوفه حتى من ممارسة مسؤولياته في توضيح التعليمات المركزية وبيان أسباب حصولها وكشف مواضع اللبس فيها على أساس أنها ليست من شأنه وإنما من شأن الوزارة التي أصدرتها.
يمكن تشبيه هذه الظاهرة بتلك المألوفة لدينا من توجيه الأسئلة الشرعية للمراجع الدينية العليا والتي تحتاج الى فتوى بخصوصها ولا يصح لأحد أن يفتي بشأنها عدا المرجع الأعلى. وأصبح لدينا نتيجة لهذا التمركز في السلطة الإدارية ولهذه الممارسات الفوقية بما يشبه جامعة واحدة تمتلك فروعاً عديدة بتسميات مختلفة يرأسها الوزير ويساعده في إدارتها مدراء دوائر الوزارة من الإداريين المقربين له.
ثم إننا نجد بعض مظاهر التسلط في إدارة الجامعات عند النظر في طريقة رسم سياسة التعليم العالي وفي طريقة اختيار رؤساء الجامعات وعمداء الكليات ورؤساء الأقسام والتي اعتمدت على قرارات السلطة السياسية، وكذلك في تمركز عملية وضع مناهج التعليم واختيار الطلاب وتعيين التدريسيين، وهي مظاهر تتنافى والحرية الأكاديمية تنافياً مطلقاً.
هذه الظاهرة أصبحت اليوم ظاهرة طبيعية اعتاد عليها التدريسيون فلم يعد أحد يعترض عليها رسمياً أو علنياً لكون التدريسي محكوم من الدولة والتي يمثلها الوزير فهي تدفع راتبه وتقاعده ومكافآته، وهو كموظف يأتمر بأوامرها وحاله لا يختلف عن حال أي موظف آخر في الدولة سواء كان في أمانة البلديات أو دوائر الجنسية ولا يهم هنا إن كان التدريسي عالِماً يشار له بالبنان أو مرجعاً علمياً أو مفكراً أو فيلسوفاً.
وانعكست هذه الأوضاع على الحالة النفسية والاجتماعية للتدريسي وعلى منظومة العلاقات الإدارية والأكاديمية والتي تميزت بضعف العلاقة بين التدريسي ورئيس القسم والعميد ورئيس الجامعة وبانعدام الثقة عند التدريسيين تجاه المسؤولين الجامعيين وبالاعتقاد بعدم كفاءتهم والشعور بالغبن الوظيفي والتميز ضدهم والتخوف وأخذ الخذر منهم والتأكيد المستمر على أن المحسوبية والمنسوبية والمحاصصة السياسية هي طريق الحصول على منصب إداري.
ويمكن ضرب العديد من الأمثلة لممارسات إدارية غير صحيحة. ففي الآونة الأخيرة تم استبدال رؤساء جامعات بالجملة وتم إعفاء كل عمداء الكليات والمعاهد دفعة واحدة واحلال معاونيهم محلهم في إدارة الكليات والمعاهد. ويتساءل التدريسيون عن المبررات التي أدت لهذه الإجراءات وهل أن اختيار رؤساء الجامعات الجدد تم على ضوء معايير أكاديمية ومهنية؟ وطرحت أسئلة عديدة من مثل لماذا لم يتم الإعلان عن الوظائف الشاغرة؟ ولماذا لم يتم الإعلان عن شروط التقديم؟ وما هي مميزات الرئيس الجديد؟
أما بشأن إعفاء العمداء دفعة واحدة وبالجملة فيثير الاستغراب لأنهم استبدلوا بمعاونيهم فهل أن المعاونين جميعهم بأفضل أكاديمياً ومهنياً من العمداء أو لأن تعيينهم في مناصبهم لم يكن بالوكالة؟ ولماذا تم اختيار المعاونين بدلاً من أقدم رؤساء الأقسام وحسب السياقات العلمية والإدارية؟ وهذا لا يعني إننا نعتبر ان كل العمداء مؤهلين لمناصبهم أو أن معاوني العمداء غير مؤهلين لمناصب العمداء بل إننا نريد مشروعية اكاديمية لمثل هذه الإجراءات الشاملة، وأن تجد هذه التغيرات قبولاً من التدريسيين بحيث يحظى المسؤول الجديد بثقة أعضاء هيئة التدريس واحترامهم.
كما تثير هذه الإعفاءات الشاملة من المناصب أسئلة عن نوع الحكم في الدولة التي نعيش فيها. فهل يمكن على سبيل المثال أن يعفي وزير الصحة مدراء المستشفيات الحكومية دفعة واحدة؟ أو هل يمكن لوزير الخارجية أن يقيل كل سفراء العراق مرة واحدة؟ أو أن يطرد وزير الدفاع كل رؤساء الفرق العسكرية؟ أو أن يستبدل وزير التربية كل مدراء المدارس بمعاونيهم في يوم واحد؟ ماذا سيحل بالعراق عند تنحية كل مدير أو مدير عام عن منصبه؟
لكن التعليمات الوزارية الأكثر إثارة كانت تلك التي تتعلق بحق التدريسي في التظاهر وبحقوقه الأساسية التي نص عليها الدستور فهذه التعليمات لم تمنح رؤساء الجامعات أي دور في تنظيم وإدارة التعليم في جامعاتهم عدا تنفيذ التعليمات في مراقبة ومنع أي محاولة لعدم الالتزام بهذه التعليمات. وهذا ما قد يؤثر مستقبلاً بصورة سلبية على أسلوب إدارة الجامعة من قبل الرؤساء ويجردهم من صلاحياتهم المتبقية في إدارة الجامعة خصوصاً خلال فترة الأزمات السياسية والمجتمعية.
في النهاية، نحب أن نذّكر الأكاديميين والتربويين بأن تسيير وإدارة جامعاتهم لا تتم عن طريق رؤساء الأقسام أو العمداء أو الرؤساء بل عن طريق الوزارة لأن لها السلطة المطلقة التي تتحكم في الجامعات، وهي المسؤولة عن إدارتها بالتخطيط والتنظيم الوظيفي والتعيينات والمناهج وقبول الطلبة وطرق التدريس طالما لا توجد استقلالية للجامعات. أما مسؤولية رؤساء الأقسام والعمداء ورؤساء الجامعات فهي توجيه دوائرهم على ضوء التعليمات الوزارية، لذلك فإن إلقاء اللوم على مسؤولي الجامعة لسوء الإدارة والتسيير لهو لوم فيه إجحاف كبير لهؤلاء لأنهم ليسوا في قمة الهرم الإداري.