تعتبر الثقافة السياسية في المجتمعات المتقدمة مدخل مهم من مداخل علم الإجتماع السياسي، الذي يهتم بدراسة أنماط المشاركة السياسية والسلوك السياسي لأفراد المجتمع و إتجاهاتهم إزاء السلطة أو النظام السياسي و بعض الظواهر أو الممارسات السائدة.
أما الفرد في تلك المجتمعات فيتم تنشئته منذ نعومة أظافره تنشئة سياسية سليمة بحيث تتشكل ثقافته السياسية بملامح خاصة تدفعه نحو المشاركة الإيجابية في العمل السياسي، كما ترسخ في ذهنه صورة للحاكم باعتباره وكيلاً عنه يُحاسب على أعماله، ويملك المواطن المقدرة على إنهاء هذه الوكالة، لأن الحكومة – والحاكم– في خدمة الشعب وليست سيدة عليه.
ولقد أكد السيد رئیس حکومة الإقلیم، مسرور بارزاني، الذي يسعی في سبيل فكرة بناء الوطن الجامع، في أول خطاب له أمام برلمان كوردستان، عند إستعراض برنامجه الحكومي، بعد أدائه اليمين رئيساً للحكومة الجديدة، بأنە عازم علی تحمل مسؤولية إدارة حکومة الإقلیم بشكل جدي، لکي تخدم هذه الحکومة شعب كوردستان بصورة شفافة ومسؤولة وتضمن لها مقومات النجاح والإستمرار. هذا الأمر يفرح قلب كل مواطن كوردستاني شريف.
بتأکيدە علی نشر هذه الثقافة السياسية يمکننا القول بأنه ألهم لدی الجيل الصاعد الشعور بالمسؤولية وحرّك فيهم الطموح والتطلع الی المستقبل بنظرة إيجابية وذلك للتغلب على الضغوط وحل المشكلات رغم ما يشوب حاضرنا و حاضر المنطقة من أزمات و صراعات تدفع الرأي العام نحو السلبية والمقاطعة واللامبالاة.
أما فيما يتعلق بالملف الإقتصادي فقد سلط سيادته الضوء علی السير نحو إقتصاد متعدد المصادر في الإقلیم، لا الإعتماد بشکل مفرط علی النفط والغاز، لأنه يعلم تماماً بأن التمكين الحقوقي السياسي يتناسب عكسياً مع المداخيل النفطية للدول الريعية، فزيادة المنابع الطبيعية في صادرات الدول قد يؤدي بالنتیجة إلى تراجع مؤشرات الديمقراطية وأزمة المشاركة السياسية والعجز الإداري.
الدراسات الجديدة توصلت الی أنه کلما کانت الصادرات النفطية من الناتج الوطني الخام أقل، تكون احتمالات التحول الديمقراطي أكبر، أي بحسب الحصة النفطية.
فالمداخيل النفطية تفسر عدم الإهتمام بالتحصيل الضريبي أو فرض ضرائب إضافية علی المواطنين. صحیح أن هذه السياسة تجعل العبء علی المواطن خفيفاً، لکنها تقلل الجدية من قبل المواطنين في مساءلة الحکومة و أجهزتها.
وطبيعة الاقتصاد الريعي تکرّس غياب تفعيل جدّي لآليات الرقابة، وتشكّل مجموعات زبائنية ذات خلفيات اجتماعية وطبقية مصلحية، وتعطل آليات المساءلة لفائدة نمط من الثقافة يتغذّى من القهر المادي المعنوي، ويلغي فلسفة الحقوق والواجبات، ويفتح المجال لفلسفة العطايا والغنيمة.
فالدولة الريعية للأسف تهتم بالدرجة الأولى بالإنفاق على مشاريع قصيرة الأمد ومشاريع إستعراضية جراء الحصول على المداخيل النفطية سهلة المنال و تحاول إيجاد فرص عمل مقنّعة والتستّر على البطالة الواسعة، كما أنها تعمد الدولة إلى توسيع الجهاز الإداري وهذا بدوره يؤدي إلى ضعف أداء جهاز الدولة و تفشي الفساد الإداري.
السيد رئیس حکومة الإقلیم أكد في أكثر من مناسبة بأن الفساد يدّمر الإقتصاد ويقوِّض إيمان الناس بمنطقتنا، حیث شدد علی مکافحته و عدم قبوله من أي فرد أو مجموعة.
نعم ثقافة "الريع" تؤدي إلى تشكّل مجموعات تسعى إلى الاستفادة بشكل كبير منه، حيث تتخذ هذه المجموعات أشكال تحالفات ومنظمات مجتمع مدني وأحزاب سياسية، ومنظمات حكومية وغير حكومية، التي يفترض بها ممارسة الرقابة والمطالبة بالشفافية، إضافة إلى تكتلات اقتصادية تستفيد من العلاقة مع نخب في أنظمة الحكم.
من هذا الوضع يتولد غياب طبقة برجوازية حقيقية تربط الحقوق الاقتصادية بالحقوق المدنية والسياسية. إذن للعوامل الإقتصادية والإجتماعية تأثير واضح علی مكونات الثقافة السياسية و ضعف المشاركة السياسية في تسيير الشأن العام.
نحن نعرف بأنه كلما زاد الوعي السياسي والثقافي والاجتماعي تراكمت القيم والسلوكيات السياسية الأكثر أخلاقاً لدى المجتمع. المجتمع الكوردستاني اليوم بأشد الحاجة الی الثقافة السياسية والإلمام بتراكيبها ومتغيراتها، كونها هي من تنظم عمل وسلوك وآراء الأفراد والجماعات داخل هذا المجتمع ومدى تفاعلهم مع الحکومة.
أما مبادرة السيد رئیس الحکومة في خلق حالة انسجام بينە وبین المواطنين، ليصبحا أكثر مرونة من أجل استقبال وعمل أي برنامج ومشروع وتنفيذ أي سياسة تتناسب والمجتمع الکوردستاني، فهي خطوة إيجابية صحیحة نحو الهدف المرجو، فمن هذا المنطلق نستطیع أن نضمن بناء وحدة ثقافية متّحدة للوقوف کسدٍ منيع في وجه أي خطر داخلي أو خارجي من الممكن أن يهدد بنية الإقلیم.
علی شعب كوردستان أن يعمل کفريق واحد رغم تعدد التصنیفات والتسميات وأن بناء هذا الوطن لن يكون إلا عبر العمل الجماعي للنهوض به بعيداّ عن كل المزايدات، لذا نعيد ماقاله دبلوماسي وسياسي وجیه ذات مرة:
"إن بناء المسقبل لا يكون بغمرة وعربدة الضوضاء... وتشنّج الهويات الشخصية والتصورات مهما كانت بعيدة أو قريبة".