2019-09-26 14:10:21

تعاني جميع ثقافات الشعوب من تأثيرات النظام البطرياركي ( الأبوي)  وان - بنسب مختلفة -، ولا تقتصر بصماته في نزعة الاستعلاء الذكوري وتهميش المرأة في عقول وقلوب الرجال فقط، بل تتعداه الى ضحاياه من النساء، فالام الصينية هي من تربط قدمي ابنتها برباط سميك يمنع نموهما ويسبب لها آلاماً لا تحتمل حتى سن البلوغ، وذلك  لأغراء  الرجل الصيني الذي يعشق في المرأة أقدامها الصغيرة و مشيتها التي تشبه الدحرجة، والام الانجيلية المحافظة في الغرب تشاطر نظيرتها الشرقية في تلقين بناتها على ان طاعة الرجل دون شروط أمر مقدس، والامر لا يقتصر على غير المتعلمات من النساء، فالمحاميه والكاتبة الامريكية فيليس شليفلي قد أمضت القرون الاربعة الماضية ناشطة في حركة سياسية معادية للمرأة نجحت في السبعينات بعرقلة تمرير التعديل الدستوري الذي يضمن مساواة الرجل بالمرأة، ولا جديد في الاشارة الى حملة تشويه برلمانياتنا في العراق لزميلاتهن المدنيات وحماسهن لمبدأ قوامة الرجال على النساء.

 

لم ينتقد صدام حسين مارغريت تاتشر لنزعاتها الامبريالية، بل خاطبها بلهجة ذكورية متخلفة قائلاً عودي الى بيتك للعناية باولادك. تلك النزعة الذكورية الاستعلائية منبثه في جميع الثقافات بنسب مختلفة، حتى اننا ننسب نجاح المرأة الى امتلاكها خصالاً رجولية، ففي الدول العربية ندعوها ( اخت رجال ) مثلاً ، وفي بريطانيا لم يجد احد البرلمانيين صفة مديح لتاتشر بعد خطابها في البرلمان إلا بقوله انها الرجل الوحيد في القاعة.

 

في حواراتنا و كتاباتنا عادة ما نختزل النظام البطرياركي بالاشارة الى اشكالية العلاقة بين الجنسين وتسلط الرجل والحط من قيمة المرأة، إلا أن النظام الابوي باعتقادي نسق فكري متكامل يمثل بنية ثقافية و نفسية تؤسس لمنظومة افكار ومفاهيم اليمين و الحركات الفاشيه وشبه الفاشية.  مستشار ترامب السابق ستيف بانون يعبر في كتابه ( صفقة الشيطان) عن رعبه من اتساع جماهيرية الحركات النسوية قائلاً : لقد اقترب الزمان الذي تحكم فيه النساء العالم، و حين سئل عن سر عداءه للحركات النسوية كان جوابه: لانها تعمل على هدم النظام البطرياركي ( الأبوي ) الذي قامت عليه حضارة المجتمع الانساني منذ عشرة آلاف عام. فما سر تمسك اليمين وخاصة البيض المتطرفين بالنظام الابوي بصيغته التقليدية البالية ؟. هذا ما سيحاول  المقال الاحاطة ببعض جوانبه :

 

 الأب القائد:

 

يتم التركيز على بنية العائلة التقليدية كمؤسسة اجتماعية مقدسة في الخطاب اليميني عامة وفي الخطاب الفاشي على وجه الخصوص، و تبتلع قواعدهم الطعم الأخلاقي على اعتبار ان تقديس القيم العائلية من الفضائل، وفي بعض الاحيان ليست الفضيلة سوى رذيلة متنكرة بثياب القدسية.

في العائلة التقليدية يمتلك الاب السلطة المطلقة وله وحده القرار الحاسم في ادارة شؤون البيت، والعائلة نواة مصغرة للمجتمع الكبير، ولذا فالمجتمع أو الامة بحاجة الى أب قائد يمتلك الكريزما والشخصية الصارمة، تلتف حوله الجماهير وتؤدي فروض الطاعة والولاء والامتثال لقراراته، كي ينهض بالامة ويحقق ازدهارها. من وحي تلك الرؤية ينتقد هتلر النظام الديمقراطي لأن المسؤوليات تتوزع على عدد كبير من السياسيين المنتخبين، وبالتالي يلتبس على الشعب على من سيلقي اللوم في حالات القصور، ويرى ان الحل الامثل بقيادة القائد القوي، المتفرد بمواهبه وقدراته، والذي يحمل أعباء الامة ويتحمل المسؤولية بالكامل، وما على الشعب سوى اتباعه والثقة بقدراته المتميزة !!، وقد عبر ترامب عن اعجابه بدكتاتور شمال كوريا بقوله إن شعبه يحترمه كثيراً، فبأشارة من يده يقف له الجميع وبأشارة يجلسون. ومن المثير للانتباه ان ترامب الذي تعيقه محددات الديمقراطية الليبرالية  أن يحكم كدكتاتور، يعبر عن اعجابه بحكام سلطوبين أو فاشيين جدد مثل مودي ، ديتورتي، بولسينارو، اوربان، السيسي و كثيرين غيرهم ، مما يشير الى وجود نزعة دفينة أو حلم مهزوم ديمقراطياً للتحول الى أب قائد. 

 

 سمو الذات العرقية ودونية الآخر:

 

يقوم النظام البطرياركي على أساس رابطة الدم التي تمتد من العائلة الى القبيلة الى العرق، ويشكل نقاء الدم وهوية العرق الابيض محوراً اساسياً في الحركات الفاشية وشبه الفاشية، تلتئم به وتتحمس حوله قواعدهم، وبهذا يصبح اللون والعرق شرطاً للمواطنة، ولابد من ابادة  أو - في افضل الاحوال - رحيل الآخر المختلف من الملونين. كان نقاء الدم والاستعلاء العرقي يشكل هاجساً للشعوب الاوربية انتعشت خلاله الدارونية الاجتماعية، بل سنت قوانين تمنع الزيجات من الملونين، بقيت في بعض الولايات الامريكية نافذة الى ازمان متأخرة، وقد عبر هتلر في كتابه الشهير ( كفاحي ) عن اعجابه بقانون الهجرة الامريكي الصادر عام 1924 أو ما يسمى قانون جونسن - ريد، والذي حصر الهجرة بالبيض من اوربا الغربية ، مانعاً هجرة الاسيويين و السولاف والايطاليين واليهود . و في الآونة الاخيرة تضخمت الذات العرقية لدى قواعد اليمين الاوربي من جراء  التغيرات الديموغرافية والتزايد المتسارع للملونين، لا بسبب الهجرة فقط بل لنسب المواليد العالية بين معظم الاثنيات غير البيضاء، و قد يكون هذا ما جعل جيف سيشن وزير العدل السابق في ادارة ترامب ان يخرج عن لياقته قائلاً: ثقافتنا انكلو سكسونية و يجب ان تبقى كذلك، متجاهلاً ان اميركا ومنذ تأسيسها بلد متعدد الثقافات. من السهولة اتساع قائمة المختلف المنبوذ، طالما ان للعرق الابيض ثقافته الخاصة فلا مكان للتنوع الديني أو الثقافي، ولذا يشن المحافظون والفاشيون حملتهم ضد المجتمع المتعدد الثقافات الذي يدافع عنه الليبراليون واليساريون، على اعتبار ان المواطنة هي شراكة بالوطن لا بالهوية الفرعية الثقافية أو الدينية. 

 

العنف كفعل رجولي :

 

كانت المنظمات العنصرية والفاشية صغيرة ومتفرقة رغم كثرة عددها، ولم تثر عملياتها الارهابية شهية الاعلام الا قليلاً، إلا ان صعود الحركات اليمينية المتطرفة وفوزها بالسلطة في اميركا وعدد من دول العالم قد أعطى تلك المنظمات زخماً كبيرا،ً و شرعت في تكثيف نشاطاتها علنا،ً خاصة انها وجدت الكثير من المشتركات بين متبنياتها وتوجهات حكومات اليمين الجديد، وقد ساعدها تطور الانترنيت على توحيد نشاطاتها والتنسيق فيما بينها. 

في متابعة لما ينشره اعضاء تلك المنظمات في Chan 4 و Chan 8 و البرايتبارت والفيس بوك وغيرها، يبدو واضحاً التركيز على العنف كفعل رجولي، واتهام الخصوم بالميوعة والضعف (الانثوي)، اوباما مثلاً يظهر على صورة مثلي جنسياً، ترامب يظهر على صورة مصارع مفتول العضلات يعتصر خصومه في الحلبة، أو يغتصب عضوات الكونغرس الديمقراطيات ( من غير العرق الابيض طبعاً ). المسيرات التي تجمعهم بشكل متكرر في اورغن، فرجينيا، بنسلفانيا وغيرها، تعكس صورة واضحة عن استعلاء ذكوري جامح وفهم متعجرف للرجولة. أعداد كبيرة من الرجال يحملون الاسلحة الثقيلة، وترصع أجسامهم أوشام لحيوانات مفترسه أو صلبان معقوفة، يتعمدون اصدار صرخات كالزئير لبث الرعب، أو ينشدون المارشالات العسكرية كاثبات لرجولتهم. ذلك الجموح الذكوري وربط الرجولة بالعنف والتحدي وروح الانتقام والاقتحام، يشكل باعتقادي الاساس الثقافي والنفسي الذي يستثمر باستثارته القادة الشعبويون لتسويق ايديولوجيتهم المتطرفة والترويج لمفردات قاموسهم السياسي، فمن الرجولة حسم المواقف بالقوة والقسوة أو الحرب والعنف دون اي حساب لما يترتب على ذلك من مآسي، أو انتهاكات قانونية وأخلاقية، وبالمقابل فان الدبلوماسية والعقلنة والتخطيط بعيد المدى والأخذ بنظر الاعتبار القيم الانسانية والاخلاقية، كل ذلك بطر وميوعة و ضعف انثوي.

 

التراجع عن الخطأ رذيلة! ! :

 

اذا كانت القوة والضعف مرادفان للرجولة والانوثة بعرف اليمين المتطرف والفاشست، فان التراجع عن الخطأ والاعتذار ليس فضيلة، بل علامة من علامات الضعف ( الانثوي ) المرفوض قطعاً، وقد كان هتلر - حسب تقرير تحليلي لل CIA عام 1940 - يوصى قادة حزبه ان التراجع عن الخطأ والاعتذار أمام الشعب الالماني سيظهرهم بصورة الضعفاء ويفقدهم ثقة الشعب، فاذا ما حوصر أحدهم باتهام مثبت، عليهم ان يتهموا به خصومهم وان جزافاً، وبهذا يظهرون أمام الجماهير ضحايا وأقوياء في ذات الوقت، مما يكسبهم تعاطف الشعب. من الواضح ان ذلك الاسلوب يقود الى سلسلة اكاذيب تتكرر على الدوام على طريقة غوبلز الشهيرة اكذب .. اكذب حتى يصدقك الجميع. 

لقد لفت نظري أن تطابقاً مدهشاً بين بروباغاندا هتلر و قادة اليمين الشعبوي الجديد. لم يعترف أياً منهم أو يعتذر عن اي تجاوزات أو انتهاكات حتى وان كانت موثقة بالصوت والصورة، بل يردون السهام دوماً لخصومهم، وقد اضافوا اسلوباً ثعلبياً جديداً لعزل الجمهور عن الحقيقة، وذلك بادلاء التصريحات غير اللائقة يومياً أو اصدار قرارات مثيرة للجدل لأستدراج الاعلام للتعليق المستمر و توجيه الانتقادات لهم  على الدوام، وهكذا يظهرون هم بصورة الضحية المستهدفة من قبل الاعلام، وبالطبع يرافق ذلك حملة تتهم الاعلام بترويج ( الاخبار الكاذبة)، مما يحدث ارباكاً للجمهور وشكوكاً بكل ما يتم تداوله من اخبار، وهنا يحقق القائد الشعبوي هدفين، الاول : ان يكون هو لا غير مصدر ( الحقيقة )، فيلفق ما يحلو له أو ما تصطلح عليه مستشارة ترامب ( الحقيقة البديلة )، والثاني : ان يكسب تعاطف الجمهور على اعتباره ضحية يستهدفها الاعلام بغير حق.

 

برصد المشتركات بين متبنيات وافكار الحركات الفاشية في الفرن العشرين، و بين ايديولوجيا اليمين المتطرف والفاشية الجديدة اليوم، يبدو واضحاً ان النظام البطريركي في الحالتين يشكل احد المصادر المهمة لتغذية النزعات العنصرية و التمييز والاستعلاء العرقي و روح التسلط والعنف. لذا أرى ان مقاومة حلف اليمين مع الفاشية الجديدة بتواطؤ المحافظين، يجب ان يمضي جنباً الى جنب مع مسيرة الدفاع عن المرأة وتحررها من سطوة التسلط الذكوري.