الواقع الحقيقي في العراق، رغم صراعات السلطة ونزاعات الاستحواذ والنفوذ والاستئثار المشوب بالحذر بين الأحزاب والكتل والإئتلافات السياسية والرئاسات الثلاثة، يؤكد وجود سلطة أخرى، صاحبة القرار والنفوذ الواسعين، مصرّح لها، تعلو على السلطات الثلاث، وتضبط أمورها وإيقاع الصراع والنزاع بينها، وتبسط سلطانها عليها وتوجهها كما تريد، وتحميها من معارضيها إذا شاءت، وتستجيب لبعض نداءاتها المنسجمة من رغباتها. وفي ذات الوقت تؤرقها بضغوطاتها وبوصايتها السياسية والأمنية على البلاد، وترعبها بالتخلى عنها ودفعها نحو العزلة والتقوقع والقطيعة والتغيير وحتى الألغاء والإقصاء والاستئصال إن إعتبرتها مخالفة أو شكت في أمرها.
التخلي والحماية، عند هذه السلطة التي تمكنت من هندسة تشكيل الحكومات المتعاقبة في بغداد، والتحكم بالعديد من الملفات المهمة في العراق والتي تستقوي بالقوة التي تمتلكها وقوة الجهات التي تسير في فلكها وتأتمر بأوامرها في سبيل تحقيق أهدافها، مرهونان بطريق ذي إتجاهين:
الأول، الإلتزام بقناعاتها وقواعدها الفكرية ومعاييرها وأساليبها السلوكية الشائعة.
والثاني، الخروج عن ثوابتها السياسية والأمنية والإقتصادية. كما يتفاوت حدهما من زمن لآخر، فمن كان يعد محمياً ومستقطباً بالأمس قد لا يكون كذلك في الغد.
الوفدان الكوردستانيان اللذان زارا بغداد خلال الإسبوعين الماضيين، بحثا خلال إجتماعات ولقاءات متشبعة وعميقة مع رؤساء الجمهورية والبرلمان والحكومة، ووزراء المالية والتخطيط والنفط، وسفيري أمريكا وبريطانيا وممثلة الأمم المتحدة في العراق والكثير من الأطراف السياسية العراقية، بحثا عن معالجة المشكلات العالقة بين أربيل وبغداد، وكل ما بين ثنايا الأزمات المتعلقة بالنفط والموازنة والتجاوز على القانون والدستور. وقرعا بهدوء الحجة بالحجة، وحاججا الفكرة بالفكرة، والرأي بالرأي. وتمكّنا من النجاح عبر بيانات واشارات وشعارات متعارف عليها، وتضمينات تعنى بالتفاصيل المتعلقة بالأزمات المزمنة بين أربيل وبغداد.
الآخرون جميعهم، عدا الذين تدب الكراهية في نفوسهم والذين يعانون من العطب الفاضح في فهم القانون والدستور، أقروا بالحقوق الكوردستانية وإعتبروها حقوقاً وطنية وإنسانية، ورفضوا التعصب والتشدد وتعميق الهوة والتسويف والانقسام وتراكم الأزمات والزعم بامتلاك الحقيقة الكاملة. وأكدوا أن الظلم والإستهداف لا ينتجان العدالة والمساواة، وبالتالي لا يخلقان البيئة المناسبة لحل الخلافات بالحوار والتفاهم المشترك ولا يسهمان في تجفيف منابع التوتر. وقالوا أن العمل خلف كواليس الوضع المأساوي الذي يعيشه الشعب العراقي، إستهانة بحياة وحقوق المواطنين، ولعبة قذرة بمقدراته بشعارات مظللة في سبيل زيادة قتامة المشهد السياسي وإرباكه.
وفي ضوء تلك البيانات والإدعاءات تطرح أسئلة غريبة ومثيرة نفسها بشأن هذا النمط من التناقض الجوهري مع الدستور واختيار هذا التوقيت للإنقضاض على مستحقات الإقليم، وهي:
إذا كان الجميع يعتبرون قطع مستحقات الإقليم عمل غير قانوني وتجاوز على مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص، ويؤكدون على عدم جواز قطعه. فمن أوعز بوقف تمويل رواتب موظفي الإقليم ؟ من قطعه وتحت أي ذريعة؟ ومن هو الملام والمتهم والمذنب ؟ ولماذا مازالت المعالجات الفعلية برمتها مشلولة من حيث التطبيق؟.
الجواب هو: أن الوفدين الكوردستانيين، ربما أخطأَ في العنوان، أو لأنهما يمتلكان الإرادة والاستقلالية في القرار السياسي، ولهما قراءة مغايرة للأحداث في العراق والمنطقة، أهملا أو تجاهلا ذاك العنوان عن عمد. ولم يدخلا (مبنى السفارة) العالي للسلطة التي تعلو على بقية السلطات، والتي تمتلك قوة المعالجة الحقيقية للمشكلات .