إيران تبحث عن خلق الفوضى في منطقة الخليج الفارسي، هذا ما يرجحه معظم المحللين السياسيين، لكنها تفعل عن دراية وبحكمة، وتحاول جر الدول المجاورة إلى حرب ما، وتريد أن تستبعد أمريكا عنها، وذلك لقدراتها العسكرية الهائلة، والتي قد تؤدي إلى انهيار سلطة ولاية الفقيه، فتهديداتها للقوات الأمريكية هي في الواقع رسائل غير مباشرة للسعودية والإمارات وإسرائيل، ولا يستبعد أن تكون روسيا بحد ذاتها وراء هذه الإستراتيجية في التعامل مع القضية، كما وأن أمريكا لا تزال تحاول إرضاخ إيران عن طريق الترهيب والضغوطات الاقتصادية، والأخيرة بالضبط هي ما تدفع بإيران على عرض بديلها على طاولة الصراع، باستخدام أدواتها في المنطقة، أو كما فعلتها مع ناقلات النفط، بتعطيبها، مع نفي الفعل، ففي الحالة الأولى، أي ضرب الناقلات، تهديد لدول الخليج والمصالح الأمريكية. وفي الثانية، أي النفي، تحاول الابتعاد قدر الإمكان عن رد الفعل الأمريكي العسكري، علما أن العمليتين وضعت الولايات المتحدة أمام إشكالية عسكرية ودبلوماسية، وهذا ما تتبين من خلال ما يجري في أروقة الوزارتين الخارجية والدفاع، والمنقول بشكل ما إلى الإعلام، وهي لا تزال تبحث عن الأسلوب المناسب لرد الفعل، وحتى الأن تتبين وكأنها تغوص في مستنقع الصراع العسكري والذي يقف روسيا ولربما الصين بشكل غير مباشر مع الطرف الإيراني، والمواجهة لن تكون على سوية العراق.
ومن جهة أخرى فقد أصبح معروفا للكل ما بلغه مستويات انهيار الاقتصاد الإيراني، وقيمة عملتها، ودخلها الوطني بعد توسيع الحصار الأمريكي على صادراتها النفطية ومواردها من الخامات الأخرى، ومدى تأثيرها على أدواتها في الخارج، كدعمها لسوريا، وحزب الله، والحوثيين، ومنظماتها في أفغانستان، وغيرها، وهذا ما يدفع بها للإسراع في خلق الفوضى، وعلى الأغلب أن المنطقة الكردية واحدة من الجغرافيات التي ستتأثر بشكل مباشر، وببعدين:
1- من الناحية السياسية، سيتم إيقاظ القضية الكردية في إيران، ولربما تركيا، إلى سويات لم تبلغها سابقا، منذ انهيار جمهورية كردستان بمركزها مهاباد، ومثلها سيتم دعم الأطراف الأخرى في المحافل الدولية وعلى الإعلام، وقد يرقى التعامل العسكري مع جنوب غربي كردستان إلى السوية السياسية، ولا نستبعد أن يتم تراجع في الموقف الأمريكي من الاستفتاء الماضي لجنوب كردستان، ومن المرجح أن الهجمات الأخيرة على الاقتصاد الكردي في جنوب وجنوب غربي كردستان، كتدمير البنية التحتية الاقتصادية والديمغرافية لعفرين، وحرق المحاصيل الزراعية من كوباني مرورا بدرباسيه وقامشلو وتربه سبيه وكركي لكي إلى شنكال وحتى كركوك، أي عمليا مجمل جغرافية إقليمي كردستان، من ضمن التحركات الإقليمية ضد القوى الكردية المتوقعة أن تكون إحدى الأدوات الأمريكية في حال تصاعد الصراع إلى حالة المواجهة.
2- أما من الناحية الأمنية والاجتماعية والاقتصادية، فعلى الأغلب ستكون شبه كارثية، لأنها ستكون الأداة التي ستستخدمها أمريكا من جهة، وإيران من جهة أخرى، وبالتالي الشعب الكردي سيكون جزء من حطب نار الحرب، فيما إذا اشتعل.
ولا خلاف على أن الاستمرار السلمي لحالة الحصار الاقتصادي على إيران تصب لصالح أمريكا وحلفائها في المنطقة، ويضعف الجانب الإيراني، لأن اقتصادها بدأت تنهار يوم بعد أخر، فقد سقطت قيمة عملتها (تومان) في السنوات الأخيرة بوتيرة عالية، لكنها الأن تنهار، فمن 9 ألاف عام 2010م مقابل الدولار الواحد إلى قرابة 50 ألف تومان في افتتاحية السوق الأسبوع الماضي. وهبطت صادراتها النفطية من 2,5 مليون برميل يوميا في إبريل عام 2018م إلى 1,1 مليون برميل قبل أذار عام 2019م، وتوقفت في الشهر الماضي على قرابة 400 ألف برميل يوميا فقط، والهدف الأمريكي هي تصفير الصادرات. وهذا يعني أن دخلها من العملة الصعبة ستكون غير كافية لتمويل أي من مشاريعها، وبالتالي تأمل أمريكا إلى حدوث حالة غليان في الشارع، على الأقل بين المعارضة، فمدخولها من تصدير النفط سقطت من 81 مليون دولار في اليوم الواحد إلى أقل من 28 مليون دولار في الأسبوع الأول من أيار لهذا العام.
كما وأن إيران تعتبر ثاني دولة في العالم باحتياطي الغاز الطبيعي بعد روسيا، بكمية تبلغ 18% من الاحتياطي العالمي، وكانت حتى نهاية عام 2018م ثالث أكبر دول العالم في الإنتاج، إلا أن نسبة كبيرة منها تستهلك داخليا. وقدرت صادراتها في كانون الثاني لهذا العام، أي قبل تشديد الحصار في أذار، بـ 36,24 مليون متر مكعب يوميا، أي بمدخول سنوي بلغ 3,4 مليار دولار سنويا، لكنها هبطت إلى النصف بعد أذار الماضي، وتراجع دخلها إلى قرابة 2,4 مليار دولار سنويا، ولربما ستحافظ على هذا المستوى فيما إذا لم تتراجع تركيا عن الاتفاقية باستيراد غازها لمدة 25 سنة، وتركيا تقف على رأس قائمة الدول المستوردة وتأتي بعدها العراق، هذا ما صرح به رجب طيب أردوغان قبل شهر، مؤكداً أنه سيستمر في الاستيراد رغم التهديدات الأمريكية، فمن المعلوم أن 40% من طاقة تركيا الكهربائية تعتمد على الغاز الطبيعي، ونسبة عالية منها تستورد من إيران.
لا شك أن هذا المؤشر الاقتصادي يمكن تعميمه على جميع صادراتها، ودخلها القومي السنوي، وبالتالي على مشاريعها الاقتصادية والعسكرية، وعلى رأسهم مفاعلها النووية، مع الأخذ بعين الاعتبار تعامل الأنظمة الشمولية مع شعوبها وطرق تجويعهم تحت الشعارات المتعددة، للاستمرار في الحفاظ على قوتها الأمنية والعسكرية، وسلطة أئمة ولاية الفقيه واحدة من هذه الأنظمة، بل ربما أحنكها، لاعتمادها على البعدين: المذهب الشيعي مقابل السني وعلى رأسهم السعودية، ومن ثم وبشكل غير مباشر القومية الفارسية، مقابل القومية العربية. وفي الحالتين، سيتم تحريك قوى المنطقة، ومن بينهم الكرد، حتى ولو كانوا الحلقة الأضعف في الصراع، لكن لا يستبعد أن يتم دعمهم ليكونوا أحد القوى الرئيسة في جغرافية كردستان، أي في العراق وإيران وسوريا، وهنا لا يستبعد أن تندرج أو تدفع بتركيا مع ديمغرافيتها الكردية إليها كقوة سياسية وربما عسكرية واقتصادية.
ويرجح معظم المراقبين العسكريين قبل السياسيين احتمالية حصر الصراع في بعض المناوشات، العسكرية، أي أن أمريكا على الأغلب ستكتفي بضرب بعض المراكز العسكرية، بعد إعلام روسيا بما سيتم، كرد فعل على ما تم إتهام إيران به، مكتفية بالحصار الاقتصادي والتضيق العسكري، ولاعتبارات أوردناها سابقاً، وعلى الأغلب ستتدخل دول لحسم الصراع، وإعادة إيران إلى طاولة المفاوضات، وبدون شروط مسبقة، وروسيا ومن ثم الصين تقفان على رأس قائمة الدول الأكثر احتمالا في القدرة على حل النزاع، وليس المرجح من قبل أمريكا، وقد بدأ هذا المؤشر يظهر عندما فشلت الوساطة اليابانية عن طريق رئيس وزرائها، خاصة بعد قصف ناقلتها في الوقت الذي كان يحاور فيها شانزو إيبي الخامنئي، ولكن مع كل ذلك ستظل إيران، وتحت نظامها المذهبي الحالي، منبعاً للقلاقل والتهديد المتواصل لدول المنطقة وعلى رأسهم السعودية ولإسرائيل والمصالح الأمريكية، فلا يعقل أن تقوم بتغيير النهج الذي غرزه في تابعيها من المذهب الشيعي، أي نظام ولاية الفقيه، لمجرد اتفاقية عسكرية-سياسية، وعليه فخطر إيران سيظل دائما على الكرد، في الإقليم الجنوبي، وسيزداد فيما إذا زال الحصار الاقتصادي، ولهذا يتم ترجيح استمرارية الحصار، والمحاولات الأمريكية في تغيير النظام، خاصة فيما إذا ظل الجانب الأمريكي المحافظ كمستشار الأمن القومي جان بولتن، ومعه وزير الخارجية مايكل بومبيو، ونتنياهو في الجانب الأخر مسيطرون على الإدارة الحالية، ولكن ليس كما تم في العراق، بل بأساليب مختلفة.