في سبعينيات القرن الماضي والشاه ما يزال يتربع على عرش الامبراطوية الهرمة، بينما كان إلى الغرب من مملكته على ارض الرافدين قد بدأ إمبراطورا آخرا أولى خطواته باتجاه حجب الشمس عن تلك الإمبراطورية الغائرة في القدم والتعالي، كنت حينها مولعا بمشاهدة مباريات كرة القدم وخاصة تلك التي يكون العراق احد لاعبيها، حيث كنا نشاهد مباريات من تصفيات إحدى البطولات الدولية بين العراق وإيران، ومن ملاعب طهران كما أتذكر، والمشاهدة كانت في إحدى المقاهي الشعبية في مدينة الحلة، حيث تجمع عشرات الشبيبة في صالة ضيقة تعج بهم وبأصواتهم ودخان سكائرهم، وإذ بالمعلق يعلن تحقيق أول هدف لإيران، فما كان مني وبانفعال كروي معروف إلا أن ارمي شاشة التلفزيون بمنفضة السكائر الزجاجية التي تسببت في تحطيم الشاشة، وكادت نتائجها أن تحطمني حينما حول المتفرجين انفعالاتهم إلى ضرب مبرح، لولا تدخل صاحب المقهى لأعاقوني بسبب حرمانهم من التلفزيون!
بعد تلك (العلقة أو البسطة على الدارجة العراقية) عاهدت نفسي أن أضع بيني وبين كرة القدم جبل من نار كما كان وما يزال الكثير يتمنى مثل هذا الجبل بين الجارين اللدودين، حتى اختلط الحابل بالنابل ودارت رحى أكثر الحروب بطرا في العالم بين المتصارعين الكرويين والإمبراطوريين الجديدين، الأولى هرمة مترهلة زرقوها بمنشط عقائدي لإحيائها، والثانية من بقايا إمبراطوريات الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة التي غابت عنها الشمس وحاول احد المغمورين المغامرين أن يعيد تدويرها بإنتاج قنابل نووية ومفاعلات تموزية، فما كان من مغامراتهما البهلوانية إلا خسارتهما وانكفائهما يلعقان الجروح، وبينما الأول بدأ بمد اذرعه ومجساته إلى أشقاء العقيدة، ذهب الثاني إلى حماقة أخرى وغزوة أسقطت كل أحلامه والمغامرين معه في مستنقع الحصار ومن بعده الاحتلال وتصفيته وأركان دولته، وبيعها بالتفليش للطرف الثاني.
ودارت الأيام وامتدت أطراف الإمبراطورية الهشة يمينا ويسارا تحت رايات عقائدية مذهبية هذه المرة بعيدا عن القومية والعرق لكي تلهب مشاعر ملايين كانت تشعر بالمظلومية والحرمان من ممارسة طقوسها كما تريد، فإذ بها تقع فريسة بين أنياب نفوذ كاد أن يلغي وجودها وهويتها تحت شعارات تخديرية لولا أن صرخات الفقر المدقع والبطالة القاتلة والحرمان من ابسط حاجيات الحياة الكريمة وطغيان الفساد والفاسدين من النكرات وسقط المتاع التي أعادت الوعي واخترقت حاجز الخوف الذي حرر الملايين من حشيش الشعارات والأكاذيب والخرافات، وأسقط تلك الهالة من القدسية للأصنام الجدد وأحزابها المتعفنة.
وفي أول مباريات الصراع الكروي الذي أشعل فيها تمردا وانقضاضا على مخالب وأصابع كادت أن تخنقها، كان لي العودة الثانية بعد أكثر من أربعين عاما لأراقب بذات الانفعالات تلك المباريات التي حبست نتائجها أي تصرف يؤدي إلى كسر الشاشة التي تولى تحطيمها هذه المرة فتية خرجوا إلى الشوارع دونما مدرب أو حامي هدف إلا مشاعر جياشة أوقدتها كرة في شباك إيران وأعادتها جارة لدودة بعد أن كانت عزيزة جدا!