2020-01-27 13:56:27


ولماذا تختلف عن بقية المدن، ولماذا كل هذا الصراخ الفجيع، والإحتجاج الملفع برداء مصبوغ بحمرة الدم، وهذا الكم من الضحايا؟ وأليس الشعراء منها، والرجال الشجعان والمضحون، ومنها بزغت أولى الحضارات، وعلى ثراها تمرغت الأسود وزأرت، وفي بيوتاتها العتيقة سمع الملائكة صراخ الرضيع الجديد إبراهيم أبو الأنبياء، وأبو الديانات، وباني الكعبة، ومتوج إسماعيل وإسحاق ويعقوب، الرجل الذي خرج الى الدنيا منها، فتنازعه العراقيون، والعرب، وبقية الأمم، ويحلم بابا الفاتيكان في زيارة أور مدينته التي إنطلق منها نحو بابل والكوفة والأردن ومصر، وكان الملائكة يحيطونه، ويسافرون معه من بلد الى آخر، ويرعون أغنامه وعياله، ويسمعون ضحكة زوجه العجوز سارة فلاينزعجون، بل يكرمونها بإسحاق، ويبجسون عيون الماء من بين صخور مكة الصلدة ليسقوا إسماعيل وهاجر، وملايين البشر كل موسم، وكل يوم، وهم يطوفون في الكعبة، ويتنقلون بين أزقة المدينة المقدسة.
اسموها لينينغراد العراق حين بدأت قوافل الشيوعية تصل، ويحمل راياتها الشهيد فهد وسلام عادل، ولكنها غنت (ياحريمة) بصوت إبنها الشاكي حسين نعمة، قبل ذلك قدمت حضيري أبو عزيز، وداخل حسن، وناصر حكيم المغني الذي كان يعود من قهوته في علاوي الحلة ببغداد الى منزله المتواضع، ويلوح لأولاده بالخيزرانة ليصلوا، ولم تتردد في إنتاج دفعة من أروع الشعراء والكتاب والصحفيين والمبدعين في حقول المعرفة والعلوم. وهي مدينة (القيامة) في قصائد عريان السيد خلف حينما ينادي:
مو هاي القيامة إلمن بعد مذخور؟
هي أرض المتدينين، والشعراء والطامحين، ورجال العشائر، والسياسيين، ومدينة الحالمين بغرفة بائسة في شارع السعدون والباب الشرقي ليخرجوا عند الفجر يتوسلون عملا في البناء، أو في مطعم، أو في محال بيع الثياب، والبسطيات، فالفقر كافر، وقد قال علي أبو الفقراء: لو كان الفقر رجلا لقتلته.. فهل هم منتفضون على أيام وسنين، وعقود الوجع التي حفرت في أرواحهم وعقولهم، ليطالبوا بحقوقهم كما هي؟ فقد قدموا عشرات الضحايا، وأعلنوا مهلا وطنية، وتنادوا بالزحف في كل طريق، وكأن لسان حالهم يقول: إنها الفرصة التاريخية التي إن ذهبت فلن تعود؟
قدموا للناصرية مايقنعها، ليقتنع العراق وترتاحون.