كنت في نوم عميق، فقت على بكاء صغير بيتنا (كـايـا). فتحت صفحتي في الفيس بوك، أول منشور قرأته كان لصديقي «آرمانـج م أمين»، محاربٌ من محاربي بيشمركة غربي كوردستان «بيشمركة روژ»، يقول فيه متألّماً حاسراً: «سبعُ سنوات عِجاف مختزلة في الذاكرة، لم نتعلّم منها سوى صناعة البرغل، غذاء الفقراء»، نعم غذاء الفقراء، الفقراء الذين يدافعون عن كوردستان من كل قلب وربّ، الفقراء الذين يحمون مبادئهم في أزقة الشوارع المتعبة المثقلة بالجراح، الفقراء الذين يتعاملون مع الصغار والكبار بإنسانية لا حدود لها، الفقراء الذين يستغلّهم تجّار الحروب وقادة الجيوب.
لم يكن كلام الرجل سلبياً أو غامضاً، أو أن فيه رسائل مقصودة، فهو يمارس مع نفسه كلّ الأدوار العائلية، التي حرم منها لسبع سنوات من الثورة الكوردية والسورية ضدّ "ساسوكي" المقاومة والممانعة، لقد مارس دور الأب والأمّ والأخت والأخ وحتى الزوجة، باعتباره بعيداً عن أهله، جراء مخلّفات سايكس – بيكو، وسيفر، ولوزان، فهو وغيره من محاربي البيشمركة، يتمنّى لو يستفيق في الصباح على صوت أمه أو أبيه، أو عراك إخوته على الفطور أو الثياب أو العمل، يتمنّى لو أخته تقوم بكَيّ ثيابه وبدلته الرسمية، أو أن يسهر مع شقيقه في حوار عن الحبّ أو الحرب أو الخيانة أو رواية أو ديون شعر.
كان مواطناً سورياً في العلن، وكوردياً في الخفاء، صنّاع الاستبداد وخفافيش الديكتاتور حاولوا جعله بعثياً عفلقياً. خرج من مدينته كوباني تائهاً، ليكون في إقليم كوردستان لاجئاً، وأيّ لاجئ؟ وأيّ درجة من اللجوء؟ آرمانج، اللاجئ الذي استعصى الواقع المأساوي، وقرّر أن يكون فاعلاً كوبانياً ومؤثراً كوردياً، فانضمّ – كمتطوّع – إلى قوّات البيشمركة، التي تأسّست للدفاع عن أبناء غربي كوردستان، يوماً ما، حارب تنظيم "داعش" بالقلم والرصاص، استشهد له عشرات الأصدقاء وإخوة الدم والروح في المعارك، عمل إعلامياً حربياً في كتيبته، نظّم وقته، وتواجد في معظم أدوار الحياة، كان له حضور قويّ في مواقع التواصل الاجتماعي، كشاب له كاريزمته الخاصة، رفض تخوين إخوته المقاتلين المختلفين معه في العقيدة والإيديولوجية، يدرس الإدارة والقانون في جامعة أربيل التقنية.
سبع سنوات من الصراع مع البرغل والبطاطا والبندورة واللبن والخبز العادي، سبع سنوات والصدفة لم تحجز له موعداً، ليلتقي بوالديه وأخواته، علّمته الحياة أن يبتسم، في وقتٍ ينتظره الآخرون لأن يبكي! لم يتذوّق يوماً طعم الهزيمة، فعبارة «أصلاً عادي» كانت دواءً لانتكاساته الخاصة والعامة، لم يكن يحتاج لجرعة «فـودكـا»، ليسكر وينسى الألم ويحسّ بذرّة من الأمل، بقدر حاجته للقلوب الصافية والهادئة والهادفة، أو خشبة مسرح، ليصرخ بكلّ ما تحمل رئتاه من هواء "كفاكم جعجعةً في وطني".
آرمانج، العاشق والإعلامي والكاتب والجامعي والمحارب والإنسان، مثال حيّ، أتعايش معه على الصفحة الزرقاء، إذ أن هنا الآلاف الصادقون من محاربي البيشمركة ووحدات حماية الشعب، ممَن يتألّمون في الصباح والظهيرة والعصر والمساء وحتى بعد منتصف الليل، ولربّما آلامهم أكثر عمقاً وأثقل جراحاً من آلامه، فالسعادة والمشاعر الإيجابية بشكل عام تؤدّي إلى التقدّم والنجاح، والتغلّب على الجهل والفشل والخوف، وخاصة عندما يكون مصدرها أنشطة ثقافية فكرية إعلامية، وأعمال إنسانية ذات معنى.
ما عُرف عن البرغل في القِدم، أنه طعام الفقراء، الذين لا يملكون المال الكافي لشراء اللحوم والأطعمة الحديثة، والزعتر كان شقيقاً للبرغل، على مائدة الفقراء والتعساء، وللاحتيال على الفقر حينها، كانوا يسمّون الأول محرّكاً للذكاء، يوصف لتلامذة المدارس عند الفطور، أو شطيرة يأخذونها إلى المدرسة، أما الثاني، فكان يسمّى مسامير الركب، لأنه يساعد الفلاحين والعمّال والمحاربين على مكابدة أعمالهم اليومية الشاقة، هكذا كان يقول فقراء كوردستان، ممَن عانوا الاستبداد وذاقوا البارود والفوسفور، وخافوا من السفّاحين والجلادين ومصّاصي دماء الأبرياء والضعفاء.
لو كانت كتابة أقدارنا بأيدينا، لربّما لم نكن لنكتب قسمة حياتنا مع الشقاء والخوف والمستبدّين والأنظمة الديكتاتورية، ربّما كتبنا أقدارنا لنكون عظماء يخلّدهم التاريخ، أو زعماء يقودون الثورات، أو علماء يكتشفون أسرار وألغاز الوجود، أو أطباء يعالجون أخطر الأمراض والأوبئة، ربّما كنّا سبباً في القضاء على أسباب وجود الفقراء والتعساء والجبناء، ولكنه القدر يا صاحبي، كتابته ليست بأيدينا، فلو كانت كذلك فربّما لم نكن لنتعرّف على البرغل أو الزعتر أو العدس أو اللبن أو الخبز الجاف الذي لا رائحة له ولا طعم، بل كنّا من الذين لا يأكلون إلا كافيار الشرق، أو الكمأ الإيطالي الأبيض، أو الشوكولاتة المجمّدة، أو بطيخ اليوباري، أو بطيخ دانسوك الأسود، أو بيتزا رويال، أو سوشي، أو البرغر...
ما أردّت قوله هُنا، هو إن شَعَر هؤلاء المحاربين، المعروفون بالبيشمركة، بالإحباط والاستسلام والخوف من المصير المجهول أو المستقبل، فستنفرط القضية الكوردية كالمَسبَحة، ليتشرّد أبناء كوردستان في كل أصقاع العالم، وتفرغ المدن من ساكنيها الأصليين، فانهض أيّها المحارب، انهض أيّها البيشمركة، هل حِملُك أثقل من حمل الراحل مصطفى ملا بارزاني أو محمود الحفيد أو شيخ سعيد بيران أو مسعود بارزاني؟ هل حملك أثقل من آلام عفرين وكوباني وشنكال وكركوك وحلبجة؟ احمل العبء على ظهرك وانهض كالفرسان، فعشّاق الوطن معك، اليتامى ينتظرونك، الأمهات ينتظرنك، المحاربون المرابطون ينتظرونك، الفقراء الذين لا يجدون الحطب ليشعلوا بها النار أو الملح ليضعونه في العدس أو البرغل ينتظرونك، وتأكّد بأننا لا نناجيك بعواطفنا، بل نناجيك بعقولنا وواقعنا ومصائبنا.
قُم، وكوّن من أصابعك العشرة قبضتان كوبانيتان ولكمتان كورديتان، لكمة لأعدائنا، ولكمة لخونتنا، فالشعب الكوردي ومنذ قرون، تحوّل إلى جوقة مسرح قديم، يعاني الأنفال والمجازر، يبكي آلام آذار وأيلول، يستنجد ويصلّي، يحارب الرجيم، ويتقوّى بالرحيم، يتفرّج العالم على مسرحياته، بل صار بعضه يستمتع بمشاهد قتلنا وتعذيبنا واضطهادنا، وراح يبحث عنها وينتظر منها المزيد. مللنا من فرجة الآخر على مقتلنا، ومن عبارات باردة تحمل تعاطفاً كاذباً وكليشيهات غير أصيلة، لأن العالم كما يبدو، لم يعد يهتم بأفلام الرعب التي يمارسوها ضدّ كبارنا وصغارنا، بل صارت متعته، مشاهدة مقتل الشعب الكوردي على مسارح مباشرة، موت حقيقي، وجثث من لحم ودم، دون إكسسوارات أو تمرينات على الأداء.
لكوني مؤمن بالمدرسة البارزانية والكورداياتية، التي حرّرت نفسها من العقلية العشائرية والدينية، لتتحوّل إلى بوصلة قومية للكورد، في الأجزاء الخمسة من كوردستان، فهذا لا يعني بأني أعادي وأخوّن أولئك الشجعان، الذين يحاربون ويأكلون ويشربون وينامون في خنادق المعارك والحروب، الذين وضعوا تحرير شعب ومدن غربي كوردستان نصب أعينهم وقلوبهم، رغم الأوامر الغامضة التي تأتي من مواقع ومراكز متخفية، شجعان وحدات حماية الشعب، الأحياء منهم والأموات.