2020-06-02 09:08:51
شخصيته الجادة وخطابه الصادق وروحه المتوقدة وعقيدته الثابتة ، والعمة التي يرتديها ، تعطيك انطباعاً مغايراً لما يحمل قلبه النابض بالحب والمتحسس للجمال باقصى درجاته .
إنه الشيخ أحمد الوائلي رجل الدين المنفتح الذي يعيش الحياة كباقي الناس ببساطة وعفوية وسلاسة ، يفهم الدين على انه الحياة ، الدين الذي لا يحرِّم زينة الله الذي اخرج لعباده ، الدين الذي ينظر للحياة بكل ابعادها، بعيداً عن التشنج والتزمت، ورائحة الدم ، الدين اليسر ، الذي يقبل الاخر على قاعدة لكم دينكم ولي دين .
لم يكن الوائلي بِدْعَاً من مجايليه من رجال الدين كمصطفى جمال الدين ومحمد جواد السهلاني الذين عرفوا الدين هو الحب والسلام والامان والجمال ، واسلوب حياة ، عرفوا الدين حرية في فهم الكون و عشق الخالق ، كما عرفوا ان رجل الدين هو الروح الشفافة الرقيقة التي تعشق الجمال بكل اشكاله. الروح المسترخية التي لا تعرف التشنج والانفعال السلبي .
تهزه المرأة الجميلة والكلمة الطيبة واللحن الرقيق وعطر الزهور، وزقزقة العصافير ، ونوح الحمام ، كما يهزه الدعاء و النجوى ، والدموع الساخنة من اجل الله.
يسرح بخيال العاشق في شوارع دمشق متغزلا بها وبنسائها بلغةٍ رقراقة وبمشاعر ملتهبة وقلب متحرق باللوعة والصبابة، يهزه الشَعرُ الذهبي المكنون المتطاير في الهواء لفتاة دمشقية فيقول :
دمشق كنوزٌ وحق السماء***** صبا بردى والوجوه الوضاء
وعين يغرد فيها الهـــوى***** وثغر يضج به الاشتـــهاء
وتلك النهود بتلك الصدو ***** ر فيالق هادرة بالحِداء
وموجٌ تمرد في وثبةٍ *****وشد بفستانها للوراء
ونرى التشبيه الجميل بين الأكف المرتفعة المتضرعة لله بالدعاء وبين نهود العذارى
فيقول :
تشيل لاعلى كـ كفَّي سقيم ***** ألح على ربه بالدعاء
وتطير روحه العفيفة سابحةً في فضاء الجمال وهو في حضرة التجلي بحسناوات الشام فيقول :
دمشقُ حسانك هل أُلحِفتْ ***** بوردٍ وهل سبِّحت بالسناء
وهل نبع التبر من رأسها ***** وطارت سبائكه في الهواء
فراحت تحدث عن نعمةٍ ***** وتكشف ما عندها للعراء
ولما تعرى الجمال الأنيق ***** تحسَّر للصيف فصل الشتاء
ومدَّ ذو الفسق والصالحون ***** عيونا فهم في التملي سواء
ثم يتسامى في وصفه للجمال ويختلط بالعرفان الديني، ويصف الملائكة بانهم كباقي الناس أسرهم جمال نساء دمشق ، ولم يكتبوا سوى الحسنات فيقول:
وتَيَّمَتْ الكاتبين الكرام ***** فلم يكتبوا ما عليه جزاء
هذه الروح هي انعكاس حقيقي لرجال الدين الصادقين الذين قدموا الثقافة الدينية بأبهى صورها فحجزوا لهم أماكن في قلوب الناس، قدموا ثقافة التعايش ، فكانوا مصداقاً للقول المأثور ( الخلق كلهم عيال الله ، أبرهم بعياله أحبهم اليه )
الوائلي امتداد أصيل وحقيقي لمدرسة الشريف الرضي و محمد سعيد الحبوبي وغيرهم .
فقد كان الشريف الرضي نقيب الإشراف ورجل الدين التقي هو الاخر يعتبر الحب والجمال مظهران لنعم الله فيقول في واحدة من قصائده الحجازية :
بتنا ضجيعين في ثوبَّي هوى و تقى ***** يلفنا الشوق من فرع الى قدم ِ
يشي بنا الطيب أحياناً و آونةً ***** يضيئنا البرق مجتازاً على أضم ِ
وكتب قصيدته المغناة على أوتار قلبه الشجي
ياضبية ألبان ترعى في خمائله ***** ليهنك اليوم ان القلب مرعاكِ
فكما كان الشريف الرضي كان الحبوبي يتغزل بالخمر والنساء ولم تفارقه العفة فيقول :
يا غزال الكرخ وا لهفي عليك ***** كاد سري فيك ان ينتهكا
هذه الصهباء والكأس لديك ***** وغرامي في هواك احتنكا
فاسقني كأس وخُذْ كأساً اليكِ***** فلذيذ العيش ان نشتركا
لعل البعض يعجب كيف لرجل دين ان يكتب بالغزل والخمر والنساء .
سئل مصطفى جمال الدين كيف جمعت بين الدين والغزل فاجاب وهل خلق الله رجل الدين بدون قلب او قلب من صخر، ويقول في احدى قصائده وهو يخاطب الحبيب :
أنت الذي قلت جنان الهوى ***** ريحانهن القبل العارمة
وقلت ما الحبُ سوى دوحة ***** أغصانها السواعد الناعمة
أوراقها تلك الشعور التي *****
تفيأتها الأنفسُ الهائمة
وهذه النهود أثمارها*****
والزهرُ تلك الأوجهُ الباسمة
والحبُ يا سيدتي نقمة *****
زائــلة ونعمة دائمة
لم يكتب الحبوبي او جمال الدين او الرضي أو الوائلي الشعر بمجون ، بل كتبوا الغزل بروح العاشق المتصوف العفيف الذي يرى الاشياء بتجرد كبير ، بروح المؤمن الصادق والمبهور بعظمة الخالق .
وللحديث تتمة ..