تحولات مريبة غير واضحة المعالم بعد، تجري على السياسة الخارجية التركية، تشبه نوع من التنازل لأمريكا أو التقرب منها، بدأت بعد اللقاء الأخير القصير بين ترمب وأردوغان على هامش جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، ومؤشراتها تظهر من خلال تصريحات أردوغان المفاجئة للصحفيين في طائرته، أثناء عودته من المجر، والصمت الأمريكي حول بعض القضايا ومنها:
1- قضية القس الأمريكي برونسون، وإطلاق سراحه، ووضعه تحت الإقامة الجبرية مؤقتا في بيته، بعد أن كان قد حكم عليه بـ 3 سنوات ونصف، وكان متوقعا أن تكون 10 سنوات، وسفره المفاجئ إلى أمريكا، وكل هذا بعد وصول أردوغان إلى تركيا بعدة بساعات.
2- حديثه عن عدم بلوغ اتفاقية مع الأمريكيين على مدينة منبج، رغم التحشدات العسكرية على أطراف جرابلس، وهذا التصريح المريب يصدر لأول مرة عن الجانب التركي وعلى أعلى المستويات، بأنهم لم يصلوا سابقا إلى أي اتفاق، متناقضا مع كل تصريحات وزير خارجيته على مدى السنتين السابقتين.
3- الاهتمام الزائد بالصحفي السعودي جمال خاشقجي والتي تتوافق وسياسة تركيا وقطر ضد السعودية.
4- تركيز أمريكا على المعلومات المقدمة من المخابرات التركية في قضية الصحفي المذكور، في اتهام السعودية.
5- تقارب أراء الطرفين في دعم المعارضة السورية في إدلب، رغم أن تركيا متفقة في الأروقة الخلفية وما وراء الإعلام، مع روسيا على التخلص من معظم المنظمات المعارضة المسلحة أو حتى من جميعها في النهاية، بأية طريقة كانت، شريطة روسيا بالمقابل تساعدها على تمرير مصالحها ومنها القضية الكردية، والدعم اللوجستي في مواجهة الناتو.
6- الاستقرار في صرف العملة التركية في الشهر الأخير أمام الدولار، بعد التدهور السريع قبل شهرين.
7- الصمت حول الحصار الاقتصادي على تركيا، والتوقف عند حدود معينة، وعدم تفعيلها كما كان متوقعا.
8- الاستثمار المفاجئ الذي قدم لتركيا بقيمة 7 مليارات دولارات من إحدى الشركات الاستثمارية العالمية، والمتوقع أن تصل إلى 11 مليار في الأسابيع القادمة، وبعد جولات لأردوغان في العديد من الدول بحثا عن مستثمرين ودون نتيجة، لأن سمعتها العالمية متدهورة إلى درجة أن معظم الشركات ليس فقط طالبت بديونها بل رفعت من أسعار الفائدة بشكل كبير.
9- الاستقرار غير المتوقع في النمو الاقتصادي، في الشهر الأخير، بعد مسيرة التدهور المتزايد، أو هكذا ما يقال في الإعلام التركي، ولا يأتي الرد من مراكز المراقبة الدولية للرأسمال العالمي.
10- الصمت في الفترة الأخيرة من قبل إدارة ترمب، والإعلام الأمريكي، على الاعتقالات التركية اليومية للسياسيين والإعلاميين والصحفيين وقتل البعض منهم، وبالمقابل إثارة قضية الصحفي السعودي في تركيا وبقوة في الإعلام والإدارة.
11- وهناك في الطرف الأخر حديث يجري على الصحافة عن تقارب ما وراء الكواليس بين إسرائيل وتركيا، وتوقع في استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، ويقال أنه جرى لقاء بينهما في دولة الإمارات العربية المتحدة الشهر الماضي، كما وأرسلت تركيا مؤخرا ملحقا اقتصاديا إلى إسرائيل، ولذلك يرجح أن تكون لإسرائيل دور ما في الاستثمار الأخير.
هذه المؤشرات تخلق أسئلة متنوعة وأحيانا متضاربة، منها:
1- هل تركيا تتراجع عن تصلبها، وستحاول أو حتى لو حاولت ستتمكن التخلي عن روسيا أو التخلص منها؟
2- هل ترى تركيا أن مصالحها تتضرر أكثر بتصلبها هذا، أو لنقل بمواجهتها لدول الناتو وعلى رأسهم أمريكا، إلى درجة أصبحت تراها، وتنشر في صحافتها وبين مواطنيها، كدولة كعدوة وليست حليفة؟
3- هل ستتراجع عن التوجه الإسلامي الراديكالي، وتعود إلى ليبراليتها السابقة، بعد أن أدى انحرافها إلى تراجع الشركات الرأسمالية العالمية على دعم اقتصادها، وتأكدت أنها ستنهار فيما لو استمرت على نهجها هذا؟
4- أم أنها تلعب على سياسة عدم التخلي عن الطرفين، أو إرضاءهما، بتقديم التنازلات المتمكنة منها، كالتخلص من المعارضة السورية المسلحة لإرضاء روسيا، وإطلاق سراح القس وعدم إثارة قضية منبج وشرقي الفرات لإرضاء أمريكا.
علما أن الخلافات التي تمت بينهم، ومعهم دول الناتو الأخرى، بلغت درجة شبه القطيعة، والكلمة الأخيرة ملغية في عالم السياسة، والأصعب هو الخلاف الإيديولوجي بين تركيا والدول الأوربية ونظرة حزب العدالة والتنمية لأمريكا كدولة متحكمة بأمورها منذ قرن من الزمن وهي الأن تجد ذاتها دولة متحررة من هيمنتها، ولا ننسى الصدع الرهيب على خلفية الانقلاب الفاشل، وفي النهاية التقارب الكبير بينها وبين روسيا، والتي فيها عداوة مباشرة للناتو وأمريكا.
5- فهل أمريكا ستتخلى عن كل هذا، وستعفو عن أموالها المجمدة على خلفية تعاملها مع إيران، وهل ستسلم فتح الله غولن إلى أردوغان؟ أسئلة مشكوكة في تحقيقها.
6- أم أنها مسألة مد وجزر، فالعلاقات العسكرية والاقتصادية على الأقل، عميقة إلى درجة ليست من السهولة قطعها بسنوات قليلة، (وجدير بالذكر لشركة عائلة ترمب العقارية ذاتها استثمارات عديدة ضمن تركيا، وفي العديد من مدنها).
ولا ننسى مسألة اللاجئين السوريين، كورقة رابحة في إيدي أردوغان، والتي تضغط بها على أوربا وهؤلاء بدورهم على أمريكان للتساهل مع التجاوزات التركية، ودور الأخيرة في المسيرة السياسية السورية، لا تستطيع لا أمريكا ولا روسيا التغاضي عنها.
ولا شك أن القضية الكردية من إحدى القضايا الرئيسة التي تحرك استراتيجية أردوغان وتنقله من جهة إلى أخرى، والتي يدرجها على رأس قائمة الأخطار التي تواجهها تركيا، أي بما معناه تقف عليها وحدة تركيا أو تفتتها، ولكنها ليست الوحيدة في تغيير مواقفه بين أوربا وأمريكا وروسيا، فيه دولة ذات مؤسسات عالمية ولها علاقات دولية، وتتحكم بمسيرتها السياسية والاقتصادية قضايا متنوعة، لا تقل ثقلا وأهمية عن القضية الكردية والكردستانية.
وبالتالي إلى إي مدى ستتمكن تركيا الأردوغانية من تقديم الخدمات للطرفين، وبهذه الطرق المبتذلة، أو إلى أي حد ستتقبل منها روسيا وأمريكا نفاقها الدبلوماسي هذا وتبجحها عليهم، وأساليبها الملتوية لتمرير مصالحها؟ وجميع الأطراف يعلمون دقائق مجريات الأحداث، وعدم مصداقية أردوغان، ومدى ترجيح مصلحة حزبه الإخواني ذو التوجه الراديكالي الإسلامي على تركيا، ومن ثم مصلحة تركيا على الاتفاقيات الدبلوماسية، ومن السهولة التخلي عنها إذا دعت الضرورة، أي بما معناه كم ستطول هذه اللعبة بينهم على حساب مصير شعوب المنطقة وعلى رأسهم الشعبين الكردي والسوري؟