جميع من كان في المقهى المحاذي للنهر في تلك الليلة، رأى "قسمت" تجرّ طفلة في الثانية من عمرها، وتحمل طفلاً رضيعاً، وتمشي باتجاه النهر. ثم تقذف بصغارها فيه قبل أن ترمي نفسها هي الأخرى منتحرة.
لا أحد عرف أسباب هذا الفعل، ولا نحن أيضاً، وهذا ما يجعلنا نكمل قراءة رواية "قسمت" للكاتبة الكوردية العراقية "حوراء النداوي"، فإذ بنا أمام حكاية تروي تاريخ أسرة من الكورد الفيليين في مدينة بغداد، على امتداد ستين عاماً. والكورد الفيلية هم من سكان المناطق الحدودية في العراق وإيران، ويدينون بالمذهب الشيعي.
تعيش العائلة سطوة هذه المأساة، وحزنها. ومن خلال سرد تفاصيل أيام العزاء وما يجري فيها، تتناسل حكايات أفراد الأسرة، وصولاً إلى الجد الأكبر الذي هرب من الوالي متجهاً إلى بغداد، واتخذها مستقراً له، وأصبح من الكورد العراقيين بعد أن انقسم قومه إلى نصفين، نصف عراقي ونصف إيراني، حين أطاح الشاه "رضا بهلوي" بالحكم الذاتي، وأسس دولة إيران، ضاماً إليها إقليم "لورستان".
"ورغم هذه الفوضى التي مزقت ملته إلا أن الملّا لم يكن يفكر كثيراً في السياسات التي شطرت قومه إلى نصفين. فهو لم يحلم مثلما ستحلم أجيال من بعده بفكرة الحكم الذاتي أو الانفصال بغية التخلص من الظلم والتعسف اللذين سيلحقان بهم وقد تقاسمتهما دولتان، كلٌ تحاول توطينهم وتغييرهم بحسب القومية التي تنادي بها".
تقدّم الرواية عدداً من الشخصيات اللافتة، ومن هذه الشخصيات الكثيرة، هناك "بري" المهووسة بالنظافة، و"رضا" العم الذي تزوج من "شازي" المرأة غريبة الأطوار وصعبة الطباع، والتي دفعته في النهاية إلى تكرار فعلة "قسمت"، فمات منتحراً.
أما الشخصية الأبرز فهي شخصية "بركة" الذي عاد من الموت وأصبح قارئاً للغيب، ومتنبئاً، وكان كل من يريد معرفة شيء في المستقبل يلجأ إلى نبوءاته. ولـ"بركة" حكاية تتكشف رويداً رويداً على امتداد السرد.
أما أهم نبوءاته: "هذا البلد لن يعيش بسلام وسيصل غبار خرابه إلى السماء"، فتنزرع في رؤوس أفراد عائلة "الملّا"، وتخرّب طمأنينتهم وهناءة عيشهم، إلى أن يأتي اليوم الذي تتحقق فيه فعلاً.
تقسم "النداوي" روايتها إلى ثلاثة أقسام، تروي في الأول منها عيش هذه الأسرة الكوردية في بغداد، قبل أن يتم تهجيرهم بعد وصول حزب البعث العراقي إلى السلطة، بذريعة أنهم ينتمون إلى إيران.
أما في القسم الثاني فتترك السرد لثلاث شخصيات هم أبناء الجيل الثاني الذين أصبحوا مشتتين في بقاع الأرض، ولعل ما يكتبه "لؤي" في الفصل الخاص به، هو الأكثر تعبيراً عن هذه المأساة التي وجد قومه أنفسهم فيها، بعد أن طردوا من بلاد أحسوا بالانتماء إليها، لكن السلطة اعتبرت ولاءهم لبلدٍ آخر.
"لماذا يوجد من يقرر لي شكل وروح وطني؟ وكيف تأتت له السلطة التي تخوله لتجريدي منه لأن جداً لي لا أعرفه، حدث أن سقط سهواً في موقع جغرافي بعيد؟ (...) حين بلوروا المشاعر الكثيرة للفخر وقولبوا أشكال الانتماء لم يحدث أن سألوني، ولو فعلوا بالذات حين اقتطعت من جذري ورميت على قارعة غربة هائلة مجردة من هويتي وعمري، لكنت كفرت بكل تأريخهم، حدودهم، فخرهم وانتماءاتهم الهشة، فهؤلاء القساة أهملوا تماماً حقيقة أنني أنا الوطن بذاته ماشياً على قدمين تحملان عود مراهق نحيل".
هكذا، تروي الكاتبة في هذين القسمين سيرة أزيد من خمسة وخمسين عاماً من حياة العائلة بأجيالها الثلاثة، وسيرة شتاتها وتهجيرها، قبل أن تعود في القسم الثالث والأخير إلى سنتين مفصليتين: الأولى هي سنة 2004 بعد سقوط بغداد، وعودة بعض أفراد العائلة إليها، والثانية هي عام 1950 التي بدأت الرواية بها، وتحديداً إلى الأيام القليلة التي سبقت حادثة الانتحار.
على الرغم من أن وجودها الفعلي ينتهي مع الصفحات الأولى، إلا أن طيف "قسمت" يظل حاضراً على امتداد العمل، بل يبدو وكأنه يحرس أفراد العائلة ويوجّه مصائرهم.
كل شخصية في الرواية رأت طيف "قسمت" في لحظة مهمة من حياتها، وعرفتها، سواء كانت بلباسها الكوردي الفاقع على قمة جبل، أو بثوب أحمر بين المتظاهرين في إيران، أو خارجة من ماء دجلة تبتسم!
مؤلفة الرواية حوراء النداوي، من مواليد 1984، نشأت في الدنمارك وتعيش حالياً في لندن. "تحت سماء كوبنهاجن" التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية عام 2012 هي روايتها الأولى، أما "قسمت" فهي روايتها الثانية (عدد صفحاتها 304)، من منشورات الجمل/ بغداد - بيروت، الطبعة الأولى: 2018.
فايز علام