شفق نيوز/ برغم عدم انغماسه بالعمل السياسي منذ فترة طويلة، يبدو ان رئيس الوزراء العراقي الجديد مصطفى الكاظمي، بدأ يضع بصماته المثيرة للتفاؤل في أكثر من مكان، ما من شأنه ان يعزز الآمال بتغييرات مشجعة في نواح عدة: اسلوب الادارة، كسر بعض "التابوهات"، تطوير سمعة الدولة واجهزتها في معالجة قضايا العراقيين.
المبادرات والقرارات المتتالية التي يقوم بها الكاظمي تترك عند كثيرين انطباعات بامكانية تحريك المياه الراكدة فيما يتعلق بالعمل الحكومي والحركة السياسية في العراق التي تحكمها منذ سنوات قيود ومحاذير عديدة، بعضها داخلي وبعضها خارجي، لكنها فرضت رتابة وتعثرات كثيرة، في امكانية عمل رئيس الوزراء بشكل أكثر فعالية.
ولعل الكاظمي يقتحم أسوار "الدولة العميقة" كما اشرت سابقاً وكالة شفق نيوز، فمن أجل تحريك هذه المياه الراكدة، لا يحتاج الى معجزة، وانما الى بعض الجرأة ويبدو انه يمارسها بالفعل، مستفيدا من أجواء تعطش العراقيين للاحساس بان الدولة تعمل بعدما دخلت في شلل طوعي باستقالة رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي قبل ستة شهور. يستفيد أيضا من الخلفية الأمنية التي جاء منها بعدما تولى جهاز المخابرات.
في مقارباته خلال الايام العشرة الماضية، يبدو الكاظمي كمن يفكك عبوات ناسفة، يعمل بكثير من الدقة والحذر وانما بثقة. يميز بين ألوان خيوط العبوة، الاصفر والاخضر والازرق، حتى لا ينتزع احداها بالتوقيت الخطأ أو بالشكل الخطأ. خذ مثلا عندما أمر قبل يومين بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق عن احتمال وجود سجون سرية يحتجز فيها متظاهرون، تابعة لاجهزة في الدولة.
انها واحدة من القضايا التي يندر التطرق اليها في العراق بشكل علني. لكن ثقته في أهمية المبادرة للقيام بهذه الخطوة جعلته يكلف علانية وزير الداخلية الفريق الركن عثمان الغانمي ليترأس اللجنة، وستكون من بين مهماتها تفتيش "أي مؤسسة أمنية أو مبنى يشتبه بوجود سجن سري داخله".
ومن غير المتصور ان اي جهة سياسية او أمنية او برلمانية، يمكنها الاعتراض او التشكيك او رفض مبادرة كهذه، لانها ستحكم على نفسها بأنها متورطة بمثل هذه الاعمال المشينة أمام الرأي العام العراقي.
انه التفكيك الحذر للدولة العميقة. بعد اربعة ايام على انتخابه في البرلمان، حط الكاظمي فجأة في مبنى هيئة التقاعد العامة التي تتولى الاشراف على صرف رواتب المتقاعدين المتأخرة. هناك تبادل الحديث مع موظفين ومواطنين يتابعون معاملاتهم، قبل ان يبلغه احد الموظفين انه يعرف شقيقه الاكبر عماد المقيم في اوروبا وان له معاملة ادارية يقوم بانجازها له.
وبرغم الجدل الواسع الذي اثارته هذه الواقعة على وسائل التواصل الاجتماعي، الا اغتنام الكاظمي هذه الفرصة ليوجه رسالة اصلاح واضحة، كسرت معايير سائدة في الحياة السياسية العراقية حيث ان المحسوبيات صارت سيدة التعامل ودربا الى الفساد المقبول عموما، حيث رأى العراقيون كيف ان اقارب ومعارف السياسيين عموما، تسلقوا الى مناصب حكومية او حققوا منافع مالية بفعل هذه الروابط الشخصية.
المهم ان الكاظمي رأى فيها فرصة للبدء بتحطيم حالة التطبيع مع المحسوبيات والانتهازيين، وهذه تحسب له، لا عليه، فقد اتصل فورا بشقيقه وطلب منه عدم الاتصال بأي أحد في الدولة العراقية بصفته شقيق رئيس الوزراء، محذرا إياه بلهجة عراقية "دير بالك (إحذر)".
ويبدو أن المسألة ان شقيقه عماد لم يتصل بأحد، وانما بالفعل له معاملة ورقية مقدمة منذ خمسة شهور، لكن الموظف اراد التباهي بأنه يخدم رئيس الوزراء من خلال خدمة شقيقه. ولهذا كانت ردة فعل الكاظمي، مبعث تفاؤل بأن شيئا يتغير، اذ كان بامكانه تجاهل الخبرية، والمضي بجولته كالمعتاد. وهذا هو بيت القصيد.
ولمن يعرف العراق وشبكات الفساد والمحسوبيات التي تتحكم بمفاصله، يدرك حجم العبوة التي مد الكاظمي يديه لتفكيكها. ولكي تصل الرسالة المقصودة منه بشكل أوضح، استقبل بعدها بأيام، رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان وأعضاء المجلس، مشددا، بحسب البيان الموزع من مكتبه، على دور القضاء في اعادة الثقة بالدولة العراقية، من خلال سيادة القانون، وبمواجهة الفساد والجريمة والارهاب.
هذا امتحان دقيق لحكومة الكاظمي في أيامها الأولى. وسيكون أحد تجلياتها، ايعازه باطلاق سراح المتظاهرين المعتقلين من دون محاكمات خلال الشهور الماضية، وهو ملف باشر مجلس القضاء الاعلى بمعالجته، بموجب المادة 38 في الدستور.
ولا يتوقف هذا المف هنا، فمنذ اسبوع، أمر الكاظمي، بصفته القائد العام للقوات المسلحة، بإطلاق سراح الموقوفين من المتظاهرين بالتنسيق مع القضاء عدا المتورطين بالدم العراقي، وحماية المتظاهرين السلميين ومنع العنف بكافة اشكاله. وستترك هذه المبادرة الجريئة ارتياحا في اوساط المتظاهرين والعراقيين عموما.
وذهب الكاظمي أبعد من ذلك. في الجلسة الثانية لحكومته، حرص على التأكيد ان حكومته "لن تتسامح مع أي اعتداء" يتعرض له المتظاهرون، ليضيف بعدها ان "الحكومة هدفها تحقيق تطلعاتهم المشروعة".
وكبادرة أخرى، ذكر مكتب رئيس الوزراء ان وفدا من مستشاري الكاظمي، التقى بممثلين عن المتظاهرين والناشطين في محافظة واسط، وجرى الاستماع الى مطالبهم، لنقلها الى الكاظمي.
وقد لا تكون النظرة التفاؤلية مقتصرة على المواطنين العراقيين وحدهم. قوى وشخصيات سياسية، بدأت تظهر علامات تعاون وتعامل ايجابي مع الكاظمي وسياساته. خذ مثلا التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر الذي اعتاد على منح مهلة زمنية مدتها مئة يوم، لكل حكومة كانت تتشكل، قبل ان يبادر الى الهجوم عليها وتنظيم تظاهرات ضدها.
صحيح ان النائب عن تحالف سائرون جمال فاخر، قال لوكالة شفق نيوز إنه "في حال انتهت مهلة الـ(100)، ولم نقتنع بأداء وعمل رئيس الوزراء الجديد، فسيكون لنا موقف وكلمة، ولكل حادث حديث"، لكن مقتدى الصدر نفسه قال عن الكاظمي "إني أجده جاداً في عمله وأرجو منه قوة القلب حبّاً بالوطن"، مؤكداً على منحه مهلة المئة يوم كفرصة لاظهار جدارته.
وكمثال صارخ على قدرة الكاظمي على تعديل مواقف السياسيين منه من الحذر الى الايجابية، قال رئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، الذي لم يمنح حكومة الكاظمي الثقة البرلمانية، انه سيدعم أية خطوة تقوم بها الحكومة من تقديم الخدمات والحفاظ على هيبة وسيادة الدولة وفرض الأمن.
وحتى ان المالكي ذهب في حديث إذاعي في المقابل الى محاولة تبرير طبيعة موقفه المقاطع لحكومة الكاظمي مشيرا الى ان اعتراض ائتلاف دولة القانون عليه كان "على آلية أختيار الوزراء والطريقة التي قدمت بها والتي مثلت العودة إلى مربع المحاصصة لذا فأن الائتلاف لم يشترك بحكومة مبنية على المحاصصة كونه يخشى من نتائجها على عملية الاستقرار السياسي".
ولهذا فان تعديل لهجة المالكي الذي يمثل قوة سياسية – برلمانية وازنة في اللعبة السياسية، قد يشكل مكسبا يحسب لصالح الكاظمي، برغم انه لم يبادر باتجاه تيار المالكي، وانما لمجرد انه بدأ يظهر جدية وجرأة في مقاربته للامور في أيامه العشرة الاولى.
تعديل مهم أيضا في تفكيك العبوات الحساسة. قيادي في تحالف الفتح الذي منح تأييده لحكومة الكاظمي، وهو من القوى المقربة من ايران، قال قبل ثلاثة أيام، انه يرجح أن تُوقِف القوى المعارضة للتواجد الاميركي في العراق تصعيدها ضد الولايات المتحدة، لاسباب من بينها "ظروف العراق الحالية".
"رقصة التانغو" الاميركية – الايرانية يبدو انها بدأت تعطي ثمارها. فالنائب عن كتلة الفتح النائب حنين القدو، قال لوكالة شفق نيوز بوضوح إن "التصعيد مع الولايات المتحدة حالياً، ليس من صالح القوى المعارضة للتواجد الاميركي في العراق" بسبب "الظروف الاقتصادية والأمنية والصحية وغيرها، التي يمر بها العراق"، وأيضا الى "امتلاك الحكومة الجديدة برئاسة الكاظمي، علاقات جيدة مع واشنطن".
ولعل من أبرز القرارات التي اتخذها الكاظمي واحدثت صدمة ايجابية بين العراقيين قراره إعادة الفريق عبد الوهاب الساعدي إلى جهاز مكافحة الإرهاب وترقيته لمنصب رئيس الجهاز، وذلك في أعقاب أول جلسة لحكومته.
ويحظى الساعدي بشعبية كبيرة في الشارع العراقي بابتعاده عن اللعبة السياسية الداخلية، وانشغاله الكامل بواجبه العسكري، والذي مكنه من خوض سلسلة معارك ناجحة ضد تنظيم داعش الارهابي في السنوات الماضية، لتتم تنحيته فجأة من جانب حكومة عبدالمهدي، قبل ايام قليلة من انفجار التظاهرات الشعبية في تشرين الاول/اكتوبر الماضي.
يدرك الكاظمي هذه المكانة وحساسية القرار الذي اتخذته باعادة الاعتبار للفريق الساعدي وهو ما من شأنه ان يعزز انطباع العراقيين بجرأته وحساسيته في معالجة رواسب الحكومات السابقة التي ألحقت ضررا كبيرا بمكانتها أمام المواطنين العراقيين.
ومن أجل ان يبني على رصيده في ذلك، خصوصا في ظل تنامي خطر التنظيم الارهابي مجددا، التقى بقادة مكافحة الارهاب في مقر قيادتهم قبل يومين، مؤكدا على "أهمية الحفاظ على استقلالية هذه المؤسسة الوطنية وتعزيز قوتها ودورها في حماية الدولة وضرورة إبعاد جهاز مكافحة الارهاب عن التدخل السياسي"، مشيرا الى "التحدي الأمني وضرورة التصدي لبقايا داعش بكل قوة وإحباط محاولاتها".
وقبل مبادرته تجاه قيادة مكافحة الارهاب بيوم، زار مقر وزارة الدفاع التي أكد على انها وزارة "لجميع العراقيين"، ومشددا على رفض استخدام السلاح خارج أطر الدولة وأجهزتها.
يدرك الكاظمي ان هذه الرسالة الواضحة سيسمع دويها بوضوح في مختلف أروقة الدولة واجهزتها وانحاء العراق بعدما شكى العراقيون كثيرون، وعانوا ايضا، من تفلت استخدام السلاح والفوضى الأمنية. يلقي الكاظمي بذلك مهمة دقيقة وثقيلة على وزير الدفاع الفريق الركن جمعة عناد الجبوري. امن العراقيين، وفرض هيبة المؤسسة العسكرية، والدفاع عن سيادة العراق وأمنه واستقراره.
وفي تعبير عن تعديل كبير في مسار ادارة الامور، أعلنت قيادة شرطة محافظة البصرة، الاثنين الماضي، إغلاق مقر حزب "ثأر الله الاسلامي" في المحافظة، والقت القبض على من فيه اثر إطلاق نار من قبل حماية المقر أدى الى إصابة عدد من المتظاهرين.
في جلسة مجلس الوزراء الثانية، حدد الكاظمي "التحديات الصعبة" التي تواجهها الحكومة بالتالي: الاقتصاد، محاربة الفقر والبطالة لدى الشباب والتوزيع العادل للثروات، الابتعاد عن المجاملات والمحسوبيات والتدخلات السياسية، وتطوير مؤسسات الدولة.
باختصار، يعتبر الكاظمي انها تحقق "كرامة المواطن ومصلحة الوطن". هذه معادلة بديهية للدولة، لكنها كانت قبل ايام معدودة، ليست على رأس جدول أعمال السياسيين.
اذا تتغير عناصر التقييم على اداء السياسي وعلى كيفية الحكم على انجازاته، وهو بحد ذاته خبر مفرح في أيام العراقيين القاسية.
وكأن الكاظمي يدرك، كما يدرك كثيرون، ان نتائج انتخابات العام 2018، ما زالت تحكم بمعادلاتها العمل السياسي، وربما ستظل، تتحكم ايضا بنتائجه، وهي كما يشعر العديد من العراقيين، لا تساعد على المبادرة الى تحقيق خرق في عملية الاصلاح المنتظرة.
وما زال أمام الكاظمي فترة عامين فقط للعمل، قبل حلول الموعد الدستوري للانتخابات الجديدة. اما الانتخابات المبكرة، اذا ما جرت، فانها ستقلص الفترة الزمنية المتاحة أمامه لتحقيق انجازات كبرى.
ولهذا لعله فيما يقوم به ويفعله، وهو الذي لا يملك حزبا سياسيا ولا كتلة برلمانية له في مجلس النواب، انما يخرق جدران الصمت فيحسن بذلك ظروف عمل ونجاح رئيس الحكومة المقبل في العراق. ولكن حتى لو كان الامر كذلك بالفعل، اي التمهيد لتغيير من أجل المستقبل، فذلك يعني "أمل". ولن يكون العراقيون الا سعداء بهذا الأمل.