شفق نيوز/ في الذكرى الرابعة للحدث المجلجل (10 – 6 – 2014)، ينشر "السفير العربي" النسخة الكاملة لـ"تقرير سقوط الموصل"، وهو تقرير رسمي أقر في البرلمان.
ولاحتواء التقرير على تفاصيل عسكرية ومناطقية قد يجد المتلقي غير العراقي صعوبة في تتبع معانيها بدقة، نقدم هنا شرحاً مساعداً رفقة الوثيقة الرسمية.
بعد مرور أربعة أعوام، ما زال احتلال محافظة نينوى العراقية وما تبعه من سقوط 108.405 آلاف كلم مربع، أي ما يقارب 40 في المئة من مساحة العراق بيد "الدولة الاسلامية"، حدثاً يحرك السياسة رغم انحسار سلطة تنظيم داعش الآن. الكارثة تسببت بمقتل 18 ألف شخص وإصابة 36 ألفا آخرين بجروح، بالاضافة الى نزوح حوالي خمسة ملايين انسان.
مطلع عام 2015، قرر مجلس النواب العراقي (رسمياً أعلى السلطات في البلد) تشكيل لجنة تحقيق لمعرفة أسباب سقوط محافظة الموصل وتحديد المذنبين في ذلك. كانوا 26 عضواً في تلك اللجنة، مشكّلين من مختلف المكونات والاحزاب، وهم قاموا بالاستماع الى افادات أبرز القادة العسكريين والأمنيين والسياسيين على مدى 8 أشهر. تمّ لاحقاً عرض التقرير الذي خرجت به اللجنة النيابية في البرلمان والتصويت على تحويله الى المدعي العام. وزعت اللجنة في ذلك العام ــ التي باتت تعرف بـ"لجنة سقوط الموصل" ــ على وسائل الاعلام نسخة مختصرة من التحقيق، لم تتضمن سوى رؤى مكثفة حول أسباب سقوط المحافظة مع توصيات باحالة 36 شخصية سياسية وعسكرية وأمنية الى القضاء.
يستعرض الفصل الأول من التقرير، والذي يشتمل على مبحثين، ملامح سيطرة تنظيم داعش على مدينة الموصل قبل سنوات من سقوطها، ويناقش باستفاضة فشل الدولة العراقية في تقويض هذه السيطرة. وفي معرض الحديث عن فرض داعش للجزية، يذكر التقرير أن حجم الاتاوات بلغ 5 مليون دولار شهرياً، لكنه ما لبث ان تضاعف قبيل سقوط المدينة منتصف 2014. متعهدو نقل المشتقات النفطية والاسمنت والصاغة والمقاولون والاطباء، وصولاً الى باعة الخضروات.. كانوا يدفعون اتاوة لداعش تتفاوت بحسب المهنة. مئات الموظفين الوهميين كانت رواتبهم تذهب الى التنظيم، بالاضافة الى ان الأخير كان له تمثيل في الدوائر الرسمية بالموصل.
في عام 2011، قام رئيس الوزراء السابق ونائب رئيس الجمهورية حالياً، نوري المالكي، بتشكيل لجنة لمكافحة الجزية، واختار رئيساً لها قائد الشرطة الجديد في المدينة مهدي الغراوي. في اولى جلسات هذه اللجنة تمّ الكشف عن أن تخصيصات تنمية الأقاليم (ميزانية تمويل لمحافظة الموصل) كان يذهب 40 في المئة منها الى داعش. يشير الفصل الاول أيضا الى ان الاقليات الدينية مثل المسيحيين والآيزيديين والشبك تعرضوا الى ابتزاز التنظيم عشرات المرات، مما قادهم الى هجرة مركز المدينة، حيث فشلت القوات الامنية في حمايتهم.
منذ 2011 كانت 40 في المئة من "تخصيصات تنمية الأقاليم" (ميزانية تمنح مركزياً لتمويل محافظة الموصل) تذهب الى داعش، وكان حجم الاتاوات يبلغ 5 مليون دولار شهرياً، لكنه ما لبث أن تضاعف قبيل سقوط المدينة منتصف 2014، وكان الجميع يدفع، كلٌ بحسب دخله.
في الفصل الثاني الذي يشتمل على خمسة مباحث، تطرق التقرير الى اثر التظاهرات التي عُرفت ب"ساحات الاعتصام" والتي تزامنت مع الربيع العربي بين عامي 2012 و2013، بالاضافة الى تفاصيل عميقة الدلالة عن مدى الفساد في دوائر المحافظة، والصراع بين السلطات هناك. إفادات المتهمين والشهود كشفت ان التنظيم لم يكن هو الطرف الوحيد الذي نجح باختراق تلك الاحتجاجات السلمية في بداياتها، بل برزت أجنحة مسلحة لحزب البعث العراقي المحظور بالاضافة الى فصائل سلفية واخرى كانت تضم في تشكيلاتها عسكريين سابقين.
يشير التقرير أيضاً في هذا الفصل الى قسوة القوات الامنية وقيامها باعتقالات عشوائية وبسجن المعتقلين في ظروف مأساوية. أما في الحياة العامة فكانت اجراءات قطع الطرق وفرض حظر التجوال وقيام قيادات امنية بابتزاز المواطنين مالياً هي ابرز الملاحظات. الصراع بين قائد العمليات اللواء مهدي الغراوي (محكوم بالاعدام حالياً) وبين محافظ نينوى اثيل النجيفي (محكوم حاليا بتهم جنائية) أخذ بعداً تصاعدياً مع استمرار الاعتصامات المفتوحة في الساحات العامة، وهو الأمر الذي تطور الى مطالبة الاخير بخروج القوات الامنية من المدينة. وهذا الصراع سيستمر حتى سقوط المحافظة بحسب التقرير.
يذكر التقرير أن الغراوي (القائد الأمني والعسكري للمدينة) أطلق سراح أول والٍ نصبته داعش على الموصل (رضوان الحمدوني، قُتل لاحقا بضربة جوية أواخر 2014) مقابل 70 ألف دولار، بالإضافة الى قيادات اخرى من داعش مقابل مبالغ أقل. من جانب آخر كانت ظاهرة الجنود الذين يدفعون نصف رواتبهم للقيادات الامنية من اجل التغيب سببا كبيرا في انهيار الوضع الامني، حيث يذكر التقرير ان أحد الالوية لم يكن يتضمن سوى 76 مجندا قبل شهر من سقوط المدينة!
يشير التقرير الرسمي الى قسوة القوات الامنية وقيامها باعتقالات عشوائية وبسجن المعتقلين في ظروف مأساوية. أما في الحياة العامة، فكانت اجراءات قطع الطرق وفرض حظر التجوال وقيام قيادات أمنية بابتزاز المواطنين مالياً هي أبرز الملاحظات.
ومن المعلومات المهمة التي وردت في هذا الفصل تتعلق بامتناع أفراد القنصلية التركية من الانسحاب قبل سقوط المدينة، رغم تحذيرهم والاشارة الدقيقة الى دور القنصل التركي الذي كان يتجاوز الإطار الدبلوماسي بكثير.
في بداية الفصل الثالث يشير التقرير الى ان المجندين في الجيش العراقي كانوا يعانون من صعوبة الانتقال بين مدنهم والموصل حيث يؤدون واجبهم. هذا الامر استلزم انتقالهم عبر الخطوط الجوية المدنية، غالباً الى أربيل ومن ثم براً الى الموصل، علما ان أغلبهم كانوا من جنوب العراق.
الامر المثير الآخر هو اشارة التقرير أن داعش قام بتفجير ثلاثة جسور رئيسية في محيط الموصل واحتلال قضائين ومن ثم الانسحاب منهما قبل سقوط المدينة فيما يشبه التمهيد للغزوة الكبرى.
إضافة طبقات من المعدن الى السيارات المعدة للتفجير كان التطور الابرز في تكتيكات داعش، وكان سبباً في انخفاض الروح المعنوية للجنود بسبب فشلهم في تفجير هذه السيارات قبل وصولها الى مقراتهم.
يكشف التقرير ان محافظ نينوى، اثيل النجيفي، "تنبأ" بسقوط المحافظة قبل ثلاثة أشهر من موعده، وبشهادة أعضاء مجلس المحافظة، فقد شرح النجيفي آلية الهجوم التي تطابقت لاحقاً مع ما حدث.
كانت ظاهرة الجنود الذين يدفعون نصف رواتبهم للقيادات الامنية من أجل التغيب سبباً كبيراً في إنهيار الوضع الامني، حيث يذكر التقرير أن أحد الألوية لم يكن يتضمن سوى 76 مجنداً مداوماً قبل شهر من سقوط المدينة.
يشير التقرير الى ان معلومات استخبارية قادت الى اعتقال القائد العسكري المحلي لداعش في الموصل قبل شهر من سقوط المدينة (وهو الارهابي محمد أحمد سلطان)، وهذا كشف للقيادات الامنية والعسكرية ان الهجوم المعد لاحتلال نينوى سيكون ليلة يوم 5 حزيران وهو ما حدث فعلاً.
وقد كشف سلطان الخطة بالكامل مشيراً الى عمليات ستجري في اليوم ذاته في سامراء لتشتيت الانتباه، وقد تطابقت اقواله مع الاحداث بشكل دقيق، إلا ان هذا لم يغير من تكتيكات القادة الامنيين والعسكريين.
في غياب اللواء الغراوي قائد عمليات نينوى (أعلى السلطات الامنية والعسكرية في المحافظة) الذي كان مجازاً، بدأ الهجوم بعد الساعة الثالثة ليلاً في السادس من حزيران واستهدف ثلاثة أحياء في الجانب الايمن من مدينة الموصل التي يقسمها نهر دجلة الى جانبين. وبعد ساعة اتسع الهجوم ليضرب جنوب المدينة بالكامل. وبعد ساعات سقط أول أحياء المدينة بيد داعش وهو "حي 17 تموز".
مع هبوط ظلام ذلك اليوم كانت سبعة احياء قد سقطت بيد داعش وهو الأمر الذي تمّ ابلاغ القائد العام للقوات المسلحة العراقية نوري المالكي به.
أهالي الاحياء المحتلة بدأوا بالنزوح سيرا على الاقدام بسبب شدة القصف حينها. وفي اليوم التالي وصل عبود كنبر، قائد العمليات المشتركة (المنصب الأعلى عسكريا في العراق من ناحية نفاذ الأوامر).
لاحقاً طرحت فكرة الاستعانة بالبيشمركة (القوات الكردية التابعة لاقليم كوردستان العراق) من قبل القيادات العسكرية، لكن بغداد رفضت ذلك.
معلومات استخبارية قادت الى اعتقال القائد العسكري المحلي لداعش في الموصل قبل شهر من سقوط المدينة، وهو كشف للقيادات الامنية والعسكرية خطة التنظيم بالكامل، وأن الهجوم سيكون ليلة 5 حزيران، وهو ما حدث فعلاً.. بغياب اللواء الغراوي، قائد عمليات نينوى (أعلى السلطات الامنية والعسكرية في المحافظة) الذي كان "مُجازاً".
يشير التقرير الى انه في يوم 8 حزيران زار محافظ نينوى اثيل النجيفي اربيل (عاصمة اقليم كوردستان) والتقى بـ"ريت ماكغورك" مساعد وزير الخارجية الامريكي حينها (لاحقا اصبح مبعوث الرئيس الامريكي الخاص للتحالف الدولي لمكافحة داعش، وما زال) وقد تباحثا حينها حول المدينة والخطر المحدق بها.
تشير وقائع هذا اليوم الى عصيان قائد عسكري لأوامر صادرة من المالكي شخصياً، مما تسبب باعتقاله واستبداله، على الرغم من أن مسؤوليته العسكرية كانت تضم نصف الموصل تقريباً. القائد الجديد الذي حل محل من عصى الاوامر إكتشف أن القوة التي يفترض الاعتماد عليها كانت 71 جنديا فقط وليس 500 جندي كما تم ابلاغه.
عصر يوم 9 حزيران، هاجم داعش آخر خطوط الدفاع في الجانب الايمن للموصل بصهريج مفخخ كان سبباً أساسياً في انهيار هذه الدفاعات وخسارة نصف الموصل.
وفي الليل اجتمعت القيادات باجمعها وتبادلوا الاراء، فيما تلقى اللواء الغراوي اتصالاً يأمره بالانسحاب، قال لاحقاً انه صادر من رئيس أركان الجيش بابكر زيباري، وقد نفى الأخير انه اتصل في ذلك اليوم.
ليل يوم 9 حزيران انسحبت القيادات رفيعة المستوى من العسكريين من الجانب الايمن الى الجانب الايسر من المدينة، والذي لم يكن قد سقط بعد حينها. لكنهم مع صباح اليوم التالي اتجهوا الى اقليم كوردستان، وتحديداً محافظة إربيل، ليتم سقوط المحافظة بالكامل.