علي حسين فيلي/ قبل عام من اليوم صوت برلمان كوردستان لنيجيرفان إدريس مصطفى بارزاني رئيساً للإقليم، ليضع بصماته سريعاً بتعزيز العلاقة مع بغداد وسد هوة خلاف الأحزاب الداخلية من جهة، ومع المحيط الإقليمي والدولي من جهة أخرى، وهذا ليس بجديد فكيف وهو صاحب “فن الممكن”.
تلك البصمات المشهود بها دولياً بمقدور الحكومة الاتحادية في بغداد اليوم استبدال نظرات الشك والريبة والتوتر التي تبديها ازاء اقليم كوردستان، بنظرات الغبطة والارتياح، باعتباره تجربة فريدة، تخطى مختلف الصعاب على مر السنوات الماضية، بل قدم انموذجا بامكانها ان تقتدي به اذا شاءت. هذه حالة استثنائية لا يتنبه لها كثيرون قائمة في المشهد العراقي – الكوردي، وهي تحمل الكثير من المعاني والدلالات.
ولطالما كانت العلاقة صعبة بين الحكومة المركزية في بغداد وبين المحافظات العراقية، لكن العلاقة مع كوردستان كانت أكثر من قاسية على مر العقود الماضية. ولهذا، فان هذه اللحظة استثنائية بالمطلق، ذلك ان بامكان الحكومة الاتحادية ان تستبدل نظرة الريبة والتوجس، بنظرات الرضا الى المسار الشاق والطويل الذي سارت عليه كوردستان، وجعلها – برغم العواصف الكثيرة ومحاولات الافشال – تتجاوز جبالا هائلة من التحديات.
ينسب جانب أساسي من تغيير هذه النظرة السلبية الى النظرة الايجابية، الى العديد من القيادات الكوردية التي تولت مسؤوليات مختلفة على مر السنوات الماضية، لكن اسما أساسيا يبرز من بين الاسماء هو نيجيرفان بارزاني الذي ينسب اليه الكثير من الفضل لما وصلت اليه الامور ليكون بالامكان القول الآن ان المناسبة قد تكون سانحة، لتعبر بغداد من مرحلة الشك والقلق الى مرحلة الاطمئنان، وهو عبور ربما لم يكن ممكنا لولا العقلانية التي مارسها نيجيرفان بارزاني وهو القائل انه يتمنى لبغداد ما يتمناه لكوردستان.
هذه عصارة تفكير نيجيرفان بارزاني بعد اكثر من ثلاثة عقود من العمل السياسي والنضالي وفي مواقع المسؤولية الحزبية والحكومية في كوردستان، وهي أفكار وضعته أحيانا كثيرة في موقع غير المرضي عليه من "اهل البيت" الكوردي لانه كان يفاضل المصالح العليا للكورد والعراقيين عموما، بنظرة شمولية بعيدة المدى، قد لا تلقى أحيانا استحسان الحزبيين او البعض في الشارع الكوردي، وتبرهن السنوات اللاحقة انه اختار الأكثر نجاعة، والاقل ضررا على الجميع دون استثناء.
في خلال دوي الرصاص في المواجهات العسكرية في مراحل التضييق الاقتصادي، في مراحل الشد والجذب والتوتير السياسي، كان نيجيرفان بارزاني يوازن بهدوء، بين واجباته في الحكومة ثم في رئاسة الاقليم، وبين متطلبات العيش المشترك والمصالح المتداخلة لا مع الحكومة الاتحادية في بغداد فحسب، وانما ايضا مع المحيط الاقليمي الأوسع، ليضمن، لمن يمثل، المكسب الاقصى، والضرر الاقل.
وكان نيجيرفان بارزاني غالبا ما ينجح، والا كيف يمكن لاي قارئ للاحداث ان يفسر كيف ان كوردستان، وهي التي عصفت بها كل هذه المظالم والدماء، ما زالت على قدميها. كان نيجيرفان بارزاني يتبع قاعدتين ذهبيتين في معالجة التحديات والمصاعب: أولهما الا يسمح بفقدان الثقة نهائيا بين بغداد وكوردستان، وثانيا الا يسمح بتحول الازمات الى كوارث.
منذ عين نائبا لرئيس الحكومة العام 1996 ثم رئيسا للحكومة العام 2006، ثم رئاسة الاقليم العام 2019، ضربت زلازل سياسية واقتصادية وأمنية العراق من اقصاه الى اقصاه. وحتى على صعيد الداخل الكوردي، جرت تحولات كبيرة وبرزت مخاطر لا تحصى، كانت يمكن ان تكون كافية لانهاء الحياة السياسية لاية حكومة ورئيسها.
وبالنسبة الى رجل عاصر الموت الجماعي لالاف من ابناء شعبه، فلا مجال للعودة الى الماضي الأليم، وان كل السبل المتاحة امام هذا السياسي بتراكم خبراته القاسية، لن يفوتها، وهي تتيح له القول بكل وضوح "نعتقد ان لا احد يستطيع ان يدمر تجربتنا ومكتسباتنا، لقد اجتزنا المرحلة الصعبة والطويلة، ولن نعود الى الوراء، لقد انتهى الزمن الذي نتراجع فيه عن المكتسبات الكبيرة".
هكذا يعمل وفق القاعدتين الذهبيتين اللتين اشرنا اليهما. في الازمة المالية الاخيرة التي نشبت في نيسان/ابريل الماضي عندما قررت حكومة عادل عبدالمهدي، ومن دون سابق انذار قطع الرواتب التي تخصصها الحكومة الاتحادية لموظفي حكومة الاقليم، عمل نيجيرفان بارزاني وفق القاعدتين الذهبيتين. منع سقوط الثقة نهائيا مع بغداد، وسعى جاهدا لمنع تحول الازمة الى كارثة، فسارع الى طرق ابواب بغداد لاعادة تأكيد المؤكد وفتح قنوات التفاوض فراحت الوفود الكوردية وجاءت ما بين اربيل وبغداد، لمعاجلة الملف.
في العام 2014، توالت العواصف على كوردستان، انهارت اسعار النفط العالمية الى النصف، وظهرت عصابات داعش محتلة مدنا عراقية وكوردية، وقطعت الحكومة الاتحادية ميزانية كوردستان بسبب خلافات حول مبيعات النفط، فتدفقت حشود النازحين الى الاقليم، وتعطلت الحياة الاقتصادية بشكل كبير مع اضطرار الحكومة الى الاقتطاع من معاشات الموظفين، وانتشرت البطالة وتعثر نشاط القطاع الخاص. كما تفاقم الخلاف تدريجيا مع بين بغداد واربيل خصوصا حول ما يسمى المناطق المتنازع عليها والتي جرى تحريرها من الدواعش.
وبصفته رئيسا لحكومة الاقليم، تحرك نيجيرفان بارزاني لاحتواء النيران. وفي مواجهة الضغوطات والتضييق من جانب الحكومة الاتحادية، والمخاطر التي تراكمت، فتح قنوات تواصل خلال شهر واحد في كانون الثاني 2017، مع عدد من الدول الاقليمية والدولية المؤثرة لردع العواصف المتتالية: فرنسا، المانيا، بريطانيا، والفاتيكان، بالاضافة الى تركيا وايران اللتين اعاد معهما تثبيت نقاط التلاقي التي تجمعهم مع كوردستان في الامن والمصالح والاستقرار الاقليمي.
ساهمت هذه الحركة السياسية من رئيس حكومة كوردستان وقتها في تبريد الجروح التي التهبت، ما قبل الانتقال الى مرحلة المعالجة، خصوصا مع بغداد.
وقس على ذلك. ليست صدفة ان يزدهر اقليم كوردستان اقتصاديا وسياسيا وتعايشا مجتمعيا وثقافيا ودينيا. بالقياس والتشبيه، الا يمكن للعراق ان يتطلع الى هذا النموذج؟ الا يجد العراق نموذجا اكثر نجاحا نسبيا منه في هذه الظواهر؟ لا من باب الحسد، وانما من باب الغيرة الايجابية التي تحرضك على ان تثابر نحو الافضل. حتى بالنسبة الى ثقافة العفو، اظهر الاقليم شجاعة استثنائية في مقاربة المسألة، فبرغم كل جراح "حروب الاشقاء"، وشلالات الدم مع الحكومة المركزية في بغداد، امتلكت القيادات الكوردية شجاعة في طي صفحات الماضي الاسود، أكبر مما فعلته العديد من القيادات السياسية في بغداد.
هذه نقطة تسجل لصالح كوردستان، لا من باب المناكفة او المزايدات، وانما من باب استبدال نظرات الريبة والشك، بنظرات التشجيع والتفاؤل بالمستقبل، لفتح آفاق اكثر اشراقا للطرفين.
وبامكان نيجيرفان بارزاني ان يكون مولدا لهذه الافكار ومحرضا على هذا العبور بين المرحلتين. لكنه وهو يقوم بذلك كان يدرك ان ارث مسعود بارزاني بثقله ومكانته يحتل مكانة عميقة في الوجدان الكوردي، ما حتم عليه ابتكار اساليب جديدة لا بهدف نقض الاساليب القديمة، وانما من أجل تفعيل التعامل مع التحديات العصرية المرحلية والمصاعب المستجدة. هذا عبء ثقيل، على نيجيرفان بارزاني ان يحمله ويتعامل معه بايجابية المثابر والمبتكر. فأن تكون رئيسا لكوردستان خلفا لمسعود بارزاني، ليس ثوبا ترتديه، وانما مسؤولية أكثر تحديا.
ولهذا، فانه من الاهمية بمكان، ان يكون دور الرئيس اكثر فاعلية، وان يعمد نيجيرفان الى "تدوير الزوايا" وابرام تفاهمات مع مختلف القوى السياسية والحزبية والعشائرية والدينية في الاقليم أولا، وفي العلاقة مع بغداد ثانيا. وبمعنى آخر، ان تعطيل دور الرئاسة في اربيل، هو في مكان ما، تعطيل أيضا لمصالح كوردستان ككل، واعاقة لمسارات التطوير التي يراهن عليها ما بين اربيل وبغداد.
وأمام نيجيرفان أزمات لا تحصى للتعامل معها، من تهديدات الارهاب، الى المشكلات السياسية والبطالة والفقر والفساد والعلاقة مع بغداد وانقرة وطهران وواشنطن ودمشق. ولهذا، فانه في سنوات التضييق والعوز الاقتصادي، بذل مساعيه لإخراج كوردستان من العزلة من خلال الجوانب الثقافية والتربوية والاقتصادية والعلاقات السياسية والدبلوماسية وحتى الاجتماعية مع العالم الخارجي.
وكان نيجيرفان يعمل بموجب مهمات رئيس الاقليم، والتي تعني انه يمثل الشعب على المستويين الداخلي والخارجي. ويشرف على العلاقات والتنسيق بين الاقليم وسلطات العراق الاتحادي وكذلك يمثل الشعب الكوردستاني في المجلس السياسي للأمن الوطني العراقي وفي المشاورات والحوارات مع الحكومة العراقية. وبرغم خلافاته معها، الا انه عمل بنشاط لتعزيز التمثيل الاجنبي في كوردستان، فهناك مثلا اكثر من 30 قنصلية وممثلية دولية في اربيل، ولم يبادل بغداد العداء وبالتالي لم يبنَ أي علاقة خارجية على أساس العداوة الداخلية.
ولقد أكسبه هذا السلوك احترام الداخل والخارج. وحتى ان خصومه يقولون عنه: نتجاوز عنه لأنه رمز لتعايش جميع الاحزاب والاطراف ولن ننسى حسناته! وكيف لا وهو عرف بأنه خلال مسيرته السياسية كان يميل الى الحلول السلمية والحفاظ على الوئام الداخلي في الاقليم عندما كانت تنفجر صراعات سياسية او حتى عسكرية. وكان قراره واضحا، ان يجنح نحو السلم لانه يدرك ان الحرب ستنتهي حتما، وسيعود المتخاصمون الى الجلوس سوية.
يروى عنه تواضعه في التعامل مع اي فرد من افراد المجتمع اذا تم انتهاك حقوقه. في العام 2010، وبعد الهجمات التي تعرضت لها مقار احزاب الجماعة الاسلامية والاتحاد الاسلامي والتغيير في اربيل، قدم اعتذاره رسميا لهذه الاحزاب بصفته رئيسا للحكومة الاقليم.
ان حادثة كهذه، وغيرها الكثير، من التي ارسى خلالها نيجيرفان بارزاني بصماته في التعامل مع المواقف والتحديات، ساهمت بلا شك في اجتياز كوردستان العديد من المطبات الصعبة، لا بل أكثر من ذلك. عززت تلك البصمات البارزانية، صورة التعايش المشترك وثقافة التسامح، وصبغت كوردستان بصبغة جديدة، متصالحة فيها مع الماضي، ومتطلعة بثقة نحو المستقبل، وهذا ما يعبر عن مسألتين: الاولى ان بغداد تحتاج الى هذه الصبغة الكوردستانية الجديدة، وثانيا، ان حاجات وتحديات كوردستان، تتطلب شخصية مثل نيجيرفان بارزاني، ليكملان بعضهما البعض.
ان تطلع كوردستان نحو المستقبل لا يعني تجاهلها للواقع. ولعل من بين ابرز المصاعب التي ورثها نيجيرفان بارزاني ان كوردستان ليس لها حدود واضحة ومستقرة وهو ما يفرض اعباء استثنائية على كل من هو في موقع المسؤولية الكبرى، ويفترض ان يجعل اي كيان او اقليم، في حالة تخبط لا حدود لها.
ولهذا، فان اسلوب ادارة نيجيرفان للازمات، حد بشكل كبير من التداعيات المرجحة لمثل هذه الحالة الحدودية. في الاسابيع الماضية، انتقد اي وجود عسكري لحزب العمال الكوردستاني اذا كان سيتسبب باستفزاز تركيا وبزعزعة استقرار كوردستان. وفي قضية المناطق المتنازع عليها، هو دائم التذكير لبغداد بان عصابات داعش تستغل الفراغات الامنية لتتسلل منها، ليساهم معها في مواجهة الخطر.
وكما اشرنا سابقا، فان الخلافات السياسية والامنية والقانونية التي ضربت العلاقات بين بغداد وكوردستان، كان يمكن لها ان تطيح بأي مسؤول او حكومة، لكن حنكة الادارة التي يتمتع بها نيجيرفان، أتاحت له تطبيق نظرية "تقليص الأضرار"، لا بل انه في الوقت الذي كانت بغداد تظهر مناعتها الهشة كلما عصفت بها ازمات وتحديات مشابهة، كان نيجيرفان يحاول الارتقاء بكوردستان نحو سلم أعلى، لا في مجالات الاعمار والطرق والجسور فحسب، وانما ايضا من خلال الاستثمار في الثقافة والعلوم والمنتزهات والفنون والاقتصاد.
وجدير بالذكر انه على عكس الذين يقولون بان نيجيرفان بارزاني نجح في السياسة ولكنه تعثر في الاقتصاد بسبب احداث 2014، فقد اظهرت الدلائل ان اقليم كوردستان اصبح منذ العام 2006 لنهايات العام 2013 ، اقوى مركز نشط للتجارة والاستثمار في المنطقة وبصورة عامة جرت نسبة 55% من العمليات التجارية والاستثمارية العراقية في كوردستان. ولغاية العام 2013 توجهت 15 الف شركة محلية واجنبية الى كوردستان من بينها عدد من كبيرات الشركات العالمية وخاصة في مجال الطاقة.
الا يفترض ببغداد ان تنظر الى كوردستان بعين الغبطة والدهشة؟ انها لحظة استثنائية في هذا المشهد العراقي -الكوردي. وهي تاتي في توقيت مهم يشكل فرصة لاصحاب القرار في بغداد ان يمدوا يد الوئام والثقة، ففي الجهة المقابلة نيجيرفان بارزاني الذي يقول "نتمنى ان يكون كل العراق مثل الاقليم، وان الذي نريده لاربيل نريده لعاصمتنا بغداد... نحن اخترنا بإرادتنا ان نكون في اطار العراق الموحد. وعدنا بإرادتنا الى بغداد على اساس العمل بذلك الدستور الذي صوت له اكثر من 80% من الشعب العراقي، نحن مشاركون في بناء العراق، قدمنا كل ما باستطاعتنا لحماية وحدة العراق، ولكن سياسة بغداد ليست سياسة التفاهم المشترك، بل هي سياسة السيطرة والهيمنة، الازمة تكمن في بناء الثقة فيما بيننا ولكن بغداد لا تتعامل معنا كشريك“.