شفق نيوز/ للمرة الثانية في غضون شهر، اقتحم آلاف المتظاهرين المنطقة الخضراء الحصينة في بغداد، كما اقتحموا مكتب رئيس الوزراء ومكاتب وزراء حكومته.
وعلى عكس ما حدث في المرة الأولى، التي شهدت عدم اعتراض الأمن العراقي للمتظاهرين والسماح لهم باجتياز الفواصل الخرسانية ونقاط التفتيش، كما سمحوا لهم بنهب مجلس النواب العراقي والمؤسسات الحكومية الأخرى، وأيضاً تركوهم ليعتصموا داخل المنطقة الخضراء، أطلقت السلطات قنابل الغاز المسيلة للدموع والذخيرة الحية على المتظاهرين، كما أوضحت المواد المصورة التي انتشرت على الشبكات الاجتماعية. وانتشرت صور على تويتر تشبه الصور التي تُلتقط في سوريا، حيث أظهرت مجموعة من الشباب على أجسادهم ضمادات الجروح وملابسهم غارقة في الدماء.
وأفادت تقارير في بداية الأمر أن عدد الجرحى بين صفوف المتظاهرين وصل إلى حوالي 250 متظاهراً، كما قُتل 3 متظاهرين خلال المواجهات. وفي نهاية الجمعة، فرض الجيش العراقي حالة حظر تجول بالعاصمة العراقية بغداد.
ما السبب وراء الحملة؟
أدى استمرارفشل الحكومة المهتزة، التي يقودها رئيس الوزراء المدعوم من الولايات المتحدة حيدر العبادي، في تطبيق مجموعة من الإصلاحات السياسية للتخلص من جذور الفساد الذي يلتهم الدولة من الداخل، والذي يهدد قدرتها على استمرار القتال ضد تنظيم الدولة. وتعد تلك الأمور هي على الأقل المطالب التي على الورق بالنسبة للمتظاهرين، الذين يدين معظمهم بالولاء لرجل الدين الشيعي مقتدى الصدر. وقال مقتدى الصدر في البيان الذي وجهه للمتظاهرين "اصبر أيها الشعب البطل فثورتك السلمية لا محالة حليفها النصر"، كما أدان في بيانه العنف الحكومي ضد "المتظاهرين العزل" على حد قوله.
وكان مقتدى الصدر أحد قادة الصراع المسلح إبان الغزو الأميركي للعراق، والذي أمر البنتاغون بقتله من قبل بسبب دوره في تنظيم عمليات تسببت في مقتل جنود أميركيين، أما الآن فقد صار ملكاً لا يمكن منازعته فيما يتعلق بصناعة سياسات العراق، فهو يُغوي الدهماء من خلال التلاعب بوسائل الإعلام المحلية والاستفادة بانتهازية من الأزمات المحلية للبلاد، وهي الصفات التي يمكن وصفها بحالة خطيرة من صعود نجم طاغوت سياسي آخر.
يقول علي الخضيري، الذي عمل لمدة طويلة مع الدبلوماسيين الأميركيين في العراق "حاله مثل حال ترامب فهو لا يفتقر إلى الشرعية بصورة كاملة". وأضاف قائلاً "الصدر يمثل ملايين الناس، وذلك العدد من المواطنين صوّت له ولكتلته أكثر من مرة منذ عام 2003. كما تمتلك عائلته تاريخاً طويلاً وهاماً بالعراق، وعلى وجه الخصوص خلال القرن الماضي".
إرث عائلة الصدر
ففي ثورة 1920 ضد الاستعمار البريطاني للعراق، شارك أقاربه في قيادة تلك الثورة، كما أن والده محمد صادق الصدر، حصل على لقب آية الله العظمى، وكان من أكثر الرموز الدينية الشيعية احتراماً بالعراق خلال عصر صدام حسين (وقد اغتاله النظام العراقي عام 1999 في موطنه بمدينة النجف). أما حماه وعمه محمد باقر الصدر، فهو مؤسس حزب الدعوة الإسلامية الشيعي الحاكم بالعراق، وقد أُعدم هو الآخر على يد صدام حسين.
يقول الخضيري "نعم، يمتلك مقتدى الصدر شعبية بين النخبة السياسية الوطنية بالعراق، وقد يكون شخصاً غريب الأطوار، وليس أكثر الرموز الموجودة على الساحة السياسية اتزاناً". ويضيف "نعم كان مسؤولاً عن تشكيل جيش المهدي وقتل أعداداً كبيرة من الأميركيين والقوات العراقية والمدنيين العراقيين. لكن عائلة الصدر كانت دائماً تستغل الجماهير الشيعية الفقيرة والتي تبدو إلى حد كبير ريفية". وبكل وضوح تمتلك تلك الجماهير الدعم الكافي له.
وقال محمد رياض، أحد المتظاهرين والذي كاد أن يختنق بسبب الغاز المسيل للدموع، في تصريح لديلي بيست "هؤلاء الذين يطلقون الرصاص لا أعتبرهم قوات أمن، بل مجرمون يريدون إيقاف المظاهرات السلمية بواسطة الأساليب العنيفة"، كما قالت امرأة رفضت ذكر اسمها أنها شاهدت أفراد الأمن "يضربون طفلاً عمره 10 أعوام فقط".
وقد مرت 13 عاماً على احتلال العراق، عاشها البلد في حالة من الانفلات الأمني والعنف الطائفي والإرهاب، وذلك بعد الاحتلال العسكري الذي لم يحظ بشعبية كبيرة، حيث تناوب خلالها على الحكم قادة عراقيون لا يمكن اعتبارهم سوى خدمٍ لقوى خارجية، وتحديداً للولايات المتحدة وإيران.
وبدت الولايات المتحدة متشبثة بدعم أفراد بعينهم، سواء كان العبادي أو الرجل الذي سبقه نوري المالكي. حيث تلقى المالكي التحية في البيت الأبيض من قبل الرئيس الأمريكي باراك أوباما، والذي اعتبره شريكاً في جعل العراق "سيادياً، وآمناً، ومعتمداً على نفسه"، لكنه حكم العراق بصورة سلطوية مستبدة، كما تلاعب بنتائج الانتخابات في عام 2010، وعمل على تهميش السنّة بالطرق القانونية من خلال تلفيق تهم "الإرهاب" وأعمال العنف ضد الدولة.
العبادي ضعيف للغاية
أما العبادي، فعلى الرغم من أنه يبدو أفضل ممن سبقه، إلا أنه ضعيف للغاية وغير قادر على تنفيذ وعوده الإصلاحية. وقد أثبت اقتحام المتظاهرين لمكتب العبادي للمرة الثانية هذه الحقيقة التي باتت مقنعة لمن يتابع الوضع العراقي بعيداً عن الأحاديث التي تسوقها وزارة الخارجية الأميركية.
ولكن هل يتطلع الصدر إلى جعل العراق عظيماً مرة أخرى، أم أنه مجرد ميكافيلي متشائم يسعى لاستغلال حالة الفشل التي تعاني منها الدولة لخدمة طموحه السياسي؟
يقول أحد المسؤولين العسكريين الأميركيين لديلي بيست "لا أعتقد أنه يهتم بالإصلاحات في الأساس". ويضيف قائلاً "الصدريون أيضاً فاسدون للغاية، والغضب الشعبي الحالي هدفه الإصلاحات بكل أنحاء البلاد وهو أكبر من تلك الحركة، أما الصدريون فيتبعون مقتدى الصدر في أي شيء يقوله، فإن قال لهم "نحتاج إلى ديكتاتور فاسد للغاية"، سيقولون "الله أكبر، نحتاج إلى ديكتاتور فاسد للغاية".
إلا أن الخضيري يرحب بالمظاهرات باعتبارها حركة تصحيحية طبيعية ضد حالة التصلب السياسي القائمة. يقول الخضيري "أنا سعيد للغاية من هذه الأحداث، لأنني أؤمن أن العراق يحتاج إلى تغيير النظام من أجل إنهاء طائفية الدولة والفساد المستشري الذي اختمر في جينات أنظمة ما بعد 2003".
وأضاف "لا أقصد النظام الأحمق والمتغطرس الذي تدعمه جهات أجنبية، والذي تغير في عام 2003. بل أقصد تغيير النظام من الداخل، والذي سيجد طريقة ما لجلب قادة للبلاد يمثلون كافة العراقيين".
وأوضح قائلاً "فإن فشلوا في الوفاء بما يريده منهم المواطنون، فسوف يواجهون نفس المصير الذي واجهه من سبقوهم. فالثورة أصبحت تقليداً عريقاً في بغداد". ويشير الخضيري إلى أن معظم نخبة العراق الحالية تفتقر إلى الكفاءة اللازمة "لإدارة أي شيء أكبر من منازلهم".
كما أنهم محتالون متأصلون يرأسون اقتصاداً قومياً لم يعد قادراً على تعويضهم بالأساليب غير المشروعة في ظل تأرجح الأسعار في سوق النفط العالمي.
في هذا السياق، قدم الصدر نفسه باعتباره واحداً من العراقيين الوطنيين، ومعه ما يكفي من الدعم الشعبي الأصيل لتحدي تدخل القوى العظمى الغربية والدول الدينية الإقليمية. وساعد ذلك على كشف حقيقة أن معظم الفصائل الشيعية المتناحرة تدين بالفضل أو تُدار بالأساس بواسطة الحرس الثوري الإيراني، والذي شنّ حرباً هائلة ضد محاولة إحياء جيش المهدي الخاص بالصدر من جديد، وإن كان هذه المرة تحت مُسمى كتائب السلام، والتي انتشرت في أنحاء بغداد يوم الجمعة لحماية المتظاهرين بالمنطقة الخضراء. والذين زعم الكثير منهم أنهم تعرضوا لاعتداءات من الميليشيات المدعومة من إيران.
كتائب بدر وليس داعش
وقال عُمر الشاهري - نائب المدير العام السابق للاستخبارات العسكرية العراقية، والذي يعيش الآن في بطرسبرج "في بعض أحداث التفجيرات السابقة، تبين أن بعض المليشيات الشيعية الأخرى – مثل كتائب بدر- هي من كانت وراء الحادث وليس داعش"، وأضاف “لقد أطلقوا الضربات من الجانبين، وكانت تستخدم فيما مضى من قِبل الجماعات الشيعية المدعومة من إيران ومن قِبل القاعدة أيضاً، وهم لا يُريدون أن يتم استخدامهم ضد السنة."
يُلقي العديد من أتباع التيار الصدري باللوم أيضاً على الحكومة المركزية، وذلك لفشلها في حماية مجتمعاتهم. ففي 12 مايو/ أيار ، ادّعت "الخلافة" المزعومة مسؤوليتها عن هجوم مُدمر بسيارة مفخخة أسفر عن مقتل 64 وإصابة 87 آخرين في سوق مزدحم في موطن الصدر ووسط مؤيديه في بغداد. ومن الصعب اعتبار أن اختيار هذا الهدف كان من قبيل المُصادفة. ففضلاً عن كون التفجير كان بدافع الكراهية ومحاولة إبادة جميع المسلمين الشيعة، كان يهدف أيضاً إلى ضرب التيار الصدري لتوجيه غضبه ضد إدارة العبادي، وليس ضد الإرهابيين فقط.
وقال مسؤول عسكري أمريكي لصحيفة ديلي بيست "نتائج الحرب السياسية الداخلية للشيعة هي بالضبط ما تستهدفه داعش. فهو يناسب أغراضها بشكل جيد."
ووافق مازن المازني، العضو بالتيار الصدري، على هذا الأمر وقال "ثمة يد تريد تأجيج الفتن بين العراقيين، وداعش جزء من ذلك". وأضاف قائلاً "إن هذه التفجيرات الأخيرة ليست سوى دليل على محاولتهم توجيه الأنظار بعيداً عن الهزائم المتعددة على الأرض"
لذا، فهل حكومة العبادي المُوشِكة على الانهيار هي الحدث الذي يُمكن أن يُقوض بشكل خطير حرب الائتلاف واسعة النطاق ضد داعش؟
قال البنتاغون مساء الجمعة إنه ليس قلقاً للغاية من إمكانية أن تكون ولاية رئيس الوزراء الحالي في مهب الريح، على الرغم من أن مكتبه اجتيح مرتين في شهر واحد، والآن مع عواقب وخيمة. كما دعمت واشنطن على ما يبدو بدء حظر التجول ونشر الجيش العراقي حول بغداد. بالإضافة إلى ذلك، قال أحد المسؤولين، إن لم يكن حيدر العبادي في مقعد القيادة، فمن إذن؟ "ليس من الواضح من الذي يُمكن أن يحلّ محله."
وفي غضون ذلك، يعتقد أحد الدبلوماسيين العراقيين أنه من الحماقة التنبوء بما لا يُمكن التنبوء به عندما يتعلق الأمر ببلد شرق أوسطي. حيث قال الدبلوماسي "في نهاية اليوم، المسؤولون المنتخبون غير مُفعلين، والبرلمان ومكتب رئيس الوزراء غير مفعلين. أي شخص يُخبرك بأن لديه فكرة جيدة أو يعرف ما الذي سيحدث في غضون أسبوعين، فكل كلامه مجرّد هراء."