شفق نيوز/ يئن العراق تحت وطأة عجز مالي هائل، وديون خارجية بعشرات مليارات الدولارات في وقت جاء وباء كورونا ليوجه ضربة قاسية للحسابات المالية لكل من حكومتي بغداد وكوردستان، وهو ما فرض تساؤلات مشروعة أهمها: ما العمل؟
قبل نهاية العام 2019، كانت الارقام تتحدث عن عجز في الموازنة يقدر بنحو 40 مليار دولار، فيما تبلغ ديون العراق الخارجية نحو 23 مليار دولار عدا الديون المعلقة لما قبل 2003 البالغة 40.9 مليار دولار.
وفي بلد قدر حجم ميزانيته الاخيرة بنحو 135 مليار دولار، فان عجزا كهذا وهو الاعلى منذ عقود، وديونا كهذه، ليست تفصيلا صغيرا، خصوصا ان الرهان على ان ابار النفط تمثل العصا السحرية التي تسمح للعراق بالخلاص من مأزقه المالي الكبير، اصبح سرابا منذ شهور مع بدء تفشي وباء كورونا.
وكما هو معلوم فان العراق يعتمد بأكثر من 93 % على عوائده المالية من المردود النفطي، لكن عجلة الانتاج والتصدير في حالة شلل بعدما سارعت الحكومتان في بغداد واربيل الى فرض اجراءات وقائية وحظر تجول وتباعد اجتماعي، لمنع الفيروس من الاستمرار في انتشاره في كل انحاء البلاد.
يعني ذلك ان العجز والديون المشار اليها، تفاقمت بشكل كبير في الشهور الماضية، اذ لا مداخيل مالية يعتد بها للحكومة طالما ان النفط مشلول عراقيا وعالميا، واسعاره المتراجعة أصلا، انهارت.
تعيدنا هذه الحقائق الى السؤال الجوهري مجددا: ما العمل؟ وخيارات العراق محدودة، ذلك ان اي دعم خارجي سيبدو هشا لدولة بحجم العراق واعبائه، والاتكال على أموال خارجية تتدفق لمعالجة هذه الديون والعجز، سيبدو خيارا واهيا.
فما العمل؟ هل يكمن المخرج الاكثر منطقية وسهولة في الرقم الذي كشفه عضو المجلس الاعلى لمكافحة الفساد في العراق سعيد ياسين موسى لوكالة شفق نيوز، حول وجود"اكثر من 500 مليار دولار من الاموال المنهوبة في العراق"؟
وبمعنى أكثر وضوحا، هل بامكان بغداد واربيل ان تتحركا بفتح ملفات الاموال المنهوبة في اطار حركتهما المشروعة، شعبيا وسياسيا واخلاقيا، في مكافحة الفساد؟ هل هناك مجال لتطبيق "نموذج الريتز" السعودي الذي اتاح للملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد محمد بن سلمان، استرداد مئة مليار دولار؟
ففي أواخر العام 2017، صدم السعوديون وكثيرون حول العالم فيما كانت تتوالى أنباء من السعودية عن استدراج العشرات من الأمراء والمسؤولين ورجال الاعمال والاقتصاديين الى "فندق الريتز" في الرياض، حيث جرى احتجازهم هناك.
صحيح ان العديد من المراقبين اعتبروا ان خطوة النظام الملكي السعودي كانت تستهدف أساسا ابناء وحلفاء الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، لاخراجهم من دائرة التأثير السياسي والامني والاقتصادي، وتعزيز قبضة محمد بن سلمان على مقاليد الحكم، الا ان البيانات الرسمية السعودية اكدت ايضا ان حملة الاعتقالات هذه اعادة الى الخزائن السعودية نحو 100 مليار دولار.
وكانت الضربة السعودية مباغتة وسريعة اذ ما ان أعلن الملك سلمان بن عبدالعزيز عن تشكيل اللجنة العليا لمكافحة الفساد، حتى جرى استدراج واعتقال 381 شخصية في "فندق الريتز" الفخم وتم عزلهم تماما عن العالم الخارجي على صعيد الاتصالات الهاتفية والزيارات وحتى ان منازلهم وضعت تحت الرقابة وطائراتهم الخاصة جرى التحفظ عليها لمنع اي منهم او او اقاربهم من الفرار.
كانت "عملية الريتز" أشبه بفيلم هوليوودي محكم الاخراج. ومن اصل ال 381 الذين اعتقلوا، تمت التسوية مع 87 منهم واحيل 56 الى النيابة العامة لاستكمال التحقيق معهم، فيما رفض 8 عروض التسوية. ومن بين الاسماء التي تداولها الاعلام للمعتقلين، الملياردير الامير الوليد بن طلال، ورئيس مجموعة بن لادن السعودية العملاقة بكر بن لادن، ورئيس مجموعة "ام بي سي" التلفزيونية الوليد الابراهيم، والملياردير صالح كامل، ووزير الاقتصاد عادل الفقيه، ووزير المالية السابق ابراهيم عساف. اما على صعيد السياسيين الكبار، فقد اعتقل وزير الحرس الوطني الامير متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز، وامير الرياض السابق تركي بن عبدالله بن عبدالعزيز، ونائب وزير الدفاع السابق الامير فهد بن عبدالله وغيرهم والرئيس السابق للديوان الملكي خالد التويجري.
ومهما يكن، فبرغم ان دوافع سياسية طرحت كاحتمال دفعت الملك وولي العهد الى القيام بهذه الاعتقالات، الا ان العديد من السعوديين رأوا في المسألة جانبا آخر يتعلق باسترداد 400 مليار ريال سعودي، في وقت كانت الموازنة السعودية تسجل عجزا بعشرات مليارات الدولارات للعام الرابع على التوالي.
وقد نفذت لجنة مكافحة الفساد السعودية مهمتها سريعا سواء بالاعتقالات او بالتفاوض مع المعتقلين لانتزاع الاموال منهم. وفي المقابل، فان جهود مكافحة الفساد في العراق، لم تحقق انجازات تذكر حتى الان، برغم تفشي ظواهر الاختلاس والرشاوى وهدر المال العام على حساب ميزانية البلاد وتضخم ثروات العديد من الشخصيات التي تولت مسؤوليات ومناصب كبرى في العراق.
فهل هناك مكان ل"نموذج الريتز" في العراق؟ يقول موسى ان تطبيق "العراق تجربة مثل المملكة العربية السعودية، في استرداد الاموال ومصادرة الاموال المنهوبة من قبل شخصيات فاسدة، غير ممكن، خصوصاً ان العراق ليس دولة رعية، يوجد فيها ملك وأمير وهم من يأمر وأمره مطاع، بل نحن في دولة فيها قانون".
واعتبر موسى ان العراق يحتاج فقط الى "حسم القضايا وتطبيق سيادة القانون، وهذا الحل الوحيد، كما ان العراق عليه مؤشر بجودة القرارات القضائية، ففي المجتمع الدولي، هناك شبهات على هذه القرارات ويعتبرونها قرارات سياسية، فهناك متهمون ومدانون بجرائم الفساد يقدمون تبريرات للمجتمع الدولي على ان ملاحقتهم سياسية وليس قضائية".
لكن موسى الذي اشار الى "هناك اكثر من 500 مليار دولار من اموال العراق منهوبة من قبل شخصيات وجهات فاسدة"، أقر في الوقت نفسه بان استرداد هذه الاموال "سيمكن العراق من عبور أزمته المالية".
واقترح موسى ان تقوم الحكومة الجديدة، "بتطبيق خطة ثلاثة في ثلاثة، بالقاء القبض على ثلاثة من كبار الفاسدين، وفق مذكرات قضائية، ومصادرة واسترداد الاموال المنهوبة من كبار الفاسدين في البنوك الدولية".
وبرغم الاشكاليات القانونية التي تثيرها "عملية الريتز" فانها أثارت في نفوس كثيرين في العراق ولبنان ومصر وغيرها من بلدان المنطقة، مشاعر استحسان للفكرة في ان يكتشفوا فجأة ان هناك من قرر جرجرة المشبوهين بالفساد الى الاحتجاز وانتزاع الثروات عنوة منهم.
لكن قراءة تجارب دول أخرى قد تقدم طريقا أكثر وضوحا قانونيا وسياسيا، امام العراق عوضا عن انتظار بطل مستحيل، بفعل بؤس المواطنين وقهرهم.
في ايطاليا، مثلا، اختارت مجموعة من القضاة النزيهين، بقيادة القاضي انطونيو دي بياترو، التعاون لضرب الفساد الذي تفشى في البلاد، وتسببت حملتهم التي سميت "الايادي البيضاء" بالاطاحة بالطبقة السياسية بكاملها في بداية التسعينات من القرن الماضي، ولاحقت الالاف من رجال الاعمال والنواب وموظفي الدولة.
وبرغم ان المعركة لم تحقق انتصارا كاملا، الا انها هزت اركان الفساد والسرقات، فيما دفع العديد من القضاة والمدعين العامين، حياتهم ايمانا بقضيتهم.
اذا بامكان القضاء العراقي، اذا امتلك الشجاعة الكافية والاستقلالية، ان يخوض معركة استرداد الاموال المنهوبة. في لبنان مثلا، وبرغم مرور اكثر من سبعة شهور على تظاهرات 17 تشرين/اكتوبر، والتي كان من بين أهم اهدافها استرداد الاموال المنهوبة ومكافحة الفساد، الا ان تجاوب الطبقة السياسية والقضاء مع هذا المطلب لم يقدم أي انجاز يشعر اللبنانيين حتى الان ان أصواتهم وصلت. ويعتقد المراقبون ان ارتباط القضاء بالطبقة السياسية يجعل من شبه المستحيل تحقيق خرق يعيد ما يقدر بعشرات مليارات الدولارات جرى نهبها منذ تسعينيات القرن الماضي.
وبامكان العراق التعاون مع العديد من الجهات في الخارج لمحاولة محاصرة والتضييق على اموال منهوبة من البلاد. سويسرا مثلا، صارت برغم سريتها المصرفية، اكثر تعاونا مع الدول التي تلجأ اليها بمستندات قانونية واضحة، حول اموال مشبوهة في بنوكها.
نيجيريا مثلا، حققت نجاحا مهما في استعادة اموال منهوبة منذ عهد الديكتاتور الجنرال ساني اباتشا، بلغت 1.2 مليار دولار، بينها 700 مليون دولار من سويسرا وحدها. لكن مسار القضايا كان طويلا ومعقدا ذلك انه تم باشراف البنك الدولي الذي وضع شروطا حتى لا تستعاد اموال منهوبة وتصل الى جيوب فاسدين في نيجيريا. كما فرض شروطا مالية عديدة على حكومة نيجيريا، كان يتحتم عليها الالتزام بها مقابل السماح لها باستعادة الاموال، من بينها اعادة استثمار الاموال المستردة في قطاعات تنموية محددة.
وبعد اندلاع ثورات "الربيع العربي" اعترفت العديد من البنوك السويسرية بان لديها ودائع بمبالغ هائلة مرتبطة بزعماء عرب جرت الاطاحة بهم، هم الرئيس المصري السابق حسني مبارك، والرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، والرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي. الا ان الحكومات التي جاءت بعد تلك الثورات، لم تسترد حتى الان سوء جزءا ضئيلا من تلك الاموال على الرغم من سويسرا سارعت بعد سقوط هؤلاء الرؤساء الى تجميد حسابات مالية مرتبطة بهم او بأقاربهم وحاشيتهم.
ومثلما جرى بالنسبة الى الحالة النيجيرية من تأخير وبيروقراطية وعراقيل استمرت لسنوات، جرى ايضا بالنسبة الى قضايا اموال منهوبة من الفيلبين منذ عهد الديكتاتور فيرديناند ماركوس وزائير في عهد موبوتو سيسيكو.
وبرغم ان الديكتاتور الفيلبيني نهب ما يصل الى نحو عشرة مليارات دولار حتى سقوطه العام 1986، الا ان سلطات مانيلا اضطرت الى الانتظار حتى العام 2004، لتسترد 683 مليون دولار من البنوك السويسرية بعد اجراءات قضائية وقانونية شاقة وعراقيل سياسية داخلية، تطلبت 18 سنة.
وهناك نموذج مشجع جرى في البيرو، بعد استرداد اموال منهوبة منذ عهد الرئيس الاسبق البرتو فوجيموري. فقد شكلت الحكومة صندوقا وطنيا للاشراف وادارة الاموال المستعادة من الخارج، وذلك بهدف ضمان انفاقها بشفافية وتفادي وصولها الى الجهات الفاسدة مجددا. وضم الصندوق ممثلين عن خمس جهات بيروفية معنية بمكافحة الفساد لضمن نزاهة عملها.
بناء على هذه التجارب المتعددة في أكثر من دولة، يبدو ان خطط استرداد أموال منهوبة سواء في داخل العراق او خارجه، تحتاج الى اليات عدة، أهمها أولا القرار السياسي الصارم المسنود بدعم شعبي وبرلماني، وثانيا نظام قضائي فاعل ومستقل، وفريق عمل جاد وطويل النفس لمتابعة الملفات العديدة وملاحقتها في الخارج لدى الحكومات والبنوك والملاذات السرية للاموال، ثم أخيرا وليس آخرا، آلية نزيهة تستقبل هذه الاموال المستردة لتعود الاستفادة منها الى المواطنين بالدرجة الاولى والاخيرة.
في الخلاصة يمكن القول ان محاولة حكومتي بغداد واربيل التحرك لاستعادة أموال منهوبة تبدو خيارا منطقيا وطبيعيا ويزيدها الحاحا الازمة المالية التي لا سابق لها التي يمر بها العراق وكوردستان، لكن الطريق الى ذلك، كما يبدو، ليس مفروشا بالورود. فهل يفعلها العراق؟