شفق نيوز/ ليس تفصيلا بسيطا الموقف الاميركي المتعدد الذي بدر من واشنطن ازاء حكومة مصطفى الكاظمي بعدما نالت الثقة من البرلمان، ذلك أنه يعكس رهانا اميركيا واضحا على نقطتين أساسيتين: محاولة انجاح حكومته داخليا، وثانيا تحقيق توافق معها حول ملفات معلقة تضمن الاستجابة للتوقعات الاميركية منها.
وللوهلة الأولى، تثير المباركة الاميركية المتعددة للكاظمي وحكومته، تفاؤلا بثقتها بما يمكنهما القيام به في هذه المرحلة المضطربة في العراق، لكنها في الوقت نفسه، ترفع أمام الكاظمي مستوى التحدي للعمل ما بين ما يتوفر له من "استقلالية" لحكومته على المستوى العراقي الداخلي، وبين ما هو متوقع منه أميركيا.
ولهذا، فان رصد سلسلة المواقف التي صدرت عن جهات أميركية رسمية، والتقديرات الاعلامية عن جهات مقربة من أوساط دوائر صنع القرار في واشنطن والتي ترفدها بكثير من تقارير تقديرات الموقف، يحمل أهمية كبيرة، لانها تعكس بقدر كبير أولويات التفكير الأميركي تجاه الملف العراقي عموما، وهو ما يفرض على الكاظمي أخذه بعين الاعتبار بعدما آل اليه كرسي رئاسة الحكومة.
والمحاذير كثيرة لان الكاظمي يدرك، كما ترجح التحليلات والمعلومات المتوفرة، ان التسوية السياسية التي جرت في بغداد وأتاحت له نيل ثقة البرلمان، انما تمخضت عن "رقصة تانغو" خارجية، طرفاها واشنطن وطهران، وهو ما يستدل عليه من التأييد الذي حصل عليها برلمانيا من قوى سياسية مرتبطة بعلاقات وثيقة مع الايرانيين.
وبغض النظر على مدى دقة رسالة السفير الاميركي ماثيو تولر المسربة الى الاعلام، والتي اكدها كل من نوري المالكي واياد علاوي، فان معادلة حكومة الكاظمي قائمة على عناصر شديدة التوازن بين طرفيها الاميركي والايراني، وستكون خطواتها في المقبل من الأيام، مبنية على ذلك، ما لم يقدم أحد طرفي المعادلة على خطوة تتسبب باختلال غير محسوب – أو محسوب - العواقب.
لكن الأكيد ان واشنطن لا تتوقع أقل من اظهار الكاظمي عزمه على تقليم اظافر الادوار الايرانية في العراق. وهي تعلم انه لا يمكنها ان تتوقع منه "النأي بالنفس" عن ايران لعوامل عديدة، كما لا يمكنها في المقابل أن تتصور ان الكاظمي سيدفع الأمور الى نزاع متفجر، اذ ان "نموذج صدام حسين" لم يعد متصورا الآن بين الجارين.
وبرغم ان رسائل واتصالات التهنئة التي تلقاها الكاظمي من الاميركيين تركزت اساسا على الاصلاحات ومكافحة الفساد وتعزيز الديمقراطية، فان واشنطن مع ذلك، ستود ان ترى حكومة الكاظمي تظهر ازاء الايرانيين، ما يطمئنها، خصوصا مثلا ما يتعلق بطبيعة الوجود العسكري الاميركي في العراق. ولهذا ربما، ذكر بيان السفارة الاميركية في بغداد ان "الحوار الاستراتيجي المقبل مع الحكومة العراقية يهدف إلى إعادة تأكيد قيمة الشراكة الاميركية العراقية لكلا البلدين، وهو ما أكده أيضا مكتب الكاظمي في بيان حول الحوار المقرر في حزيران المقبل.
وكان وزير الخارجية الاميركي مايك بومبيو أول المهنئين الاميركيين للكاظمي اذ أبلغه بمجرد نيله ثقة البرلمان، بأنّه، مدد للعراق لمدّة 120 يوماً، مهلة لن تفرض الولايات المتّحدة عقوبات خلالها، لاستيراده الغاز والكهرباء من ايران، مشيرا بوضوح الى ان هذه المبادرة جاءت بهدف "إظهار رغبتنا في المساعدة في توفير الظروف الملائمة لنجاح" حكومته.
هذه نقطة تلاق للكاظمي ما بين طهران وواشنطن، ومبادرة اميركية واضحة المغزى، التقطتها ايران بالتأكيد. لكن الدعم الكهربائي الايراني من الصعب ان يكون نقطة خلاف جوهرية بين الطرفين. الملفات الساخنة اكثر تعقيدا من ذلك.
في تغريدة على تويتر بعد الاتصال الهاتفي بالكاظمي، قال بومبيو "الآن يأتي العمل العاجل والشاق لتنفيذ الإصلاحات التي طالب بها الشعب العراقي. لقد تعهدت بمساعدته (الكاظمي) على تنفيذ ذلك من أجل الشعب العراقي".
ومعلوم ان واشنطن فرضت عقوبات صارمة على قطاع الطاقة الإيراني في العام 2018، وهدّدت بمعاقبة أي دولة تتعامل مع طهران في هذا المجال، لكنّها منحت بغداد سلسلة من الإعفاءات المؤقتة المتتالية، كان آخرها الأسبوع الماضي ومدته 30 يوماً فقط، لكنها منحت بغداد هذه المرة 120 يوما. وأتاح الإعفاء الأميركي للعراق بمواصلة استيراد حوالى 1400 ميغاواط من الكهرباء و28 مليون متر مكعب (988 مليون قدم مكعب) من الغاز من إيران.
في المواقف الاميركية المعلنة، تحدثت مثلا السفارة عن دعم وشنطن "إلى رئيس الوزراء الكاظمي والشعب العراقي لمكافحة جائحة (كوفيد-19) وتحقيق نصرٍ شاملٍ على داعش وتوفير المساعدة الإنسانية وتحقيق الاستقرار للنازحين والمناطق المحررة".
وفي المقابل، حددت السفارة مطالب من الحكومة العراقية الجديدة متمثلة ب "العمل الصعب والمُتمثل بتنفيذ الإصلاحات المُلحة وتلبية احتياجات الشعب العراقي"، واجراء انتخابات مبكرة لتعزيز النظام الديمقراطي.
وجدير بالذكر ان قوى سياسية عدة تعارض فكرة الانتخابات المبكرة، لا بل ان مفوضية الانتخابات نفسها تحدثت عن فترة شهور عديدة لتتمكن لوجستيا من تنظيم انتخابات جديدة قد تتكلف نحو مليار دولار بحسب تقديرات عدة، في وقت يعاني العراق من أزمة اقتصادية شديدة.
من جهتها، قالت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية مورغان أورتاغوس في لقناة "سكاي نيوز عربية"، إن "الولايات المتحدة ستتابع كيفية تطبيق رئيس الحكومة العراقية الإجراءات الإصلاحية التي يطالب بها الشعب".
وحددت تصريحات عضو المجلس الاستشاري للرئيس الاميركي دونالد ترامب، غبريال صوما لشفق نيوز، طبيعة التطلعات الاميركية من حكومة الكاظمي، اذ بعدما اشار الى الاعفاء من العقوبات بما يتعلق بموارد الكهرباء والغاز من ايران ووضعها في سياق "دعم الكاظمي في مهمته لادارة الحكومة العراقية"، حدد صوما مجموعة من المطالب ان صح التعبير: تنفيذ الاصلاحات، حصر السلح بيد الدولة، اجراء انتخابات مبكرة.
ومعلوم ان ينطلق "الحوار الاستراتيجي" بين بغداد وواشنطن سينطلق في حزيران المقبل، ليطال كل القضايا الشائكة بين الطرفين، بما في ذلك طبيعة ومستقبل الوجود العسكري الاميركي، بخاصة بعدما صوت البرلمان العراقي رسميا للمطالبة بسحب القوات الأميركية.
وسيمثل واشنطن مساعد وزير الخارجية للشؤون السياسية ديفيد هايل، الرجل الثالث في الخارجية الأميركية. ولم يعرف بشكل رسمي ما اذا كان الكاظمي سيشارك شخصيا في جلسات الحوار، اذ تسلم للتو جبالا من الملفات للبدء بمعالجتها. لكنه يدرك تماما ان هناك الكثير مما يجب اصلاحه في العلاقة مع الاميركيين، اذ كما تصفها مجلة "فورين بوليسي" الاميركية بانها "شراكة مختلة" من وجهة النظر الاميركية.
وتسرد المجلة الاميركية مجموعة عناصر تبرر وصفها لتلك العلاقة بانها مختلة من بينها: قتل قوات الامن المئات من المتظاهرين، استغلال ايران الاقتصاد العراقي للتحايل على العقوبات الاميركية، تلقي فصائل عراقية مدعومة من ايران، بعضها على لائحة العقوبات الاميركية، مخصصات مالية من الحكومة العراقية التي لا تحاسبها على هجماتها على المباني والقواعد الاميركية على ارض العراق.
وتشير المجلة الى انه برغم ان واشنطن قدمت مساعدات بمئات ملايين الدولارات اقتصاديا وعسكريا، وساندت العراق ديبلوماسيا، على أمل ان يتحول الى شريك رئيسي في الحفاظ على استقرار وأمن الشرق الاوسط، فانه يسير بالاتجاه المعاكس، مضيفة ان "الحوار الاستراتيجي" يشكل الفرصة الاخيرة لتغيير هذا الاتجاه وانقاذ الشراكة الاميركية -العراقية طويلة الامد، داعية واشنطن الى فرض شروط أكثر قوة مقابل الدعم الاميركية المقدم للعراق، وافهام بغداد انها ستخسر الكثير ما لم تظهر مقاومة لما اسمته "الهيمنة الايرانية".
سيذهب الاميركيون الى جلسات الحوار متسلحين بسلة من عناصر القوة التي تعزز موقفهم التفاوضي. هذه ليست مهمة سهلة أمام الكاظمي. سيضع الاميريكيون أمامه ملف صعود ارهاب داعش، وسيذكرون الكاظمي بان ادارة ترامب تسعى الى تقديم 600 مليون دولار لتدريب وتسليح قوات الامن العراقية، والى تأمين 120 مليون دولار لدعم الاقتصاد العراقي وبرامج اخرى بما فيها نزع الالغام.
واشنطن هي ايضا تذكرة مرور حكومة بغداد الى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اذا ما تواصل الانهيار الاقتصادي الذي يشهده العراق والعالم. ولهذا لن يكون الموقف التفاوضي للكاظمي سهلا، بخاصة انه يدرك ان غالبية هذه المساعدات لا يمكن استبدالها من دول أخرى اذا امتنعت واشنطن عن تقديمها.
سنترقب لمعرفة ما اذا كانت ادارة ترامب المحرجة من قرار البرلمان العراقي التصويت لاخراج قواتها من البلاد، ستعمد الى استخدام اوراق الضغط هذه على الكاظمي، بما في ذلك التلويح بعقوبات نفطية (مثلما ألمحت فورين بوليسي)، ما لم ترى واشنطن استجابة عراقية كافية بنظرها لمطالبها.
وفي الحديث عن الوجود العسكري الاميركي، تلمح "فورين بوليسي" بشكل واضح الى تمييز لا لبس فيه، للنظرة الاميركية الى كل من بغداد وكوردستان. فقد دعت الى ضرورة اعداد الادارة الاميركية خطة لتعزيز دور القوات الاميركية في العراق لتأمين سلامة اقليم كوردستان، مشيرة الى انه بخلاف الطبقة السياسية العراقية، فان حكومة كوردستان وقواتها الامنية داعمة بشكل كبير للوجود العسكري الاميركي.
واوضحت انه من خلال تمركزها في كوردستان المؤيدة للاميركيين، بامكان الولايات المتحدة القيام بمهمات مكافحة الارهاب الضرورية ضد داعش، بما في ذلك في سوريا، ومن دون اجراءات الحماية الواسعة المضطرة ان تعتمدها حاليا في عملياتها في مناطق اخرى في العراق. واشارت الى انه مع تخفيف مستوى تعرض قواتها لمخاطر، سيكون بمقدور واشنطن ان تتصرف بشكل اكثر مرونة في مواجهة المخاطر التي تشكلها داعش وايران.
بهذا المعنى، ستكون مفاوضات الحوار الاستراتيجي شاقة بكل جوانبها، فيما ينتظر الاميركيون ان يرصدوا ملامح حركة الكاظمي بما يتعلق بمستقبل القوات الاميركية، وانما من دون ان ننسى أيضا ان الرئيس دونالد ترامب نفسه قال قبل ايام "أنفقنا 8 تيرليون دولار على أسوأ قرار جرى اتخاذه في أي وقت مضى بالذهاب إلى الشرق الأوسط، هذا ربما أسوأ قرار في تاريخ بلادنا، اذ قتل ملايين الأشخاص من كلا الطرفين".