شفق نيوز/ لعلها مجرد صدفة تلك التي جعلت بعض أبرز الشخصيات السياسية في العراق وكوردستان تتولى في أوقات متزامنة نسبياً، مناصبها القيادية وهي آتية من خلفيات ومؤهلات أمنية رفيعة المستوى قامت خلالها بأدوار بالغة الخطورة والحساسية.
وتثير مثل هذه المفارقة العديد من التساؤلات والنقاش، خاصة أنها تشمل مصطفى الكاظمي رئيس الحكومة العراقية، مسرور بارزاني رئيس حكومة إقليم كوردستان.
ومن بين هذه التساؤلات المشروعة ما إذا كانت الخبرات الامنية – المخابراتية هي التي تصب في صالح عمل أي سياسي وتفتح له الأبواب التي قد تبدو موصدة. أم أن الأزمات المعقدة هي التي فرضت صعود "الأمنيين" الى الحلبة السياسية كخيار حتمي؟
المتعارف عليه أن الرجال الامنيين في مواقع المسؤولية الخلفية، تتاح لهم الإحتكاك والإطلاع على مسائل شديدة الحساسية والخطورة والدقة، ما يُسمح لهم بتراكم معرفة بالأمور والقضايا والإشكاليات، ويجيز لهم في مكان ما بلورة هذه المعلومات والحقائق في معالجة الملفات وتفكيك الالغام السياسية والامنية، وأحيانا كثيرة بعيداً على الاعلام.
بمعنى آخر، راكم الرجلان، خبرات في مقاربة مسائل أُحيلت إليهما للمعالجة والمتابعة، وعلى ما يبدو أن نتائجها المستترة، وصلت بوضوح الى الدوائر الضيقة لصنع القرار، مع التذكير أن صعود الكاظمي وبازراني، من كواليس المخابرات والأمن الى المسرح السياسي، سبقه عموماً اضطراب ومصاعب على الصعد السياسية والاقتصادية والامنية، خاصة في العاصمة بغداد.
والنقطة الاخرى يبدو أن الرجلين اكتسبا بالمجمل خبرات خلال الاحتكاك بمراكز القوى الخارجية، الدولية والاقليمية، بالتعامل والتواصل معها، من واشنطن الى لندن والرياض وطهران وأنقرة وغيرها، على الرغم من أنهما يمتازان بصغر عمرهما نسبياً، فكيف سيكون أداؤهما في السياسة مع أحابيلها وغدراتها؟
مصطفى الكاظمي
تولى جهاز المخابرات الوطني العراقي فجأة وهو في عمر الخمسين، ثم بعدها رئاسة الحكومة في آيار مايو 2020، وهو بحسب ما يجمع المراقبون، يأتي من خارج الطبقة السياسية التقليدية السائدة منذ نحو 15 سنة، لكنه ليس منفصلاً عنها بالكامل.
ولعل عمله في المخابرات خلال اربعة أعوام أتاح له الولوج إلى دهاليز السياسة العراقية وكواليسها، ومكّنه من نسج علاقات خاصة ووطيدة مع العديد من الشخصيات والقيادات العراقية. وهو في هذه الأثناء، كان يقود جهود المخابرات في مواجهة خطر داعش، والتنسيق مع مختلف القطاعات الامنية والعسكرية، إضافة الى قنوات التواصل والتنسيق السرية مع قادة الاجهزة الامنية في المنطقة والعالم، بما في ذلك الاميركيين والايرانيين والاتراك والسعوديين والسوريين والبريطانيين، سواء كانوا ضمن التحالف الدولي أو لم يكونوا.
فالعمل المخابراتي الوطني يتطلب من قائد الجهاز فتح كل خطوط التنسيق والتفاهم مع كل الجهات الداخلية والخارجية، طالما يحقق ذلك مصالح الأمن القومي ويعزز عناصر الإنتصار على الإرهاب الذي احتل مساحات واسعة من الاراضي في العراق وكوردستان وصولاً إلى سوريا ولبنان.
وبرغم انه لم يكن يتمتع بتاريخ حافل في العمل السياسي في ما مضى، إلا أن سنوات عمله في المخابرات مكنته من تطوير مهاراته التفاوضية وفي الوقت نفسه تعزيز شبكة علاقاته الواسعة، بعيداً عن الأضواء، مع عشرات الدول والأجهزة الامنية.
ولهذا يوصف الكاظمي الآن بأنه براغماتي ولاعب ماكر لا يعادي أحداً. ولعل هذه السمات هي التي فتحت له فجأة أبواب رئاسة الحكومة، بعدما استقال سلفه عادل عبدالمهدي في آواخر العام 2019، ولم يتمكن مرشحان آخران من نيل تأييد القوى السياسية طوال شهور، الى أن طُرح اسم الكاظمي كمرشح مقبول من مختلف القوى.
وسيكون على رجل المخابرات السابق، أن يطرق قضايا شديدة الصعوبة خصوصاً في الشأن الاقتصادي – المعيشي مع انهيار أسعار النفط عالمياً، وملف العلاقة الدقيقة مع الاميركيين والايرانيين، طبعاً إلى جانب السير على أطراف ميادين المكائد السياسة في بغداد، وهي كلها تتطلب رجلاً ذي مواهب قيادية استثنائية.
مسرور بارزاني
يختلف كثيراً في خلفيته السياسية عن مصطفى الكاظمي. لمسرور بارزاني خبرة أكثر طولاً في العمل السياسي مقارنة برئيس حكومة العراق الحالي. لكنهما يلتقيان في الخلفية الأمنية المجهولة تفاصيلها نوعا ما.
فمنذ العام 1998 انتخب عضواً في اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكوردستاني، ثم اضاف الى مسيرته مرحلة خوض غمار التجربة الأمنية من خلال تعيينه مديراً عاماً لوكالة الحماية والاستخبارات.
وجاء توليه هذا المنصب الأمني الرفيع في وقت كان إقليم كوردستان يعيش توتراً بين الحزبين الديمقراطي والاتحاد الوطني الكوردستاني، ومرحلة ما بعد الانتفاضة الكوردية في العام 1991 ضد صدام حسين بعد حرب الخليج الأولى.
لكن التحديات الأمنية الأكبر جاءت لاحقاً، خصوصا بعد الغزو الاميركي في العام 2003، ودخول العراق واقليم كوردستان مرحلة جديدة من المخاطر والفرص.. وعلامات الفوضى. وانتقل نشاطه الأمني الى مستوى مختلف مع قرار الرئيس السابق لإقليم كوردستان مسعود بارزاني تعيين مسرور رئيساً لمجلس الأمن الوطني للإقليم ليكون مشرفاً على اجهزة الأمن والإستخبارات العسكرية المختلفة وذلك في العام 2012.
يُنقل عن مسرور بارزاني قوله في احتفال الإعلان عن انطلاق مجلس الأمن الوطني، إن تأسيس هذا المجلس خطوة نحو ازالة تأثيرات الإدارتين وهي خطوة لتوحيد قدرات وإمكانيات شعب كوردستان بهدف حماية ممتلكات المواطنين ومواجهة أي تهديد يواجه تجربة إقليم كوردستان وتهدد أمنه واستقراره.
قد تبدو هذه نظرة مسبقة للمشهد الداخلي للإقليم حيث سرعان ما ضم مجلس الامن الوطني، مؤسسة الآسايش (الأمن) والمديرية العامة للاستخبارات العسكرية ووكالة حماية ومعلومات الاقليم.
في المناسبة نفسها، قال الرئيس مسعود بارزاني وقتها إن "مجلس الأمن الوطني ملك لجميع شعب كوردستان وليس ملك لحزب أو جهة من الجهات".
وعكس تشكيل المجلس وتصريحات الرئيس بارزاني، رغبة في تعزيز الأمن كمدخل لاستقطاب الإستثمارات وتحريك العجلة الاقتصادية في الإقليم، اذ لا تنمية ولا ازدهاراً اذا كانت ورقة الأمن الكوردستاني ضعيفة.
واصبح مسرور بارزاني لاحقاً احد ابرز اللاعبين ضمن التحالف الدولي ضد تنظيم داعش الارهابي. لا بل ان مجلس الامن الوطني الذي يترأسه قام بأدوار عسكرية وامنية متعددة، داخل الاقليم والعراق وعبر الحدود في سوريا، ضد شخصيات ومجموعات ومواقع تابعة لارهابيي داعش، خصوصاً من جانب وحدات مكافحة الارهاب التابعة للمجلس الوطني، وأحيانا بالتعاون مع القوات الاميركية.
ومن المؤكد أن هذا الدور الأمني وضع مسرور بارزاني امام اختبارات لم يعهدها من قبل، ودفعت به لفك شيفرات المخاطر، وفتح خطوط ساخنة مع القيادات الامنية والعسكرية والسياسية ايضا في كل من كوردستان والعراق والمحيط الاقليمي.
وتبدو تلك التجارب والسوابق دفعت بالحزب الديمقراطي الكوردستاني ترشيحه لمنصب رئاسة حكومة الاقليم في كانون الاول 2018.
وبرغم ارتدائه البدلة الرسمية رئيساً لحكومة الاقليم، الا أن الأوضاع والتطورات المتسارعة تضطره الى الاستمرار أحياناً في ارتداء زي "رجل الامن"، كما يتطلب الأمر في الوقت نفسه أن يساهم في معالجة جملة من المخاطر وتسوية أوراق ملتهبة في العلاقة مع بغداد، والحفاظ على قنواته الامنية التي خبرها سابقاً وتتيح للطرفين وأد التوترات قبل انفجارها، او احتوائها. وسيفرض "الحوار الاستراتيجي" بين الاميركيين والعراقيين، اوراقه على اهتمامات كوردستان، أمنيا وعسكريا واقتصاديا، وسيكون مسرور بارزاني حاضراً، حتى وإن لم يقتنصها اعلاميا.
ومهما يكن، فان فكرة وصول "امنيين" الى مواقع السلطة السياسية، ليست حدثا غير مسبوق. فعلى مستوى العالم، هناك نماذج عديدة لظاهرة "السياسيين الامنيين".
على سبيل المثال، الرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني، شغل منصب سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي لمدة 16 عاماً. وقد بدأ حياته المهنية في المجلس في عهد الرئيس هاشمي رفسنجاني واستمر في عهد خلفه الرئيس خاتمي، كما الأمر للرئيس الروسي فلاديمير بوتين جاء الى الكرملين من وكالة الاستخبارات (كي جي بي سابقا)، وهو مثل بالنسبة للروس خلاصا في مرحلة ما بعد الرئيس بوريس يلتسين، والوضع الكارثي الذي كانت تمر به روسيا الاتحادية.
رئيس وزراء جمهورية الجبل الاسود (مونتينيغرو) داسكو ماركوفيتش، كان رئيسا لجهاز المخابرات السابق. وهناك نموذج آخر معروف، وهو يفغيني بريماكوف الذي تولى رئاسة الحكومة الروسية في الفترة ما بين عامي 1998 و1999، بعدما كان تولى منذ العام 1991 رئاسة مصلحة المخابرات الخارجية التابع لوكالة "كي جي بي" سابقا. وكان هذا الموقع شديد الخطورة والدقة لانه جاء في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
وكإنموذج عربي يمكن الاشارة الى ولي العهد السعودي السابق محمد بن نايف بن عبدالعزيز الذي اعفي من منصبه في تموز/يوليو 2017. وقد ارتقى محمد بن نايف الى منصب ولاية العهد بكل ما يمثله من وزن سياسي في المملكة، بعد سنوات من العمل المكثف في وزارة الداخلية الواسعة الصلاحيات في المملكة السعودية، والتي وضعت صاحبها امام قضايا الارهاب الداخلي والاقليمي، وفي تماس مباشر مع كل قادة الاجهزة الامنية في الدول العربية والعالمية، حتى ان وزير الداخلية نفسه، كان تعرض لمحاولة تفجير انتحارية بمكتبه لكنه نجا منها، ما عزز صورته على الساحة السياسية وفتح أمامه ابواب ولاية العهد في العام 2015.