شفق نيوز/ رافق المصور الصحفي، أيمن أوغنا، وحدة من القوات العراقية الخاصة في مهامها لاستعادة السيطرة على مدينة الموصل من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية، على مدار أسابيع. وهو يستعرض هنا مرافقته أحد عناصر الوحدة الذي قتل في هجوم بالقنابل في معركة الموصل.
وقتل أحمد "طلقة" يوم الجمعة الماضي.
ويكره أحمد هذا الاسم، ويفضل عليه كنية "سبونج بوب"، وهو الاسم الذي أطلقه عليه نجله بسبب ابتسامته البلهاء، التي تظهر فجوات أسنانه مثل الشخصية الكرتونية الشهيرة.
ولم يكن في الوسع كتابة اسم أحمد كاملا لأنه كان، للأسف، أحد عناصر جهاز مكافحة الإرهاب العراقي، الشهير بالفرقة الذهبية، وهو ما قد يعرض بقية أسرته للخطر.
وهذا في حد ذاته يشير إلى حقيقة معبرة عن الوضع في العراق بعد أكثر من 13 عاما بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة على العراق.
وشارك أحمد في جميع المعارك التي شهدها جيله، وكان واحدا من أشجع وألطف وأظرف الرجال الذين عرفتهم.
وجاء اسم أحمد الحركي "طلقة" من طلقات الرصاص التي أخرجت من جسده منذ عام تقريبا.
وأوقفت الشرطة أحمد - باعتباره مسلما شيعيا من بغداد - وهو في سيارته أثناء عودته إلى منزله في إحدى الليالي.
وقد اخترقت المليشيات الشيعية قوات الشرطة الاتحادية في الوقت الذي كانت فيه إحدى قواتها الفعالة، بينما يقول البعض إنها لا تزال كذلك حتى الآن.
وأخرج رجال الشرطة في نقطة التفتيش أحمد من سيارته بعدما فحصوا بطاقة هويته، بينما كان آخرون في انتظاره.
في ذلك الوقت، كانت المليشيات الشيعية تستهدف رجال القوات الخاصة انتقاما لعملياتهم ضدهم في أنحاء العاصمة، وقد حصلوا بطريقة أو أخرى على اسم أحمد.
وقُيد أحمد في صندق سيارة واقتيد إلى مستودع مهجور، حيث عذب. وبدأت محنته عندما أوثقت يداه بلوح خشبي بواسطة مسامير.
وقال لي أحمد: "ظللت أخبرهم بأنني لا أعمل مع الأمريكان".
لكنهم لم يتوقفوا، وظلوا يخلعون أظافر أصابعي وإفاقتي في كل مرة أفقد فيها الوعي من شدة الألم.
ووضعوا منشارا على جبهتي. ويقول أحمد: "لقد كانوا يحاولون سلخ وجهي. ماذا حل بهؤلاء الناس؟
ولم يعترف أحمد إطلاقا بانضمامه إلى القوات الخاصة.
ووضع غطاء على رأسه وأطلقت عليه خمس رصاصات، أصابت إحداها جمجمته وتسببت في إسالة الدماء من رأسه، وكان المسلحون مقتنعين بأن أحمد فارق الحياة.
وألقوا جسده في مقلب للقمامة في منطقة للعراقيين السُنة، وهو إجراء شائع خلال الحرب الأهلية التي بلغت ذروتها في الفترة من 2006 و2007، في محاولة منهم لإلقاء مسؤولية القتل على طائفة أخرى، ما يقلل من احتمال دفن الضحية بطريقة آدمية.
لكن، وعلى عكس ما يروى من قصص الكراهية، حمل مسنٌ سُنّي جسد أحمد إلى المستشفى.
وعاد أحمد إلى وعيه، وحاول العثور على هذا الغريب الرحيم لكنه لم يجده.
غير أن موظفي المستشفى أبلغوا أحمد أنه بعد إحضاره إلى المستشفى ألقت قوة من الشرطة العراقية القبض على الرجل، واتهموه بالمسؤولية عن إصابات أحمد.
ولم يُوثق القبض على الرجل في سجلات رسمية، وانضم إلى آلاف العراقيين المجهولين الذين اختفوا في خضم حلقات العنف والانتقام في البلاد.
وقتل أحمد، الناجي الشهير، في مدينة الموصل عندما فجّر مسلح في تنظيم الدولة الإسلامية سيارة مفخخة بجوار سيارة "همفي" كان يتولى توجيه مدفعها الآلي.
واشتهر أحمد بأنه رام مدفع بارز. وفي أوائل هذا العام، أنقذ أحمد حياتي عندما اندفعت نحونا سيارة مفخخة مشتبه بها في الأراضي الوعرة لمحافظة الأنبار.
إذ إن مدينة الموصل ليست كالأنبار، فهي مدينة مكتظة بالشوارع الضيقة، ويربو عدد سكانها على مليون شخص، فضلا عن تأهب مسلحي تنظيم الدولة وتفخيخهم السيارات للمواجهة.
ففي غضون ثوانٍ، يمكن أن تظهر سيارة مفخخة وتقضي على القوات العراقية القريبة منها.
إنه سلاح الجهاديين المقابل للضربات الجوية، والسبب الرئيسي وراء ارتفاع ضحايا القوات الخاصة. فلم يبقَ شيء من أحمد لدفنه، فلا جسد، ولا ملابس.
كان أحمد واحدا من قوات جهاز مكافحة الإرهاب التي شاركت في أهم معارك العراق منذ عام 2003.
وأنشئ جهاز مكافة الإرهاب في البداية تحت مسمى قوات مكافحة الإرهاب العراقية، وكان يتوقع أن يتمتع مجندوها بمهارات تشبه مهارات قوات مكافحة الإرهاب الأمريكية.
وبعد عشرة أيام من التدريب الأساسي في بغداد، يرسل المرشحون إلى الأردن للخضوع لعملية فرز تستغرق ثلاثة أشهر.
ومن بين مجموعة أولية بلغ عددها 1200 شخص نجح 80 شخصا فقط في مرحلة الاختيار.
وخلال مرحلة الفرز، لم يكن يُسمح للمرشحين بالحديث بأسمائهم الحقيقية، وكان يسمح فقط باستخدام أرقام محددة.
وفي بلد يُتوقع أن تمزقه في النهاية التوترات الطائفية، استطاع النظام تحقيق ميزة العمل الجماعي بين المجندين العرب من الشيعة والسنة إلى جانب الكورد.
وساعد التدريب المكثف وهيكل القيادة القائم على الجدارة، وهو أمر جديد، في تحقيق النجاح الوحيد لجهود القوات الأمريكية الساعية لإعادة بناء قوات الأمن العراقية.
فمنذ خروج الأمريكيين عام 2011، تدهورت المعايير وتغيرت طرق اختيار القوات.
غير أن قوات مكافحة الإرهاب العراقية بقيت الأكثر احترافا والأقل طائفية بين القوات المقاتلة في البلاد.
وعندما انهار الجيش العراقي بعد اجتياح العنصريين السنة الذين مزّقوا البلاد عام 2014، كانت القوات آخر الجنود الموجودين على الأرض، وأضحوا أبطالا شعبيين إلى درجة أن المسلحين الشيعة بدأوا في الانضمام إلى وحدات تابعة لقوات مكافحة الإرهاب العراقية.
وكانت القوات الخاصة العراقية - في كل معركة ضد تنظيم الدولة تقريبا - رأس الحربة.
وشارك أحمد في معارك الرمادي، وفي هيت، وفي الفلوجة، وأخيرا في الموصل، حتى إنه شارك في المعارك الأولى ضد تنظيم القاعدة والمليشيات الشيعية.
وعلى الرغم من سجله في الحروب، فأحمد، كما يحب أن يقول عنه أحد زملائه، ليس هذه الصورة النمطية في مخيلتك لـ"المحارب الوغد".
فربما كان أحمد أكثر أبطال الحروب الذين ستقابلهم سذاجة على الإطلاق، إذ كان يطلق النكات السخيفة بصرف النظر عن مدى بؤس الموقف الذي كان فيه.
"ماذا يوجد هناك لتناوله"... عبارة اعتاد أحمد أن يسألها قبل أن يلعق شفاهه، وبعد ذلك يطرق على بطني صارخا: "أيمن! أيمن! لذيذة."
ويوم الثلاثاء، احتجت إلى قدّاحة سجائر (ولاعة)، وذهبت إلى أحمد.
وسحب أحمد مجموعة من عشر قداحات مربوطة بشريط مطاطي، وقال: "ليس لدي الآن الكثير منها، لذلك فالسعر باهظ... سأعطيك القداحة الزرقاء مقابل ألف دولار."
فقلت له: "حسنا يا أحمد ... سأحضر الأموال غدا".
فرد قائلا: "غدا سيكون السعر ألفي دولار"، فوافقت.
إنه دين لن أستطيع مطلقا سداده.
bbc