لطالما شهدت الاوساط البحثية والاكاديمية بعد احتلال العراق نقاشا بخصوص الدولة الاكثر تأثيرا في مجريات الاوضاع فيه، وهو نقاش امتد ليشمل مساحة واسعة من باحثين عرب واجانب، تعددت آرائهم بصدده بين القائل منهم بان البلاد تشهد هيمنة إيرانية شبه تامة، ليصبح العراق معها تابعا لطهران، وبين من يعتقد ان الولايات المتحدة لا يزال لها دور ملحوظ رغم تآكل مكانتها في السياسة العراقية، تزايدت تأثيراته مع بروز التحالف الدولي ضد تنظيم “الدولة الاسلامية”.
وسيكون من التفاؤل الاعتقاد بان الولايات المتحدة الامريكية قادرة على الحد من النفوذ الإيراني على حكومة بغداد، والاحلال محله في تسيير العملية السياسية، ويمكن قياس ضعف واشنطن في المشهد السياسي العراقي من خلال متغيرات عدة هي:
– شكلت الهوية الطائفية أساس التنظيم السياسي بعد عام 2003، وأصبح الإسلام الشيعي هو الاكثر حضورا في المعادلة السياسية والواسطة الابرز للتعبير السياسي. وبذات المعنى فانه لا يمكن تجاهل المنظور الطائفي لدوره المركزي في الحياة الاجتماعية والسياسية والامنية. وبالتالي فان العراقي اليوم يصنف ضمن هويته الطائفية التي تتيح له ان يكون مواطنا من الدرجة الاولى، تمثله حكومة شيعية وان كانت تستغله ولا تبالي به لجهة تقديم خدماتها له، وتهدر ثروات البلاد لمصلحة احزاب وتيارات واتباع، او ان يكون مواطنا من الدرجة الثانية، ثمن بقاءه حيا يتطلب منه السكوت وعدم الاعتراض، ورغم ذلك فانه يتعرض لصنوف من الانتقام والاذلال والتشريد.
-وما يلاحظ، غياب النفور والاستنكاف الذي كان يبديه السنّة لمجرد التعبير عن الهوية الطائفية في الخطاب العام، حيث شهدت السنوات الماضية تخفيفا تدريجيا ابداه السنّة لإظهار هذا النفور، وادراك حقيقة الانقسام الذي يعيشه المجتمع، الذي تسهم المرجعيات والسياسية والدينية بالإبقاء عليه وتوظيفه ضمانا لمصالحها. ولا شك في أن دعم إيران للميليشيات الشيعية، التي كانت تقتل السنّة وتقاتل القوات الاميركية في سنوات الاحتلال، أسهم في إذكاء النزاع الطائفي، ممهدا الطريق لتعاظم عدم الثقة بين الجانبين. وليس هناك من ينكر أن السنّة كانوا ضحايا التهميش السياسي وحتى الاجتماعي في النظام الذي يهيمن عليه الشيعة.
– ولم تكن مخرجات الفوضى الخلاقة التي قالت بها كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الامريكية الاسبق لترسيخ الديمقراطية عبر استخدام سياسة التدخل العسكري التي اسقطت النظام العراقي السابق، الا حكومات متعاقبة اقتسمت السيطرة على مؤسسات الدولة والهيئات الحكومية والمستقلة بين منظومة من الأتباع والولاءات الخاصة بكل حزب اعتمادا على عنصر الولاء دون الكفاءة والخبرة، فضلا عن اهدار مئات المليارات من الدولارات في السنوات الماضية عبر الفساد والمشاريع الفاشلة والوهمية.
– استراتيجية الاستدارة شرقاً نحو آسيا التي بدأت إدارة أوباما بتطبيقها، وقوامها الضبط الاقتصادي “القومي” في الداخل وخفض الالتزامات والحروب الأمريكية في الخارج وإعادة تركيب نظام العولمة الأمريكي، بما يخدم هدفين في آن معا: احتواء صعود الصين ومواصلة ترسيخ الزعامة الأمريكية على العالم. وبعبارة اخرى فان ما يشهده الشرق الأوسط حاليا يدور في اتجاهين متعارضين، أولهما: تراجع الاهتمام الأمريكي بالانخراط في المنطقة، وثانيهما: محاولة منافسين إقليميين ودوليين إثارة تحديات للولايات المتحدة في الشرق الأوسط لخفض قدرتها على التحرك خارج هذه المنطقة.
-اسهمت ادارة اوباما المترددة حيال الثورة السورية، في تكريس تناقضات البيئة الإقليمية العربية، لجهة تشكيل محاور تقاطعت فيها دول المنطقة بين مؤيد لحكومة الاسد، ومؤيد للمعارضة المسلحة. ليكون العراق في صف الجناح الداعم لدمشق، بل انه حلقة الوصل المهمة التي تمد النظام بالدعم العسكري واللوجستي والمالي، وهو امر لم يقابله ردع امريكي حيال سلوك بغداد هذا. اضف إلى ذلك التقاعس الأمريكي في وجه السياسة الإقصائية التي اتبعها المالكي حيال السنّة، ثم صعود تنظيم “الدولة الاسلامية”، زاد في تفاقم الوضع الطائفي.
-تصاعد الدور الايراني في العراق، وقد حذر منه ديفيد بترايوس قائد القيادة المركزية للقوات المسلحة الأمريكية السابق، مدير الاستخبارات الأمريكية السابق، في مقابلة مع “واشنطن بوست” في 20 آذار/ مارس العام الجاري معتبرا ان التهديد المركزي لاستقرار بعيد المدى للعراق والمنطقة كلها ليس هو “الدولة الإسلامية ولكن المليشيات الشيعية التي يتم دعم الكثير منها أو توجيهها من قبل إيران”. على ان واشنطن لم تحرك ساكنا حيال ممارسات المالكي بتمكين جماعات مسلحة، مثل “عصائب اهل الحق”، و”كتائب حزب الله” من استهداف خصومه، بما في ذلك السماح لعناصرها بارتداء ملابس عسكرية لتمويه نشاطاتها.
-غياب رؤية استراتيجية امريكية حول كيفية التعاطي مع العراق، تجلت واضحة ابان سقوط الموصل بيد تنظيم “الدولة الاسلامية” في حزيران/يونيو 2014 عندما سمح لقاسم سليماني قائد “فيلق القدس”، بادارة الصراع في انفراد شبه تام، في ظل محدودية الدور الامريكي، الذي عانى ضعفا وتخبطا ما افضى إلى تقوية دور ميليشيات “الحشد الشعبي”.
ووفقاً لمصادر مخابراتية فان فك الحصار عن مدينة آمرلي قام به 1500 عنصر من الحرس الثوري الايراني من قوات (قرار كاي رمضان) قرب منطقة قادر كرم، التي تقع في قضاء طوزخرماتو في شمال شرقي العراق وتتبع محافظة صلاح الدين، يتلقون دعما من 4000 عنصر من ميليشيات “الحشد الشعبي”. واللافت ان هناك حالة من التنسيق بين طهران وواشنطن، حول كيفية استعادة المدينة، إذ قامت طائرات “الدونز” الامريكية بتحديد احداثيات تواجد عناصر تنظيم “الدولة الاسلامية” لقوات الحرس الثوري. ولعله اعتراف امريكي واضح بإيران قوة اقليمية عظمى وشريكا استراتيجيا في العراق.
-التواجد العسكري الإيراني الذي اضحى علنيا، ففي تصريح لقائد القوات البرية الإيرانية تحدث فيه عن عناصر رصد واستطلاع تابعة للجيش الإيراني دخلت إلى العراق بالتنسيق مع الحكومة العراقية، بالإضافة إلى حديثه عن تحليق مروحيات إيرانية فوق مناطق عراقية خاضعة لتنظيم “الدولة الاسلامية”، وبحسب موقع أوريكس العسكري الأمريكي تم رصد دبابات وصواريخ إيرانية متجهة إلى تكريت، خلال المعركة التي خاضتها ميليشيات “الحشد الشعبي” لطرد التنظيم هناك.
ومن جهة ثانية، قال موقع “ديبكا” الإسرائيلي أن قوات إيرانية تقوم بحماية العاصمة العراقية من جهة الغرب والشرق، وتحول دون تقدم قوات “الدولة الإسلامية” إلى الجنوب تجاه المدن الشيعية الرئيسة. وإن هذه القوات تتكون من جنود من “الباسيج” وهو تنظيم شبه عسكري يتألف من متطوعين إيرانيين، بالإضافة للميليشيات العراقية الشيعية ممثلة بـ”كتائب حزب الله”.
ويقود هذه القوات أبو مهدي المهندس وهو نائب رئيس هيئة قوات “الحشد الشعبي” المرتبطة بمجلس الوزراء العراقي، والتي تضم عشرات الآلاف من مقاتلي الميليشيات الشيعية، والذي يعتبر اليد اليمنى للجنرال قاسم سليماني. كذلك أشار “ديبكا” إلى أن المهندس المطلوب للقضائين الكويتي والأميركي وللشرطة الدولية (الانتربول)، يقوم اليوم بدور حلقة الوصل بين الجنرال سليماني، وقادة القوات الأمريكية المتمركزة في بغداد، حيث تضطر القوات الإيرانية للحصول على موافقة أمريكية للهجوم على أهداف ومواقع تابعة “للدولة الإسلامية.”
-عملت إيران على توسيعِ علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع العراق؛ الذي يستورد 72% من مجموع السِّلع الإيرانية المحلية، كما يحتل مرتبة الشريك التجاري الأول لإيران، إذ بلغ إجمالي التبادل التجاري بينهما بحدود 18 مليار دولار عام 2015، اما قيمة صادرات السلع غير النفطية، والتي تصدرها طهران إلى العراق تبلغ ستة مليارات دولار سنوياً، وأن “80% من الخدمات التقنية والهندسية في العراق تقوم بها شركات إيرانية، وأن قيمة تلك الخدمات تبلغ 4.2 مليارات دولار، وأن السوق العراقية تعتبر من الأسواق لإيران، لأنها سوق تجارية قوية، وتعتمد على ما يصدر لها من البضائع والمنتجات الغذائية.
-تجربة الحكم الشيعي خلال الثلاث عشرة سنة الماضية تكشف عن فشل ذريع على مستوى الادارة والحكم، لتنهار معها تقاليد العمل الاداري التي توافرت عليها الدولة العراقية منذ نشأتها عام 1921، اضافة إلى سياسات القمع التي تعرقل أي تحولات جذرية في مسيرة الحكم. يكملها صراع خفي بين المرجعيات الشيعية في النجف وقم، وما يمكن ان يعنيه انتشار لمبدأ ولاية الفقيه بين شيعة العراق، على مستوى الخمس والفتاوى.
مكغرك وسليماني ..ايهما الاكثر قوة؟
وتعبيرا عن ضعف التأثير الامريكي في العراق، الذي يتنافس فيه اليوم لاعبان يحرصان على صيانة مصالح بلديهما، بريت مكغرك نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون العراق وإيران وسوريا، متخصص في شؤون العراق وعمل في إدارتي أوباما، الذي عرف عنه انحيازه الشديد إلى سياسات نوري المالكي، بل قيل عنه في لحظة معينة انه مستشار لحزب الدعوة. ترشيحه لمنصب السفير الامريكي في العراق في 26/3/ 2012 لقى معارضة من قبل احزاب سياسية عراقية، ومن اطراف سياسية امريكية في الكونغرس. وبهذا الصدد قال رمزي مارديني، وهو محلل أبحاث في معهد دراسات الحرب ان الاعتراضات على ترشيح مكغرك تستند على قربه من المالكي وعلى حقيقة أنه لا يوجد لديه تجربة في تشغيل أكبر سفارة للولايات المتحدة في العالم.
والشخص الثاني هو قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني٬ رجل الظل الذي يتحرك متواريا عن الانظار٬ يقود العمليات العسكرية ضد تنظيم “الدولة الاسلامية” ويفرض رؤى حكومته على متخذ القرار العراقي، وتتبع توجيهاته بحذافيرها على مستوى التحالف الشيعي، تسانده الميليشيات الموالية لإيران.
لقد تزامنت زيارتا الرجلين مؤخرا إلى بغداد واربيل٬ لحسم ولاية الرئيس مسعود البارزاني التي انتهت في الـ20 من شهر آب/اغسطس الحالي، دون ان تؤدي حتى الان الى نتائج ملموسة.
وجاء مكغرك، على رأس وفد أمريكي رفيع المستوى ضم السفير الأميركي في العراق ستيوارت جونز، والقنصل العام الامريكي في أربيل ماتياس ميتمان، إلى مدينة السليمانية للاجتماع بقيادتي الحزبين الاتحاد الوطني الكوردستاني والتغيير(كوران) لبحث الأزمة السياسية القائمة بخصوص رئاسة الإقليم وقد نقل بيان رسمي عن الوفد الأميركي، تأكيده على ضرورة “التوافق لحل المسائل الوطنية والقومية”، مجددا تعزيز “الدعم الأميركي لقوات بيشمركة كوردستان”.
وتكاد مهمة سليماني تشابه ما جاء من اجله مكغرك إلى العراق، إذ التقى قائد “فيلق القدس” الرئيس مسعود البارزاني, ورئيس وزراء الاقليم نيجرفان، وقادة من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني منهم كوسرت رسول وبرهم صالح وهيرو احمد ابراهيم، ومنسق حركة التغيير نوشيروان مصطفى، ومؤكدا دعم بقاء مسعود البارزاني رئيسا للإقليم، على ان يتخلى عن بعض صلاحياته.
ما يعني بأن تفعل طهران ما بوسعها لاستغلال الفرصة السانحة، بالحد من صلاحيات البارزاني في مقابل الابقاء عليه رئيسا الإقليم، واضعاف دوره في تعزيز مشروع الانفصال الكردي، الذي تراه طهران مصدر قلق لمصالحها في العراق. وبذات المعنى فان المطلوب إيرانيا ان يكون الرئيس البارزاني ضعيفا إلى الحد الذي يضمن بقاء حاجته إلى الدور الإيراني.
ويذهب كثير من المحللين إلى القول ان معادلة القوة التي يتوافر عليها الرجلين، انما تميل لمصلحة سليماني “الرجل الأقوى في العراق”، كما يصفه مقتدى الصدر، بينما تواجه تحركات مكغرك بعدم الثقة على مستوى الساسة الشيعة. فكلاهما اليوم يسعيان إلى تجديد ولاية الرئيس البارزاني، وان اختلفت مقاربتيهما، تجمعهما مخاوف الانقسام الكردي الذي من شانه ان يقوض جهود محاربة “داعش”.
ويرجح بعض المراقبين أن يكون عام 2015 مناسبة لاختبار علاقة جديدة للداخل بالخارج٬ إذ يفترضون أن محوراً متماسكاً قد تشكل على وقع انحياز واشنطن وطهران إلى البارزاني٬ وهذا المحور يخوض مفاوضات قوية تزخر بـ”الشدة” متمسكاً برسالة مفادها ان الوقت ينفد امام الاكراد٬ وأن إدارة التناقضات٬ تتطلب العمل بالتوافق٬ وان “صفقة الداخل الكردي المتماسك” هي التي سترسم خيارات محاربة الارهاب هذه المرة. ويذهب هؤلاء إلى مدى أبعد٬ قائلين إن سليماني راح يتفاوض مع الاتحاد الوطني الكردستاني بلغة الاجبار، ما اوجد انزعاجا في السليمانية.
ومن جهة اخرى فان مكغرك يشدد على موضوع تسليح عشائر المحافظات الواقعة تحت سيطرة تنظيم “الدولة الاسلامية”، ويدعو إلى المصالحة الوطنية الحقيقية بين جميع الاطياف العراقية واقناع الحكومة العراقية بعدم الوقوف ضد هذه الملفات.
وعلى نقيضه، يتحرك سليماني بالضد من عمليات تسليح العشائر السنية، فهو من يقود “ميليشيات الحشد الشعبي” التي تقوم بمحاربة تنظيم “الدولة الاسلامية” ولن يقبل بتسليح اي جهة خارج الحشد والقوات الحكومية. بذريعة الخشية من تحولهم قوة عسكرية مناهضة للحكومة في بغداد في المستقبل، أو بحجة أن بعض هذه العشائر ربما تكون مخترقة من “داعش” رغم أنها تساند قوات الجيش العراقي منذ سنوات.
وبالنظر لما تتمتع به طهران من نفوذ في العراق، فانه من المشكوك به أن تتقبل طهران دبلوماسيا امريكيا، بإمكانه ان يفتح الابواب أمام شيعة العراق للتحرر بنحو كبير من الوصاية الإيرانية، وإعادة التوازن إلى العملية السياسية التي شابها التهميش والاقصاء. وهو الذي لعب دورا قياديا في تسهيل تشكيل حكومة حيدر العبادي، وتنحية رئيس الوزراء السابق نوري المالكي رجل إيران، الذي شغل المنصب على مدى السنوات الثماني الماضية.
سليماني لن يتوانى عن عرقلة جهود مكغرك، وان تحركات الاخير الساعية إلى تقريب وجهات النظر بين العراقيين لن يكتب له النجاح، فالأول يرى أن معظم السنّة شركاء لـ “الدولة الاسلامية” ولا يمكن لحكومة بغدا ان تثق بهم. وإيران التي تحكم قبضتها على العراق، ليست مستعدة لأن تجازف أبدا بان تفقد نفوذها هناك، ولن يكون ذلك إلا بتمكين الشيعة تماما واقصاء السنّة نهائيا عن الحكم في العراق
سليماني، يلعب ويناور معتمداً على “طول نَفَسه”، وسيطرته على الاسلام الشيعي الحاكم في بغداد، أما الآخر فان يتحرك دون مناورة وليس بمقدوره احداث التغيير الذي تريده واشنطن
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية