شفق نيوز/ يأتي "الحوار الاستراتيجي" بين العراق والولايات المتحدة في اللحظة السياسية المناسبة تماماً، بعدما تراكمت أزمات وتشابكت تعقيدات داخلية وخارجية، فرضت على العلاقات العراقية – الاميركية بعد 150 سنة على بدايتها، أن تعيد فتح ملفاتها، لأن ساعة الحقيقة قد حانت.
ومن غير الممكن توقع نتائج الحوار الذي تبدأ جلساته في العاشر من حزيران/يونيو 2020، وقد يستمر اياماً، ذلك إن الاحتمالات من الاتساع لدرجة انه لا يمكن توقع وجهة ملفات التفاوض، وهي كثيرة، ومعقدة.
وحتى في أوساط مراكز الابحاث والدراسات الاميركية التي ترفد صانعي القرار في واشنطن بالافكار والخيارات، لا تستبعد احتمال وصول المفاوضات الى طريق مسدود. وتضع في الوقت نفسه احتمالاً معاكساً، بأن يشهد الحوار الاستراتيجي، انفراجات كبرى، تعيد هيكلة العلاقات بأكملها، وربما تفتحها على آفاق جديدة.
إلا أن القضايا المطروحة شديدة الخطورة والحيوية والتوصل حولها الى تسويات ليس أمراً يسيراً. ومع ذلك فإن الرهان الاساسي لواشنطن على ما يبدو أن تغتنم فرصة وجود مصطفى الكاظمي في رئاسة الحكومة العراقية، فتزيل من أمامه العديد من الالغام السياسية والأمنية والاقتصادية، التي تهدد حكومته الوليدة.
كما أن المراقبين يجمعون على أن "الملف الايراني" هو الأكثر حساسية على الصعد كافة. ولهذا فقد شاهدنا حركة اميركية وايرانية نشطة في الأيام الاخيرة، في العراق، في ما يبدو تحضيراً أخيراً لبنود التفاوض والحوار، بعدما نجحت "رقصة التانغو" بين واشنطن وطهران، في تمهيد الطريق امام ولادة حكومة الكاظمي مؤخراً.
وفي 3 حزيران/يونيو، كان قائد فيلق القدس الإيراني اسماعيل قاآني يحط في بغداد مع وفد حكومي ايراني يضم وزير الطاقة رضا اردكانيان ومسؤولين اخرين، فيما قال مصدر سياسي لوكالة شفق نيوز إن الهدف من الزيارة "توحيد المواقف تجاه الحوار الاستراتيجي المرتقب بين بغداد وواشنطن".
وغالب الظن، أن قضية مستقبل الوجود العسكري الاميركي في العراق على رأس اهتمامات المسؤول الايراني. وهو يدرك أنها بند أول على طاولة التفاوض العراقي -الاميركي، منذ أن طلب البرلمان العراقي من السلطة السياسية، خلال عهد رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي، جدولة الانسحاب الاميركي.
ومن المعلوم أن قوات اميركية وبعض قوات التحالف، انسحبت حتى الان من 6 قواعد عسكرية منذ اغتيال قاسم سليماني وابو مهدي المهندس، لكنها تضعه في اطار إعادة التموضع والانسحاب من قواعد تضم عدداً قليلاً من الجنود.
اذا، "البقاء او المغادرة" هو العنوان الأبرز للمصارحة الاميركية -العراقية التي ستجري غالباً عبر "الفيديو". لكن السفير الاميركي في العراق ماثيو تولر ألمح قبل أيام الى أن الحوار الاستراتيجي لا يتعلق فقط بالدعم العسكري الاميركي ويطال جوانب اخرى سياسية وثقافية وزراعية وتعليمية واستثمارية وتجارية بالاضافة الى مجالات الطاقة "ليكون العراق مستقلاً في بهذا المجال".
ولعله لنفس اسباب زيارة اسماعيل قاآني، نشط السفير الاميركي في الايام الاخيرة فبعد لقائه الكاظمي في اوائل شهر ايار/مايو الماضي، التقى قبل ايام رئيس اقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني حيث ذكر بيان الرئاسة في اربيل أن الطرفين كانا متفقين بشأن اهمية الحوار الستراتيجي بين العراق واميركا، فيما اعلن تولر الذي التقى ايضاً رئيس حكومة كوردستان مسرور بارزاني، أن اقليم كوردستان سيشارك في الحوار الاستراتيجي وسيكون جزءاً منه، فيما أكد بارزاني على اهمية هذا الحوار وعلى ضرورة أن تصب نتائجه في المصلحة العامة لمكونات العراق كافة.
وتعبيراً عن الاهمية التي توليها اربيل للحوار الاستراتيجي، اعلنت حكومة كوردستان أن رئيس ديوان رئاسة الاقليم فوزي حريري سيمثل الاقليم في الحوار الاميركي – العراقي.
وبهذا الإطار يقول النائب عن كتلة الحزب الديمقراطي الكوردستاني بشار الكيكي لوكالة شفق نيوز، إن الولايات المتحدت هي من طلبت وبشكل رسمي مشاركة الكورد في الجوار الاستراتيجي.
ويضيف أن حكومة الاقليم حريصة على تحقيق توافق على المواقف السياسية حيال وجود القوات الامريكية في البلاد وملف التنسيق مع التحالف الدولي، مؤكداً حرص حكومة كورستان على المصالح العليا للشعب العراقي”.
ومن الطبيعي ان يكون اقليم كوردستان مهتماً بشكل مباشر بالحوار المزمع، ذلك أن جانباَ من المباحثات حول الوجود العسكري الاميركي، يتناول خيارات عدة من بينها ارتباط كوردستان وتأثرها باحتمالات البقاء العسكري الاميركي وطبيعته، او احتمالات الانسحاب الكبير او اعادة التموضع. كما أن اقليم كوردستان معني مباشرة بتطور العلاقات الاميركية -العراقية على الصعيد الاقتصادي.
ولهذا، بينما يزداد التواصل بين بغداد واربيل استباقاً للحوار الاستراتيجي، ناقش الاميركيون، بحسب التسريبات الاعلامية، فكرة نقل جزء مهم من قواتهم الى مناطق كوردستان، للمحافظة على وجود عسكري – أمني اقل كلفة مالية وحساسية أمنية، عوضاً عن الانسحاب بشكل كبير من العراق، بما يضمن للولايات المتحدة تواجداً قريباً من الاحداث والتطورات العراقية فيما لو تدهورت الامور.
وهذه نقطة أخرى تتطلب أولاً التنسيق المكثف بين بغداد واربيل، وتتطلب ايضاً محادثات صريحة مع الايرانيين، ما يؤكده وصول اسماعيل قآاني الى بغداد قبل ايام قليلة من انطلاق الحوار الاميركي – العراقي.
وقبل ايام، نشر ثلاثة من الباحثين البارزين في "معهد واشنطن" الاميركي هم كارل كالتنثالر، منقذ داغر وأنطوني كوردسمان تقريراً قدموا فيه مجموعة من "التساؤلات/ الطلبات" التي ستطرحها الادارة الاميركية على العراقيين خلال الحوار الاستراتيجي، هي كالتالي:
-طلب أن تضمن الحكومة العراقية سلامة القوات الاميركية والسفارة الاميركية في العراق والمدنيين الاميركيين والشركات الاميركية العاملة في العراق.
-متى وكيف ستلتزم بغداد بالسيطرة على سلطة الميليشيات الشيعية المتحالفة مع إيران ووضعها فعليًا تحت سلطة الحكومة المركزية؟
- ما هي الخطوات الموثوقة التي سيتّخذها العراق لاستعادة استقلاليته من إيران في مجال الطاقة؟
-ما هي الخطوات الموثوقة التي ستتخذها الحكومة العراقية من أجل تقليص الطبيعة الطائفية للسياسة العراقية، ولا سيما هيمنة القوات السياسية الشيعية الموالية لإيران في البلاد؟
-ما هي الخطوات التي ستتخذها الحكومة العراقية للحدّ من الفساد المستشري وتوفير الخدمات الأساسية للشعب؟
-ما هو المستوى الذي يريده العراق من حيث القوات الاميركية والمساعدة المدنية والعسكرية، وما الذي سيفعله لإظهار قدرته على التوحّد والحكم والتنظيم لاستخدام تلك المساعدات بفعالية؟
وطبعاً هذه الاسئلة والطلبات لا تمثل الموقف الرسمي لإدارة دونالد ترامب، لكنها في الواقع تعكس نمط التفكير السائد في دوائر صنع القرار، وهو ما تدركه حكومة الكاظمي وتعد اجاباتها بناءً على ذلك.
ومن المناخات المتداولة في واشنطن ايضاً بحسب ما كانت نشرت مجلة "فورين بوليسي" الاميركية خيار تهديد بغداد بالعقوبات في حال لم تظهر التزاماً تحديداً بملف العلاقة مع الميليشيات المرتبطة بايران.
"معهد بروكينغز" ايضاً بحسب تقرير للباحث رانج علاء الدين، ذكر بأن الرئيس دونالد ترامب سبق له أن هدد بفرض عقوبات على بغداد من خلال حجب قدرة وصولها الى الاموال الاحتياطية العراقية اذا استمرت الجهات الوكيلة لايران بمهاجمة القوات الاميركية من دون عقبات.
النقطة اللافتة للانتباه في تقدير كل من "معهد واشنطن" و"معهد بروكينغز" التقائهما على فكرة انه يفضل الا تحاول واشنطن دفع الأمور بين بغداد وطهران الى حد القطيعة والعداء.
وبنظر "معهد واشنطن"، فانه "لا يمكن للولايات المتحدة أن تتوقع من العراق الاضطرار إلى اتخاذ قرار واضح والاختيار بين إيران واميركا. فالعراق الديمقراطي لا يمكنه اختيار جهة أو أخرى بدون أن يزعزع هذا الخيار استقراره بشكل كبير. وبحكم خصائص العراق الديمغرافية والجغرافية، من غير الواقعي الطلب منه التخلّص من النفوذ الإيراني. وعلى الحكومة الاميركية القبول بعراق تربطه علاقات جيدة مع كل من الولايات المتحدة وإيران".
اما "بروكينغز"، فيقترح ان تقيم الولايات المتحدة علاقات طويلة الامد مع بعض المكونات الرئيسية في قوات "الحشد الشعبي" عوضاً عن الطلب من العراق حلها بالكامل"، معتبراً انه طلب تعجز بغداد عن تلبيته نظرا الى نفوذ الحشد الشعبي في المؤسسات والسياسة العراقية. كما يعتبر المعهد انه من خلال تقوية فصائل الحشد غير المرتطة بايران وانما بالمرجعية، فإن واشنطن بذلك ستمنح الكاظمي مساحة ضرورية تقيه من المجموعات المتحالفة مع ايران التي تتسم بقوة لا يمكن احتواؤها من دون هذه المساحة، وسيكون بامكان الولايات المتحدة ايضا ان تساعد الكاظمي على الاستفادة من الانقسامات لإعادة موازنة العلاقة بين الدولة والجهات الوطيدة بإيران.
يتابع "بروكينغز" انه "في هذه المرحلة، ستؤدّي محاولة ضبط الميليشيات الغنية بالموارد والمتمرّسة في القتال التي تحظى بدعم إيراني قوي إلى تكبّد العراق الذي انهكته الحروب تكاليف تتخطّى المنافع المحتملة"، طارحاً نصيحة للإدارة الاميركية بالا تتوقع أن بغداد ستضبط تلك الجهات في الوقت الراهن.
اذا يستشف من هذه الطروحات والافكار، أن واشنطن لا تستبعد خيار القبول ب"التعايش المنطقي" بين حكومة الكاظمي والقوى الموالية لإيران في العراق، لكنها ستود أن ترى خطوات او اجراءات يعول عليها، تشير أولاً الى أن إيران نفسها تفهم هذه الحقيقة من طرفها وتتبادل معها "رقصة التانغو"، وثانياً أن الكاظمي سيحسن السير على حبل المجازفة الاضطرارية هذا.
وتنظر الولايات المتحدة بعين القلق الى حقيقة انها قدمت مساعدات مالية بمئات ملايين الدولارات الى العراق مراهنة على تحوله الى شريك اقليمي لها، الا انه صدمت بوقائع تشير الى انه يسير في الاتجاه المعاكس أحياناً.
وقد يكون فريق التفاوض العراقي في موقف لا يحسد عليه اذ من المحتمل أن يلجأ الاميركيون الى أسلوب "التفاوض على حافة الهاوية" مستندين الى وقائع من بينها أن بغداد تحتاج الى مساعدات اقتصادية عاجلة وكبيرة، والى استثمارات من الشركات الاميركية، وأن عجلة الانتاج النفطي متضررة، وأن وباء كورونا يلقي بأعبائه على الحكومة الواقعة بعجز مالي كبير. ويعلم العراقيون ان مفاتيح العلاقة مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهما من المؤسسات المالية العالمية، موجودة ما بين البيت الابيض والخارجية الاميركية في وقت تشح الموارد المالية المحتملة من مصادر أو دول أخرى في ظل الكساد العالمي القائم.
صحيح ان ملف العلاقة مع ايران يتصدر مشهد الاولويات، لكن النقاش لن يكون أقل أهمية في ما يتعلق بمسائل حساسة أخرى، من بينها تصاعد خطر عصابات داعش وضمان المصالح الاميركية مستقبلا في مقابل الرهانات الروسية والصينية، وذلك بغض النظر عما سيؤول اليه وضع وحجم القوات العسكرية الاميركية في العراق.
ومهما يكن، فإن مستشار رئيس الوزراء العراقي هشام داود اعلن في مؤتمر صحفي، أن "المفاوضات مع الولايات المتحدة ستبدأ في 10 حزيران الجاري وقد تكون بمستوى وزير خارجية او ادنى"، مشيراً الى أن "مشاركة الكاظمي فيها قد لا تكون قريبة".
وأضاف أن الجانب العراقي، "سيؤكد خلال تلك المفاوضات على السيادة الوطنية دون التطرق بشكل مباشر على انسحاب القوات الاميركية"، مشيرا الى أن "هناك مجالات كثيرة للتعاون مع الولايات المتحدة وليس مقتصراً على الجانب الأمني الذي قد نحتاجه مستقبلاً كالمعلومات والتدريب".
اما "تحالف الفتح" بزعامة هادي العامري، فقد كشف عن مشاركته في الحوار الاستراتيجي، اذ قال القيادي في التحالف سعد السعدي، لوكالة شفق نيوز، إن "أهم شرط وضعناه أمام حكومة مصطفى الكاظمي، هو تنفيذ وتطبيق قرار البرلمان العراقي (في كانون الثاني/يناير الماضي 2020)، القاضي بإخراج كافة القوات الاجنبية من العراق"، معتبراً ان "تطبيق هذه الشروط لا رجعة عنه".
وهدد السعدي بأن "عدم تطبيق حكومة مصطفى الكاظمي، لقرار البرلمان العراقي، قد يعرضها الى سحب الثقة"، مضيفاً، "كل الخيارات متاحة أمامنا، كقوى سياسية وكفصائل مقاومة".
ومن المرتقب أن يتناول "الحوار الاستراتيجي" مصير اتفاقية الاطار الاستراتيجي الموقعة بين البلدين العام 2008 والتي مهدت لخروج القوات الامركية من العراق نهاية عام 2011 بعد ثماني سنوات من الاحتلال، كما رسمت طبيعة العلاقات بين البلدين على مختلف الأصعدة.