شفق نيوز/ نشرت مجلة «فورين بوليسي» الامريكية موضوعا للكاتبة إليزابيث براو، التي تدير مشروع الردع الحديث في المعهد الملكي للخدمات المتحدة، تناولت فيه جهود ألمانيا لمكافحة جائحة فيروس كورونا المُستجد، ومساعدة جيرانها من الدول الأوروبية؛ الأمر الذي قد يسفر عن تولي برلين القيادة العالمية في الجائحة الحالية، أو في الأزمات العالمية المقبلة.
تستهل الكاتبة مقالها قائلة: في بداية شهر نيسان الماضي أرسل المستشفى الجامعي في مدينة ينا في ولاية تورينغن، بوسط ألمانيا طبيبين، ومساعدين طبيين، ومجموعة متنوعة من الإمدادات الطبية إلى مدينة نابولي بإيطاليا. وقبل ذلك بيومين نقل الجيش الألماني (بونديس فير)، المرضى الفرنسيين والإيطاليين جوًا إلى المستشفيات الألمانية. وهذا مجرد جزء صغير من مساعدة ألمانيا لحلفائها في جائحة فيروس كورونا المُستجد.
تستدرك الكاتبة، أن رد ألمانيا الأوليّ على تفشي فيروس كورونا المُستجد لم يكن مثيرًا للإعجاب. ففي بداية عام ٢٠٢٠، أطلقت إيطاليا، أول دولة أوروبية تضررت بشدة من فيروس كورونا المُستجد، مناشدةً للحصول على الإمدادات الطبية مع مركز الطوارئ التابع للاتحاد الأوروبي. لكن الحكومة الألمانية تصرفت بالطريقة التي تصرفت بها كل حكومة أخرى في الاتحاد الأوروبي، أي أنها لم ترسل شيئًا. ثم في أوائل شهر آذار فرضت الحكومة الألمانية حظرًا على تصدير المستلزمات الطبية الحيوية بما في ذلك الأقنعة، والقفازات الطبية، والملابس الواقية. وبحلول 14 آذار لم تكن إيطاليا تلقت حتى تلك اللحظة أي مساعدة طبية من حلفائها في الاتحاد الأوروبي.
بعد ذلك بيومين - تواصل الكاتبة - أعلنت وزارة الشؤون الاقتصادية والطاقة الألمانية أن الحكومة وافقت على تسليم 400 ألف قناع إلى إيطاليا. وبذلك التصرف غيرت ألمانيا سياق استجابة الأوروبيين لإيطاليا؛ وسرعان ما وصلت الإمدادات الطبية من جميع أنحاء القارة.
وتعلق الكاتبة بأنه «عندما تكون هناك أزمة، غالبًا ما تكون الغريزة الجماعية في العالم هي توجيه اللوم الألمان. لكن هذه المرة، نحن مدينون لهم بالشكر، ونطالبهم بمزيد من القيادة العالمية».
وتلفت الى انه في نفس وقت مبادرة ألمانيا لمساعدة إيطاليا، أرسلت بكين إمدادات وعددًا قليلًا من الأطباء هناك، كما فعلت الشيء نفسه في وقت لاحق مع دول أخرى مثل صربيا. وبرغم أن معظم الإمدادات اشترتها إيطاليا، فإن بكين بمساعدة وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو جعلت الدعم الصيني أمرًا جللًا. ثم سرعان ما أرسلت روسيا 100 طبيب عسكري وإمدادات طبية إلى إيطاليا.
تقول الكاتبة براو «إن المسؤولية الأولى لأي حكومة هي رعاية سكانها. فالحكومة الألمانية فرضت حظرًا على صادرات الإمدادات الطبية حين عانت إيطاليا من فيروس كورونا المُستجد في أوائل شهر آذار، فيما أغلقت دول أخرى حدودها مع إيطاليا. لكن الضرر الذي لحق بالاتحاد الأوروبي والمكانة التي اكتسبتها الصين وروسيا كانت هائلة»، مشيرة الى ان استطلاعا جديدا، أجرته شركة «SWG» الإيطالية لاستطلاعات الرأي، كشف عن تحول صادم في المواقف الإيطالية تجاه البلدان الأخرى: فـ 52% من الإيطاليين الذين شملهم الاستطلاع يعدون الصين الآن دولة صديقة، وهي قفزة هائلة بنسبة 42 نقطة مئوية مقارنة بالعام الماضي.
وبالمثل يعد 32% من الإيطاليين الذين شملهم الاستطلاع أن روسيا دولة صديقة، مقارنة بــ 15 % العام الماضي، فيما يعد 17% فقط الولايات المتحدة دولة صديقة، بانخفاض عن نسبة الـ29% المُسجلة قبل عام. والأمر الأكثر إثارة للصدمة هو أن 45% من الإيطاليين الذين شملهم ذلك الاستطلاع عدوا ألمانيا «دولة معادية»، و38% عدوا فرنسا عدوًا، و17% يرون المملكة المتحدة بهذه الطريقة.
وتشير الكاتبة إلى أنه لو استجابت ألمانيا على الفور لمناشدة إيطاليا للحصول على إمدادات طبية، لكان من المحتمل أنها ستغير بعض الاستياء الذي ينظر به العديد من الإيطاليين إليها. وظل هذا الاستياء يشتعل منذ أزمة منطقة اليورو عام 2012، عندما شعر العديد من الإيطاليين أن ألمانيا تصرفت بلا رحمة (على الرغم من أنها وافقت في النهاية على إنقاذ إيطاليا وإسبانيا). ولم تكن ألمانيا مضطرة حتى إلى إرسال كميات هائلة من الإمدادات الطبية؛ خاصة وأن الصين وروسيا لم تفعل ذلك.
وتواصل الكاتبة، بالقول ان امرا كبيرا حصل ليغير الدور الالماني: إن تغير موقف برلين وإن جاء متأخرًا، إلا أنه أفضل من ألا يأتي مطلقًا. والآن، لا تقوم ألمانيا بإرسال الإمدادات فقط؛ بل قامت القوات المسلحة الألمانية، التي لطالما تعرضت لانتقادات شديدة، بنقل مرضى إيطاليين وفرنسيين من المصابين بفيروس كورونا المُستجد للعناية المركزة جوًا إلى ألمانيا، ونقلتهم على وحدة العناية المركزة الطائرة التابعة للجيش والمكونة من طائرة ايرباص A310 ميديفاك وطائرات أخرى. كما تبرعت أيضًا بقاعدتها في مبادرة حلف شمال الأطلسي الاستراتيجية الخاصة بالنقل الجوي الدولي، التي تتميز بطائرات شحن هائلة، لنقل إمدادات مكافحة فيروس كورونا المُستجد. وبرغم تواجد عدد أكبر بقليل من المصابين بفيروس كورونا المُستجد عن بريطانيا، تبرعت ألمانيا بـ 60 جهازًا من أجهزة التنفس الصناعي الخاصة بها وسلمتها إلى المملكة المتحدة.
وتلفت الكاتبة إلى أن هذه فقط البداية. فحتى الآن وفقًا لوزارة الخارجية الألمانية، عالجت ألمانيا 229 مريضًا أجنبيًا من المصابين بفيروس كورونا المُستجد بالعناية المركزة (44 من إيطاليا، و55 من هولندا، و130 من فرنسا) وعرضت دفع الفاتورة لهم جميعا. وتبرعت برلين بتسليم 7.5 طن من الإمدادات الطبية (بما في ذلك أجهزة التنفس الصناعي) إلى إيطاليا و25 جهاز تنفس لفرنسا.
وأرسل معهد روبرت كوخ الذي تديره الحكومة، وهو هيئة لمكافحة الأمراض والوقاية منها في البلاد، مجموعات اختبارات فيروس كورونا المُستجد إلى البلدان النامية. وسافر الأطباء الذين يعملون في سلسلة مستشفيات فريزينيوس هيليوس في ألمانيا إلى إسبانيا للقيام بمهمة مكافحة فيروس كورونا المُستجد، حاملين معهم 50 جهاز تنفس صناعي. وعندما ضرب فيروس كورونا المُستجد الصين لأول مرة أرسل الألمان إلى بكين أكثر من 14 طنًا من المعدات الطبية.
علاوة على ذلك -تتابع الكاتبة- خصصت وزارة التعاون الاقتصادي والتنمية الألمانية 1.15 مليار يورو (ما يوازي 1.25 مليار دولار) لمساعدة البلدان النامية على مكافحة فيروس كورونا المُستجد، عن طريق تعزيز أنظمة الرعاية الصحية الخاصة بها وتأمين الوظائف المحفوفة بالمخاطر في سلاسل التوريد والسياحة، على سبيل المثال.
وتعمل الحكومة الألمانية أيضًا مع الحكومات الأخرى لضمان الإنتاج العالمي الكافي من الإمدادات الطبية المطلوبة لمرضى فيروس كورونا. وتسمح برلين الآن أيضًا بتصدير الإمدادات الطبية إلى دول الاتحاد الأوروبي. وفي الأسابيع الأخيرة، قامت الشركات الألمانية، على سبيل المثال، بتصدير 8 ملايين قفاز طبي إلى النمسا، وفقًا لما ذكرته وزارة الخارجية الألمانية.
تنقل الكاتبة عن أجنيسكا بروجر، نائبة رئيس حزب الخضر في البرلمان الألماني (البوندستاج) قولها «بما أن الفيروس لا يتوقف عند أي حدود، فإن الرد عليه يجب أن يكون إشارة ودلالة على التضامن العالمي».
وتضيف «يجب على كل حكومة لديها القدرة على القيام بذلك مساعدة تلك الدول الأكثر احتياجًا، وهناك أعمال تضامن ألمانية مع جيراننا الأوروبيين تستحق الإشادة. فعلى سبيل المثال، قدمت الولاية التي نشأت فيها، بادن–فورتمبيرج، أسرّة مستشفيات لمرضى مصابين بفيروس كورونا من منطقة الألزاس المجاورة (في فرنسا)، ويساعد الجيش الألماني بتوفير وسائل النقل. وهذه هي بالضبط الإشارات التي نحتاجها الآن».
ويتابع تحليل الكاتبة إليزابيث براو : ألمانيا، بالطبع، ليست المساعد الوحيد. فعلى سبيل المثال، أرسلت رومانيا والنرويج أطباء إلى إيطاليا. وأرسلت ألبانيا، التي يبلغ عدد سكانها 2.8 مليون نسمة فقط، إلى الإيطاليين فريقًا طبيًا قويًا مكونًا من 30 فردًا، وأرسلت فرنسا والنمسا إمدادات طبية. ويقوم الجنود الأمريكيون المتمركزون في ألمانيا بتصنيع أقنعة للوجه للجنود الألمان، ووضعت الحكومة الأمريكية جميع الأفراد العسكريين الأمريكيين في إيطاليا (نحو 30 ألف عضو في الخدمة) تحت تصرف إيطاليا لمهمة مكافحة فيروس كورونا المُستجد. والواقع، أن المجال الجوي الأوروبي اليوم يحفل برحلات المساعدات الخاصة بفيروس كورونا المُستجد بين البلدان الصديقة. لقد أدركت العديد من الحكومات بوضوح أن مساعدة ضحايا فيروس كورونا المُستجد في بلدان أخرى أمر جيد، بل هو ضرورة جيوسياسية.
وتجسد الجهد الأبرز للمساعدة في مكافحة فيروس كورونا المُستجد في دولة تايوان، التي تبرعت بملايين الأقنعة الواقية للبلدان في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك 6.9 مليون قناع للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي؛ مما قزم من حجم المساعدات التي قدمتها الصين. ولكن بفضل الضغط الصيني القوي تعد تايوان منبوذة دوليًا، ولا تعترف حتى منظمة الصحة العالمية بها.
وتشير الى انه على عكس الصينيين والروس بمساعدتهم المتواضعة، لم يكن الألمان جيدين في الدعاية لجهودهم، قد يكون هذا هو السبب في أن ما يقرب من 50% من الإيطاليين الذين شملهم الاستطلاع يعدونهم أعداء.
ويرى رودريش كيسويتر، عضو الاتحاد الديمقراطي المسيحي في البوندستاج الالماني، إن هذا يجب أن يتغير، «وإلا ستكون هناك صورة مشوهة للوضع، خاصة فيما يتعلق بالمساعدات من روسيا والصين»، بحسب قوله.
ويقترح كيسويتر أيضًا أن يطور الاتحاد الأوروبي اكتفاءه الذاتي في التكنولوجيا الطبية المتقدمة ومعدات الحماية. وبالنظر إلى أن صناعة التقنية الطبية الألمانية توظف بالفعل نحو 200 ألف شخص؛ ما يفوق بكثير أي دولة أوروبية أخرى، فيمكن لألمانيا أيضًا أن تلعب دورًا رائدًا في هذا المجال. وعندما تظهر الأزمة الصحية العالمية التالية، يمكن للأوروبيين التأكد من أن العالم لا يتوقف على الإمدادات الصينية.
وتنبه الكاتبة إلى أن الحكومة الألمانية لم تكن متعاطفة في كل الأمور؛ إذ كانت مترددة في الموافقة على ما يسمى بـ«سندات كورونا»، التي ستشترك فيها جميع دول منطقة اليورو في الديون التي تراكمت على الدول الأكثر تضررًا من أزمة فيروس كورونا المُستجد.
وتقول أجنيسكا بروجر، نائبة رئيس حزب الخضر، لمجلة فورين بوليسي «في ضوء التهديدات الاقتصادية الشديدة التي يتعرض لها الاتحاد الأوروبي، يتعين على الحكومة الألمانية التوقف عن عرقلة تدابير التضامن الفعالة، مثل السندات المشتركة للتعامل مع هذه الأزمة». وتضيف أن منع حدوث انهيار اقتصادي في البلدان الأوروبية ليس فقط الشيء الصحيح الذي يجب القيام به، بل هو أيضا يصب في مصلحة ألمانيا الاقتصادية». وفي 23 نيسان، وافق قادة الاتحاد الأوروبي أخيرًا على حزمة إنقاذ من فيروس كورونا المُستجد بقيمة 540 بليون يورو (ما يوازي 585 مليار دولار).
ومع ذلك -تتابع الكاتبة- لا جدال أن ألمانيا تساعد ضحايا فيروس كورونا المُستجد في بلدان أخرى، وهي في الغالب تفعل ذلك على حساب دافعي الضرائب فيها. وتجري الجهود الألمانية أيضًا في خضم حالة من الفراغ في القيادة العالمية. وخلال الأزمة العالمية، عادة ما تتولى الولايات المتحدة زمام الأمور. وقد فعلت ذلك خلال جائحة الإيبولا عام 2014، إذ أرسلت حينها جنودًا وأطباءً إلى البلدان الأكثر تأثرًا في أفريقيا وحشدت استجابة عالمية حدت من تفشي المرض. أما هذه المرة، فلا توجد قيادة أمريكية.
وتقول الكاتبة في ختام موضوعها: إن غياب مثل هذه القيادة خلال هذه الجائحة أدى إلى خلق حالة داروينية (صراع من أجل البقاء)، تتنافس فيها البلدان ضد بعضها البعض على الإمدادات الطبية، ومكونات الإمدادات الطبية، ومكونات إنتاج لقاح لفيروس كورونا المُستجد، وأبحاث الأدوية والعقاقير. ويتنافس الباحثون حتى على شراء الفئران المعدلة وراثيًا الأنسب لتطوير لقاح فيروس كورونا.
وحتى يدير العالم الأزمة القادمة بفوضوية أقل من هذه الأزمة، يجب أن يكون هناك تنسيق أكبر للموارد، وهذا يتطلب قيام دولة رائدة بدورها ودفع وتشجيع الآخرين. وتقدم مساعدة ألمانيا في أزمة فيروس كورونا المُستجد الجارية انموذجًا لمثل هذه القيادة في المستقبل.
وهذا مهم على نحو خاص لأنه عندما تقع الكارثة التالية، لن تتجه البلدان بالتأكيد إلى الصين لتتولى القيادة، وربما ليس حتى للولايات المتحدة أيضًا؛ بالنظر إلى تخبط واشنطن في هذه الأزمة. ومن ثم، يمكن أن يكون الاتحاد الأوروبي فاعلًا هائلًا، ولكنه في حاجة إلى إجماع بين الدول الأعضاء فيه، وهو أمر لا يتحقق بسرعة أو بسهولة.
وتشير الكاتبة الى انه لن يكون من الحكمة الاعتماد على ألمانيا في المرة المقبلة، التي يقرر فيها ديكتاتور مثل بشار الأسد قتل شعبه، لتتولى قيادة جهد عسكري عالمي لوقفه. ولكن إذا كانت هناك جائحة آخرى أو كارثة ناجمة عن المناخ، فهناك إمكانات متوفرة في برلين للاضطلاع بالأمر.
وتختتم الكاتبة إليزابيث براو، بالقول: «ربما يجب على العالم أن يشكر الألمان هذه المرة، ويطلب منهم المزيد من القيادة العالمية».