2019-06-26 14:45:46

جان بابيير – فيينا

صدرت رواية «كوباني – الفاجعة والربع» للكاتب والروائي (جان دوست) باللغة الكوردية في مدينة «كولن» الألمانية، عن منشورات «دارا» في عام 2017م, ومن ثم بطبعتها العربية، وترجمها الكاتب بنفسه بتصرف إلى العربية عن دار «مسكيلياني» للنشر والتوزيع في تونس عام 2018م، تقع الرواية بين (546) صفحة من القطع الوسط، تندرج تحت عناوين مختلفة، يفتتح روايته بثلاث مقولات  مقتبسة، الأولى من كتاب (فصل في الجحيم) لآرثر رامبو، والثانية من (مراثي إرميا) من العهد القديم، والثالثة يدونها جان دوست: «في القصف انكسرت عكازة أبي إلى نصفين، نصف يلعن الحرب ونصف أهشُّ به على ألمي».

 

يغوص الكاتب إلى الألم البشري، مخترقاً كثافة معوجة وظلال، دمل وحل دماء ودخان وبارد, تشمّ كل هذه الروائح من بين السطور مائلة ومن أسماء متدلية على حبال سنينها ونبض منفرط على استدارته، ومجزأ على قائمة مستلزمات قبره، قبر الرواية وهواء معر في انحنائه وفصول الحجر وأرجوحة الندم بيد الهواء، يمتد أعواماً أخرى ويسقط أعواماً أطول، أطول من ظلاله، المدينة مزروعة بترهات صغيرة وقصص كبيرة وموت أكبر، المقارنة من فم خانه بين ولدها مصطفى ومتين، أحدهما جندي سوري وآخر مقاتل كوردي، هي مواقيت الضجيج، لتحاول إرضاء نفسها أنها وصلت إلى الحدود الدنيا من الحلم، وحمزراف القادم من المذابح, الذي لن تنجو ذريته من مذابح لا تقل قسوة عن التي تعرّض لها أخوته وأعمامه ويهبط الخوف إلى جوف غيهبه الأحدب.

 

إن زاوية الرؤية التقنية المستخدمة لسرد القصة الغاية منها التأثير على المروي وعلى القارئ. نفس هذه الفكرة من الناحية المضمونية نجد ركيزتها الأولى لدى «جون بوين» في كتابه (الزمن والرواية)، وهو بصدد الحديث عن حالة الراوي وموقعه, هذه النظرة كذلك نجدها في نصوص الشكلانيين الروس خاصة «يوريس إخنباوم» الذي عرف بين نمطين من السرد، سردٌ موضوعي، فالراوي يقف بشكل حيادي من الأحداث، وسرد ذاتي، الراوي يعطيها تأويلاً معيناً، هذا ما نجده في رواية كوباني، فجان دوست هو الراوي والمروي، نسمع ضجيجه الراوي هنا، وصمته هناك بروح كمقبرة تفضحه والاحتمالات المتعددة للتأويل، يمضغ حزنه كحطب مشتعل بعيداً عنه في مدفأة الشمال البعيد عنه القريب منه، تأخذه الأيام إلى هناك وجان متمسك بأصابعه بقوة ولا يتركها.

 

رواية كوباني الفاجعة والربع، هي تاريخ لمرحلة تدشين مدينة كوباني وتطورها, تعود خلفاً إلى بداية نشأتها، والمرحلة السياسية التي مر بها الاحتلال الفرنسي، ومغادرتهم للأرض السورية  والكرد الذي قاوموا وجود الأجنبي، حيث تسكنها عائلة الحاج مسلم ابن حمزراف المهاجر الذي هرب من بطش الذئاب من مدينته قارص بعد أن تشتت العائلة نحو الحدود العراقية والإيرانية, والشاب حمزراف بعد اندلاع ثورة شيخ سعيد ينضم إليها، وبعد إخماد الثورة وحبل الإعدام الذي كان يلاحقه ترك كل شيء خلفه واتجه جنوباً نحو كوباني ليأتي بقطار ويرمي بنفسه في محطة عرب بينار؛ ليصبح كوبانياً مع لقب جديد (المهاجر) مع  وصوله إلى المدينة، التي كانت آنذاك تشبه قرية يرصد الكاتب تطور المدينة والأرمن الذين ساهموا في بنائها، وتوسعت كوباني من خلال حانوت حمزراف, وكلما كان يكبر حانوته كانت المدينة تكبر وتتمدد, وحينما يشتد به الحنين يذهب إلى سكة القطار، الصفحة (49): «رباه! تفصلني عن هذه القرى فقط عشر دقائق مشياً، فلماذا هذه الألغام والأسلاك والحرس؟ ها أنا ذا أسمع قوقأة الدجاجات وثغاء الخراف هناك، ها أنا أسمع لغط الأطفال وصخبهم. هناك موطني الذي حرمتني من زيارته, أهذا عدل يا ربي؟».

 

مع رواية جان تمتلك شهيّة اللّهاث، لتركض خلف الأحداث، مئات الجمل التي دلقها خمراً على شراشف تغفو على أسرّة ورقٍ رديءٍ باتت تحمل ملامح صدغَيه، فهل فقد ظلّه بين رُواق الحبر؟ هل سقط من علوّ الأدب الشاهق ليقع في بحيرة الصمت؟ ما دام مربع العدل ينقصه ضلعان، وتساوي الزوايا، والهواء العائم من رماد إلى رماد، من فصل قتل إلى فصل دم، من طوفان أرض إلى طوفان غبار، من سلاسة لا تصدق دخولها إلى سلالة صدئة بالتشظّي، وأبخرة الحذر في سلالة الموت، غائباً عن انتمائه المكاني، حاضناً وجوده الزمني.

 

السرد في المونولوج الداخلي يبلغ ذروته، أما حدوده الدنيا رسمها «رولان بارت» في تعريفه الخطاب الشخصي, وهي أنه يكون بإمكان القارئ عبر رؤية هذه الشخصية، وينتقل من شخصية إلى شخصية أخرى.

تطبيق:

جاء في رواية كوباني في هذا المقطع من الصفحة (42): «الرجال لا يبكون يا محمد، يا حمزراف، ماذا جرى لك؟ أنت قادم من بين نيران انتفاضة عارمة، أليس من العار أن تدمع عيناك؟».

في مونولوج حمزراف الحكائي لنقل المعلومة وبث هواجسه يصل إلى بؤرة حرة، يصل بقعة نائية هي نفس الأرض المطاردة باللعنة مشرّداً منفياً بين النزوح واللجوء, كأن هذه الجغرافية حقل من القش ينتظر عود ثقاب أرض مطاردة باللعنة، ولكنّه هدوء متسرّب كتراب منهال على توابيت الحدث على أبواب قلعة الحزن، وغبار لحم الملكية الخاصّة من الرّوح، ويحدث كرنين معدنيّ مطليّ بمفاجأة الصوت خلف القطار الذي رماه كقط وحيد في برّية موحشة.

 

يبدأ الكاتب بتحضير لرسم ملامح الشخصيات، حج مسلم المؤمن، باران الموسيقي، ميول لوند المعارض الذي يشارك في المظاهرات، في الصفحة (25) يؤنّب الحاج مسلم ولده قائلاً:

  • إي!

وما الذي حدث؟

أي مظاهرة هذه؟

  • لم يحدث شيء يا أبي. كنا ثلاثمائة شخص. لاحقنا المخابرات عند مبنى البريد لكنها لم تعتقل أحداً.
  • قل إنكم كنتم ثلاثمائة حمار.

 

في بداية فصل الفاجعة الربع، يدخل الراوي – الكاتب باسمه الصريح إلى الرواية بعد قدوم رسالة صوتية إلى هاتفه المحمول. في الصفحة (27): «جانو. لقد مات أخوك خلو يا جان. لقد مات خلو». جانو هو جان دوست المفجع بموت أخيه, والمفجع بكوباني مدينته التي دائماً ما كان يسميها (مسقط قلبي).

 

وخلو الذي تأثر بالقتل الذي حدث في مدينته كوباني، عندما احتلتها داعش يذوي كالشمعة ويشتد مرضه أكثر وهو يحلم بالعودة إلى مسقط رأسه لكنها لم يعد إليها إلاّ جثة هامدة، الحيرة التي تأكل الراوي – الكاتب والشخص الذي له دور في أحداث الرواية كيف سيخبر ابنتي أخيه بوفاة والدهما وهو في غربته.

في ألمانيا، يتلقى الخبر كالصاعقة، وحينما ينظر إلى الساعة المعلقة على الحائط، يجدها الخامسة وأربع عشرة دقيقة والرواية تأخذ اسمها وعنوانها من التوقيت، الصفحة (28):

«الفاجعة والربع تقريباً».

 

في الرواية التي تعتمد ضمير المتكلم يقدم الراوي معلوماته باعتباره يراقب أحياناً تطورات الشخصيات من الخارج لنسمع أصوات متعددة وأحياناً الراوي هو الفاعل في الأحداث والشاهد على الأحداث أو مشارك فيها، واختيار السرد بضمير المتكلم يعرضه إلى تقييد مسبق لصيغة الوصف, يعرف «جيرار جينيت» تصوَّره بعد اعتماده لمفهوم السرد وإقصائه للمفاهيم الأخرى، الغاية ليست وضع كوباني تحت مشرحة النقد والتنظير، ولا الحكم على الرواية بل هي مراقبة الأصوات الداخلية  والخارجية من هذا المفهوم بقدر ما هو سبر النص، من خلال الراوي لنعود إلى أحفاد حمزراف، أبناء حج مسلم حمه، مصطفى، خديجة، متين، باران، لوند، روشن وباران العاشق والموسيقي، الذي يخفي قلم الكاتب أقدارهم ويرسمها على جبينهم موتاً غير معلن حتى نغوص في الصفحات، لنجد كل شخص منهم يتربص به الموت بطريقة مختلفة ويتوزع موتهم على مدار صفحات الرواية، وفي أماكن جغرافية مختلفة لترصد ثلاثة أجيال من حمزراف الهارب من الحراب التركية، واللاجئ في كوباني لتتشكل شريحة فيها تسمى بالمهاجرين, من صلب نطفة حمزراف المهاجر ولد له ابن سمّاه مسلم  تيمناً بشيخ مسلم السروجي، وسمى الحاج مسلم ولده محمد صالح، وهو اسم مركب من اسم والده حمزراف واسم شيخه الشيخ صالح سيدا. لكنه صاروا ينادونه في الغالب، باسم حمه وعرفه الناس بحمه المهاجر، في الصفحة (120):

«ولد وفي عنقه طوق اللعنة ذاك: اللقب المهاجر».

 

يدخل الكاتب جان دوست إلى ذاكرته التي عاشها في تلك المدينة القصية في الشمال، ويصور حواريها وشوارعها بكاميرا سينمائية، ويقوم بمونتاج اللقطات وتقطيعها وإلصاقها ببعضها؛ لتشكل كل تلك المشاهد الأليمة في داخله، ويسكبها على الورق، كعسكري يتخندق خلف متاريس ذاكرته ليقوم بواجب نوبة الحراسة لكل ما يؤرقه، لا يغادر ثكنته ويبقى متصلباً في ثكنته متشققاً مع أحلامه وطفولته القليلة يتلمسها برعب ويدوّنها ويخبئها، بحميمية الإنسان الكامن داخل الراوي, يظهر تعاطفه مع عائلة المهاجر, نأخذ مقطعاً صغيراً من نفس الصفحة الآنفة الذكر: «الجد مهاجر والابن مهاجر، والحفيد مهاجر إلى أبد الآبدين». ولم تكن مصادفة أن تكون هذه العائلة هي الشخوص الأكثر فعلاً وتفاعلاً في البناء القصصي والسردي  في الرواية، لكن في النهاية تشعر بأن الروائي كان ينصب لهم الكمائن، وأنك تشاهد دماءهم تسيل من بين فصول الرواية, كيف جمع بين شيئين متناقضين, إذ نجد في النهاية أكثر من عشرة أشخاص في هذه الرواية يفقدون حياتهم مع تصاعد الأحداث بطرق مختلفة وتوزيع الموت عليهم في أماكن وأوقات مختلفة لكنهم يعودون إلى نفس العائلة، وقد اتخذه الروائي نموذجاً مصغرّاً من الموت الأسود الذي داهم مدينته بوضوح.

 

 تسير الرواية بخطين متوازيين، خط يمثل عائلة حمزراف، والآخر الراوي، كما في فصل رائحة ذكرى, وفصول أخرى كثيرة يعود فيها الكاتب إلى الميتاسردية ليفرش ذاكرته في حي سيدا، يدخل بمخيلته، ليزور قبر والديه ويلتقي بابن أخته حمودة الذي يرسم الخراب، في تلك الحارة التي تحولت إلى أنقاض، بعد غيابه خمسة عشر عاماً ويجد للحجارة أرواحاً وهو في صراع مع مخيلته بين ما يراه متخيلاً وما هو حقيقي، وتتساوى الأشياء في نظره، القبح والجمال الحياة والموت والقتلة والمدافعون..., ما داموا يرثون الخراب في النهاية، سواء أكانوا داعش أم مدفعية المقاتلين أم طائرات التحالف التي  فجّرت ضريح جدّه, وهنا الضريح لجدّ الراوي الحقيقي، لذا يقول في نفسه من الصفحة (135): «تلك القبة المحطمة والواقعة أرضاً تحولت إلى شبه خيمة تحمي القبور», ينتقل بمهارة بين شخوص العمل الرئيسيين ويعود لينقل الحدث بدراية، بين الحدث والذي يعقبه، سلسلة من الأحداث تتمم الخط التصاعدي للشخوص والأحداث التي تتعلق بهم، ومن خلالهم يسير الزمان  بعد وفاة – قتل – مصطفى في الجيش العربي السوري، وإخبار الأهل بأنه انتحر, يتزوج حمه مكرهاً من أرملة أخيه، وهو ما زال قلبه معلقاً بأسومة التونسية وكل أحلامه موجودة في أحضان الشمال الإفريقي، أغلب الأماكن حقيقية في الرواية، بعض الشخوص أيضاً من لحم ودم وليسوا ورقاً وحبراً، ويعود الكاتب ليرتب الزمكانية المتجانسة بين  الوقت الذي يوصلنا إلى هجرة النازحين من إدلب إثر الأزمة السورية ليسكنوا مدينة كوباني، وليحدد مصيرهم، ويعود إلى ذاكرته، ونقرأ من الصفحة (148):

«آه كيف لم تنفجر ذكرياتنا بهم، أليست الذكريات فخاخاً وألغاماً».

 

لا يستطيع الفكاك من نوستولوجيا المكان وسطوته المهيمنة عليه, ينبش طفولته ويتذكر زملاء مدرسته، ومنهم حالم الذي استشهد في الجبال بعيداً، ويوضح سير رحلة عائلته التي قدمت من عامودا لتسكن هذه المدينة، وينتقل  بنا بالخطف خلفاً إلى مكان آخر في ألمانيا لنسمع حكاية خديجة التي تتحدث عن قصة حبها، مع آمد لتعود إلى حلب وإرهاصات الثورة السورية وكيف يقف لقب المهاجر كالجدار بينهما وقتله في الجامعة لأنه كان من النشطاء, مات مع الكثير من الطلاب, وقد تم قصف كلية العمارة من قبل النظام السوري  وبصواريخه, يمزج بين ما هو متخيل وحقيقي ورحلتها المحفوفة بالمخاطر من البحر، ومعاملة المهربين، لتصل إلى ذلك المشفى على ضفاف الراين، بعد أن فقدت زوجها ابرام وابنها دارا غرقاً في البحر، وهي تستجدي ذاكرتها العنيدة لتتسول منها ما تيسر من صور، غاب عنها كل شيء لم تعد تسمع إلا صوت دارا، صفحة (193):

«غابت حولها كل الصور إلاّ صورة ابنها الذي يغرق، اختفى كل شيء عن بصرها، إلا موج هائج يفترس ولدها النحيل، صرخت فجأة:

  • دارااا...».

 

وهكذا يختفي الشخص الثاني من عائلة حمزراف عندما ترمي بنفسها من أعلى الجسر إلى نهر الراين، صوت خديجة من الأصوات المتعددة في السرد 

أسعى من خلال هذا البحث إلى التعمق أكثر في مسعى النص الروائي  المعاصر، وسيرورته وتطوره عند جان دوست, الذات السردية لديه، المنفردة والمتعددة، محاولاً الوصول إلى الاختلاف وتتبع مسار التغيرات المستمرة في النص الروائي؛ فعل الكتابة وطريقة تحكمها في  السرد، أو ما أطلقوا عليه (نظرية الفوضى)، حظي الخطاب السردي باهتمام كامل في بداية القرن العشرين في انكلترا وأمريكا على يد نقّاد كبار أمثال «هنري جيمس ونورمان فريدمان»، عن البنية السردية للخطاب من تضافر ثلاثة مكونات هي: (الراوي، والمروي، والمروي له).

 

اللغة لدى جان دوست تقترب أحياناً من الشعرية والفلسفة عندما يكون هو السارد ولا تخلو من كلمات تخدش من شتائم على لسان شخوصه كما حمزراف  في ما آلت إليه أموره بعد الهجرة يستخدم الشتائم ، وعيشه وخانه وصراع الكنّة والحَمَايَة الأزلي، ويعود جان إلى صوته المتفرد، وتتصادم الذكريات في حارة سيدا في رأسه كما تحاصره الأنقاض  من الجهات الست، الصفحة (224): «أما من منزل سليم؟ منزل واحد فقط! أيها الإله الواحد الأحد».

 

يأخذ الروائي دوره الرئيس في السرد، رغم أنه يصف ويصوّر الأبطال والأحداث بضمير المتكلم، بعد اعتقال باران على طريق الرقة من قبل الدواعش, وهل كانت آلته الموسيقية وقنينة الخمر مبرراً ليأخذهما معه  لتكونان إدانة له في القصاص منه، وجدت هذا الموت غير مبرر كأنه مسبقاً تم التحضير له، تارك الصلاة وشارب الخمر ومعه آلة الشيطان, كل هذا يقوده إلى الموت المحتّم الذي خطط له الراوي، بطريقة مفتعلة، عندما يأتي الروائي بملىء إرادته يدخله في السياق، كما في قوله من الصفحة (265): «ترى هل جميع مَن يدنو موتهم أم هو على يقين أم أن ما يشهده الآن ليس سوى مشهد مسرحي»، هو كلام الكاتب الذي تخفّى خلف هذا الحديث آتياً بكلام في سياق السرد الراوي بضمير المتكلم، بطل يروي قصة، هذا هو صوته كما في الصفحة (267): «تمتم باران بكلمات تلك الأغنية، فدخل التراب الحار إلى فمه، امتزجت الأغنية بالتراب في فم باران»، وهكذا فقدنا الشخص الثالث من عائلة حمزراف  بعد أن هوى الساطور وتناثر الدم من شريانه، الراوي هو مَن يتكلم في زمن الحاضر و عن زمن مضى كأنه بطل  وقعت أفعاله في ذلك الزمن، الرواية ليست (سيرة ذاتية) ولولا ذلك لما كان من سبب يدفعه لأن يروي عن نفسه وعن شخوصه الذين يشاركونه العمل، لتحكي الشخصية عن نفسها وتصبح رواية، بل سرد بتقنية ضمير الأنا، مسافة محددة بمدة من الزمن، وأحداث جرت، وأحياناً تختلط مع أحداث  جارية في وقته الحاضر كما قوله في الصفحة (304): «بعد يومين جفّ ذلك الأكسيد الأحمر المسمى زريقوناً حسب ما عرفت عنه فيما بعد خلال دراستي في كلية العلوم في حلب»، ونجده ينتقل إلى الزمن الحاضر:

«الآن أنا أمام طلائه تقشر في الأسفل فظهر الزريقون الأحمر أعرف أنه تيتم بعد رحيل أصحابه».

 

ينتقل الروائي جان دوست بوتيرة عالية من مكان إلى آخر ,و لا يدع القارئ يلتقط أنفاسه، قدوم ابن حج مسلم من صفوف الكريلا لينضم إلى المقاتلين والمدافعين في كوباني، التحاق روشن بصفوف المقاتلين، مغادرة لوند وانضمامه للبشمركة في سنجار،  الهجرة، المفاتيح، الجيران، الشجر، الأزقة، أسماء، بقاء خانه مع ابنها حمه في كوباني وعدم قدرتهم على المغادرة, يبدو أنّه يعيشُ فصام المكان، يتواجد في عين الوقت في مكانين مختلفين، ويهمس في آذان الشخوص أوقاته (أنّه هنا لكنّه هناك)، يلملم ما له في الصفحات، ويشدّ أحزمة الوقت، بأدواته وتقنيات مختلفة، ليوزع الألم على القارئ المتتبع للأحداث، كأن القدر بين يدي جان قاتل متسلسل، يقاتل لوند على تخوم سنجار لتحريرها من الدواعش, ليفارقنا ويترك غصة هائلة في الصفحة (331):

«نبتت على شفتي لوند الجافة ابتسامة كزهرة النرجس في ربيع سنجار ثم مال برأسه».

 

من فصل رسائل إلى ميران استخدم المراسلة في قالب روائي جميل لنقل أخبار العائلة ورصد حالة الحرب المستعرة في كوباني هذا ما يحسب للكاتب, لكن ما أخل به وأضعفه الرسائل المرسلة من روشن إلى ميران فيها من القوة والبلاغة والشعرية ما لا يمكن أن تكون لفتاة مراهقة ذات ستة عشر عاماً بعمر روشن، ونقتطف بعض الأجزاء من الرسائل، من الصفحة (337 – 338):

«أمي أناملها مثل أنامل الإله تحول شعري إلى سنابل قمح. مطر خفيف يهطل الآن كما هطل في الصباح. هي الغيوم تفشي بأسرار السماء إلى تراب كوباني. ياللغيوم الواشية».

هذا صوت الشاعر الكامن في داخل جان دوست وليس صوت روشن، إذ تسقط أيضاً روشن في معارك كوباني الصفحة (353):

«وسال الدم غزيراً، نظرت إلى دمها الذي يتدفق مثل النبع فأدركت أنها الدقائق الأخيرة من عمرها القصير».

 

وننتقل من محطات حياة الرواي الشاعر الذي كان جندياً في بيروت إلى أن نصل إلى جندي الله زياد التونسي، زياد بن طاجي ليتمركز مع مريدي الله في حارة سيدا حي جان دوست، ليجد نفسه في بيت صديقه حمه في كوباني بصدفة غريبة ليشعر بندم وينتحر، وتدور حلقة الموت في كوباني، من حي إلى آخر وتنضم إليها خانه زوجة حج مسلم بعد أن ينهار السقف فوقها نتيجة قصف صاروخي، ويختفي حمه ويصيب حج مسلم مس من الجنون خلف الحدود في سروج. وفي هذه الجهة يسقط متين بهجوم انتحاري بسيارة مفخخة. وعيشه وحج مسلم وزوزان وسيامند...الخ

 

القصة هي ليست سرد خالص؛ الكاتب فيها شاهد عيان يقص الأحداث، والشخصيات فيها أيضاً تتحدث، والقواعد التي تقوم عليها تنتمي إلى أحداث تبدو أنها تجري أمام أعيننا، وهو يتحدث بلسانهم محاولاً إقناعنا بأنهم يتحدثون، لكن الراوي أصاب في أماكن كثيرة ولم يفلح في أماكن أخرى من حيث مستوى الوعي الذي تتحلى به الشخوص من تفاوت، وقد يقول قائل هذه هي المحاكاة الحقيقية، لجعله السرد خالصاً ومباشراً كنوعين للمحاكاة، لغة شعرية عالية مغتسلة بمياه الفلسفة وأخرى من تفاصيلنا اليومية.

 

لا شيء، كل الأشياء هنا، المفاتيح وأشجار التين  تهرّب أنوثتها إلى ما وراء حدود الألغام بعد سياج القنابل، دائماً الذاكرة تشبه الحدود مثل حدود الدول المتخاصمة، ويعترض في الحوار لشارات وتحذيرات، وممنوع الاقتراب، هنا حقل ألغام، هنا رجل يفجّر ألغام ذاكرته المستسلمة، هو الراوي جان دوست، يديه للضوء ومحفة للشهيد، يده وردة، كفن الزهور، من يخيط نفسه بالجراح يمتهن الفوز بالخسارة  مازال في غرفة أمه، يمر الوقت, لا يسمع صوت الآذان من مسجد جده، يعيش في مكانين في آن واحد وهو يستيقظ من غيبوبته في مدينة كبيرة هي اسطنبول ومئات السيارات تعبر الشوارع، وحينما يفتح عينيه يجد أخوته يحيطون به وكيف سار بخياله أثناء غيابه عن الوعي على مدى كل هذه الصفحات بحالة شبيهة بحلم روائي.