2018-08-15 08:53:00

 

مقدمة:

بهدف الترابط العضوي للموضوع سأعمد إلى إعادة المقدمة في كل حلقة.

 

يعمل النظام السلطوي على مبدأ القوة الطاردة المركزية التي تلقي بعامة الشعب على هامش الفعل السياسي والإجتماعي والثقافي،بينما تبقي على حفنة من السياسيين في مركز صناعة القرار لتحتكر عملية البناء والتخطيط والإدارة، مما ينتج عن اعتلالات بنيوية خطيرة، تتمثل في هشاشة المؤسسات وتوتر الصراع بين الطبقات والفئات الإجتماعية والكيانات الثقافية،وقطيعة أو شبه قطيعة بين الأمة والدولة. بالمقارنة تعمل الديمقراطية بصيغتها المثالية على مبدأ الاحتواء لا الإقصاء، فهي تخلق فضاءات واسعة لمشاركة وتفاعل الجميع للوصول إلى حلول وسطية، من شأنها خلق حالة توازن بين مصالح الطبقات والمكونات الإجتماعية والثقافية، وبهذا تنتج مجتمعاً متماسكاً، وتفتح قنوات تواصل فعالة بين الأمة والدولة.

من نافل القول أن الأنظمة الديمقراطية هي الأمثل في إدارة الحكم وبناء المجتمعات، إلا أن فجوةً واسعة تجدر دراستها بين صيغتها المثالية والواقع الحقيقي للتجارب الديمقراطية، منذ مهدها الأول في أثينا إلى الديمقراطية المعاصرة التي تخفي ملامح شيخوختها خلف ماكنتها الإعلامية العملاقة، فبينما تعد الديمقراطية بتساوي الفرص للجميع، يظهر جلياً أن البعض أكثر تساوياً من الأخرين حسب تعبير جورج أرويل الساخر.

إذا كان ماركس قد اشاد بالديمقراطية على اعتبارها مشروعاً حضارياً رائداً، فإنه لم يتوقف عن نقد الطبقة الحاكمة في تسخير آلياتها لشرعنة استغلالها وتغليب مصالحها على حساب عامة الشعب.

 

نشأه البرلمانات الأوروبية

 

بتحول الجمهورية الرومانية إلى إمبراطورية يحكمها قادة دكتاتوريون، سادت جميع أنحاء العالم أنظمة إستبداد، فيما عدا بعض التجارب المحدودة للديمقراطية المباشرة على شكل كومونات صغيرة في مدن شمال إيطاليا وجبال الألب بالقرن الرابع عشر.


رغم أن البرلمانات الأوروبية تعود نشأتها إلى القرن الثاني عشر، إلا أنها بقيت لقرون طويلة أدوات تنفيذية بيد الملك، يدعو فيها كبار الإقطاعيين ومطارنة الكنيسة لشرعنة سياساته وإقرار حروبه وفرض الضرائب وجمع نفقات الحروب وتزويده بالجنود من أبناء الفلاحين.( لم تكن للممالك الأوربية آنذاك جيوش رسمية ثابتة ).

 

بريطانيا -التي لقبها جون برايت إم البرلمانات- هي الوحيدة التي شهدت استقلالية نسبيه وتطوراً لبرلمانها وإن ببطء شديد كنتيجة لصراع النفوذ بين الطبقات العليا والكنيسة والملك.

 

ما زال الشعب البريطاني يحتفل بصدور وثيقة العهد الأعظم ( الماغنا كارتا) التي صدرت في أعقاب حرب البارونات الإقطاعيين ومؤيديهم ضد الملك جون ومؤيديه عام 1215, ورغم أن الوثيقة لم تمنح عامة الشعب حقوقاً ذات قيمة ،وأقتصرت على تأمين مصالح النبلاء والكنيسة، إلا أن أهميتها تكمن في تحديد صلاحيات الملك، كمنعه من فرض الضرائب، أو إعلان الحرب دون موافقة البرلمان (مجلس اللوردات آنذاك)، وعدم السماح لرجاله بالاعتقالات دون سند قانوني، أي أن الوثيقة تمثل الخطوة الأولى لاستقلالية البرلمان وتوزيع السلطة.

 

يعود تميز بريطانيا عن الدول الأوربية بتطور برلمانها إلى سبقها الصناعي وتوسع مدنها، وبالتالي نشوء طبقة برجوازية تنامى نفوذها تدريجياً، لتقود مسيرة الكفاح ضد هيمنة الحلف الإقطاعي -الملكي -الكنسي . أدركت البرجوازية أن قوانين وأعراف النظام الإقطاعي تشكل عقبة رئيسية في طريق ثراءها وتوسيع استثماراتها وتعاظم نفوذها، ولتبيان هذا التقاطع يلزمنا صفحات طويلة لا يسعها المقال ، إلا أني سأكتفي بالحديث عن تحرير الأيدي العاملة كأحد أهم انشغالات البرجوازية التي تصطدم مع بنية النظام الإقطاعي. الرأسمالي يرغب بمنح الأيدي العاملة حرية البحث عن عمل أين تشاء ومتى تشاء، مما ينتج وفرة في العمالة وتنافساً في سوق العمل يوفر للبرجوازي فرصة الحصول على قوة عمل رخيصة، وهذا ما كان مستحيلاً وفق قوانين وأعراف النظام الإقطاعي الذي يفرض على الفلاح وأسرته ملازمة أرض سيده طيلة حياته، بل يرث ابنائه العمل فيها بعد موته. ولكن ماعلاقة هذا بالديمقراطية وتطور البرلمان؟، أدركت البرجوازية إيضاً أن النضال من أجل استقلالية البرلمان وإكسابه نفوذاً تشريعياً هو الطريق الوحيد لإصدار قوانين جديدة تنسخ قوانين الإقطاع، تمهيداً لبناء نظامها الجديد.

جاء نهج البرجوازية الهادف لإنهاء الإقطاع متناغماً مع نبض الطبقات الشعبية التي تعاني من شظف العيش وثقل المدفوعات التي تؤديها للوردات والكنيسة والملك، مما جعلها تلتف حول البرجوازية الفتية وتدفع بإتجاه اشراكها في البرلمان، ومن الجدير بالتنويه أن البرجوازية حملت رايه الدفاع عن الحريات والمشاركة الديمقراطية إلى أن تمكنت من الهيمنة على النظام السياسي، لتبدأ مرحلة جديدة من مقاومة ضغوط الشعب، بإصدار قوانين تحجب مشاركة الفقراء، كقانون شرط الملكية الفردية لحق التصويت، واللجوء إلى القمع والرد العسكري إن تطلب الأمر لتأمين احتكارها البرلمان.

شهدت أوروبا أحداثاً ومتغيرات بنيوية اسهمت في دعم البرجوازية في كفاحها نيابةً عن العامة ضد الإقطاع والحكم المطلق، سنتوقف في كل محطة وقفة تحليلية سريعة لتبيان انعكاساتها على تطور البرلمان وتوسيع المشاركة فيه.

 

- ثورة الفلاحين: في القرن الرابع عشر اجتاحت أوروبا موجات من مرض الطاعون الذي حصد مايقارب نصف سكانها، معظمهم من الفلاحين والفقراء لسوء ظروفهم المعيشية والصحية. خلف الطاعون نقصاً كبيراً في العمالة بالريف والمدينة، مما رفع قيمة قوة العمل والذي جعل القوى المنتجة تشعر بأهمية دورها في الحياة الإقتصادية. أدت شحه قوة العمل إلى شحه في المواد الغذائية والبضائع، وزيادة حادة في الأسعار، وقد واجهت الارستقراطيات الأوروبية أزمة العمالة بأساليب مختلفة، ففي روسيا حيث التخلف الصناعي وضعف البرجوازية مقابل قوة وجبروت الإقطاع، تم فرض نظام قنانة مشدد أشبه بالعبودية على الفلاحين، أما في بريطانيا فقد خشي الارستقراط أن يستغل الفلاحون نقص العمالة في المطالبة بحقوقهم، فسارعوا إلى إصدار قوانين جائرة عبر مجلس اللوردات لتحديد سقف أجور الفلاحين، ورفع ايجارات الأراضي للمزارعين المستأجرين، ثم اعقب ذلك زيادة ضريبة الرأس ( وهي ضريبة يدفعها كل من بلغ الرابعة عشر كمجهود حربي لدعم حرب المئة عام ضد فرنسا ). أججت تلك الإجراءات غضب الفلاحين، فانطلقت ثورتهم عام 1381 م مطالبةً بمصادرة أراضي وممتلكات رجال الإقطاع والكنيسة وتمليكها للشعب، وقد عمت الثورة عموم انكلترا مع تعاطف سكان المدن، الذين فتحوا لهم بوابات لندن، فأوشك النظام الملكي على الإنهيار، لولا الإلتفاف بوعود كاذبة، فما أن عاد الفلاحون إلى قراهم حتى بدأت حمله تصفيات جسدية لقادتهم . رغم عدم تحقيق مطالب الثوار إلا أن الطبقة الحاكمة قد أدركت أهمية التواصل مع العامة عبر تمثيلها في البرلمان، ومن هنا برزت فكرة مجلس العموم وهو مجلس منتخب من العامة يضم كبار الأغنياء من المدن ووجهاء الفرسان من الريف.

 

- الإصلاح الديني: يفسر كارل ماركس البروتستانتية على أنها المنتج الروحي للرأسمالية كبديل عن الكاثوليكية التي تحولت إلى حاضنة فكرية ودينية للإقطاع، بينما يرى ماكس فيبر أن البروتستانتية التي أسست طبقة من الأغنياء كنواة لبناء النظام الرأسمالي هي المسؤولة عن ظهور الرأسمالية وليس العكس. بغض النظر عن أيهما كان مصيباً، فقد كان ظهور البروتستانتية انعطافةً كبرى في تأريخ أوروبا على المستويين الإقتصادي والفكري. حسب ماكس فيبر اتكأت الرأسمالية في بناء نظامها على المفهوم الجبري الذي جاءت به البروتستانتية والقائل بأن الله يقرر للفرد منذ ولادته فيما إذا كان سيدخل الجنة أم لا، ومن يختاره الله يتميز بالنشاط والنجاح في العمل، النجاح الذي كان يعني آنذاك جمع الثروة، وبهذا كان المؤمن مدفوعاً بهاجس نفسي، يحاول أن يثبت لذاته أنه أحد المبشرين بالجنة، فيكرس حياته وكل جهده لجمع الإرباح والنجاح بإدارة الأعمال، مما آل إلى نشوء طبقة ثرية أصبحت نواةً للطبقة الرأسمالية، وكما أسلفنا فإن تنامي النفوذ المالي للبرجوازية سيترتب عليه بالضرورة نفوذاً سياسياً مماثلاً في مجلس العموم، ويجدر بي هنا أن أضيف أن البروتستانتية لم تكتف بزعزعة أحد أركان الحكم الملكي المطلق بتعرية فساد الكنيسة وتحالفها مع الإقطاع والملك ضد الفقراء خلافاً لتعاليم المسيح، بل أن البروتستانتية قد أرست مفهوماً جديداً للحرية بإلغاء الوسيط الروحي مع الرب، فأصبح الإنسان قادراً على التواصل المباشر مع الله، أي أن المواطن لم يعد طفلاً غراً للكنيسة بل بالغاً مسؤولاً عن نفسه. إلغاء الوصاية الدينية كان تمهيداً لإسقاط الوصاية السياسية أيضاً، فإذا لم يكن المواطن بحاجة لوسيط مع الرب، فلن يكون بحاجة لوصاية من هو أقل منزلةً من الله كالملك أو اللورد أو رجل الدين.

 

-إكتشاف العالم الجديد: إكتشاف القارة الأمريكية ( 1492 م ) واستزراع اراضيها بكد العبيد، وتجارة العبيد، وإكتشاف الفضة في الأرجنتين وإستعباد الهنود الحمر لاستخراجها، كل ذلك قد أغرق أوروبا بثروات هائلة كانت إنعكاساتها متباينة على الأنظمة السياسية في الدول الأوروبية، ففي أسبانيا وكانت صاحبة الحصة الأكبر من الثروات تعزز جبروت الحكم الملكي المطلق وذلك لسيطرة الدولة على الإقتصاد، أما في بريطانيا القائم اقتصادها على حرية الملكية الفردية فقد أثرت الطبقة البرجوازية وتعاظم نفوذها الإقتصادي. مع ثراء البرجوازية وبدء تداعي الإقطاع وإفلاس عدد كبير من الإقطاعيين أدرك الملوك أن من الحكمة إستمالة أغنياء المدن للفوز بدعمهم المالي للنظام، فعمدوا إلى زيادة تمثيلهم في مجلس العموم ومنحه صلاحيات أوسع، أضف إلى ذلك أن أغنياء المدن قد ابتاعوا الكثير من المناصب في البلاط والدولة، والتي كانت تباع آنذاك لمن يدفع أكثر. شهدت تلك الفترة إكتساب مجلس العموم نفوذاً كبيراً يمكنه من تمرير تشريعاته القانونية، صحيح أن مجلس اللوردات يمتلك حق الفيتو في رفض التشريعات، إلا أن مجلس العموم كان قادراً على إثارة وتعبئة العامة ضده، وإذا ما اعترض الملك على التشريعات فإن مجلس العموم يلجأ إلى سلطة المال بحجب الضرائب والأموال عن الملك حتى يذعن بالموافقة.

 

منذ الماغنا كارتا وعلى مدى ثلاثة قرون تصدعت أركان الحكم المطلق وتوزعت السلطة بين الملك ومجلس اللوردات ( بيت النبلاء والكنيسة ) ومجلس العموم ( بيت البرجوازية والعامة)، ويستمر الصراع في القرون المقبلة لتحقيق الملكية الدستورية كمرحلة أولى باتجاه الديمقراطية الحديثة .