اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: " كنتم خير أمة أخرجت للناس ". من ضمن قوله جل ثناؤه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) والتي كتب فيها العديد من المفسرين، والكتاب، وبأوجهها المتناقضة حسب القناعات والإيمان.
ولا شك ما أذكره ليس بجديد، بل أختصر ما نشر، لأن قادة المنظمات التكفيرية الإسلامية، العروبية أو غيرهم من العنصريين المتعالين على الشعوب الأخرى، ورؤساء بعض الدول الإسلامية، ومرجعيات إسلامية عديدة، وأئمة، لا ينكفون، وبخباثة ودهاء في التأويل، عن تحريف النص والتلاعب بمفاهيم الأمم، لأجل بلوغ مأربهم، الذين لو كانوا على خلق لعملوا من أجل علو شأن الإنسانية، وتسابقوا على تطبيق العدل الإلهي بين الأمم، وتوعية الشعوب كلها، دون اختلاف أو الكراهية التي أدت إلى ما عليه دولنا من حروب أهلية مدمرة، وصراعات قائمة على تفضيل الذات على الأخر المسلم أو من ديانة أخرى.
فقال بعضهم، المعنيون بها: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وخاصة، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأتى البعض ليؤولوها في مراحل لاحقة: كنتم خير أمة أخرجت للناس، إذا كنتم بهذه الشروط التي وصفهم جل ثناؤه بها. فكان تأويل ذلك عندهم: كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، أخرجوا للناس في زمانكم.
والتأويلات تتالت ولا تزال، وتنحرف مع المراحل الزمنية، فمن بين الذين هاجروا مع الرسول، الخليفتين، أو الشيخين، أبو بكر وعمر، وكذلك عائشة أم المؤمنين، الذين يهانون، ويكفرون، من قبل شريحة واسعة من الشيعة المسلمون، إلى بني إسرائيل، الذين قال البعض على أنهم المقصودون بها، بعدما كانوا خير أمة، وليس كما يوصفون بها ذاتهم شعب الله المختار في كل الأزمان، إلى جانب أحاديث (عنعنة) عديدة تبحث عن سبب نزول الآية، لسنا بصددها هنا.
كما ويأول اليوم بعضهم ظهور الآية الواردة على الفعل الماضي الناقص، فيحرفها إلى الفعل الحاضر، لكنها أمتن من قدرة التلاعب بها، وهي واضحة على أن الله عز وجل، بَينَ أن الأمة كانت تأمر بالمعروف، فلو قصد به حاضرهم، لتمت بقوله (أنتم) كما قالها الخليفة عمر بن الخطاب (لو شاء الله لقال: “أنتم"، فكنا كلنا، ولكن قال: “كنتم")، ويقال إن تنسيبها على المسلمين تم في المراحل اللاحقة من الخلافة العباسية، وآخرون يؤكدون على أنها تمت في العصر الحديث. فلا جدال على أن خلفية المفسرون والمحرفون لها بهذه الصيغة نابعة من عقدة النقص عند البعض من المسلمين، فيتعالون على البشر بإسقاط صيغة الحاضر والمستمر على الماضي المرسخ بها الآية، وهذه منتشرة إلى درجة أن العديد من المرددين للآية لا يذكرون كلمة (كُنتُم) من الآية.
ومهما كانت الـتأويلات يبقى الوصف في الماضي، يلغي الحاضر والمستقبل، الصيغة الوصفية التي تعكس الحكمة والقدرة الإلهية على رؤية المستقبل، الملغية لوصف أمة بأبدية التعالي والتسامي على الأخرين، ولا يمكن أن يوصف الإله أمة دون غيرها بمثلها، وهو خالقهم جميعا، ومن يفتعل التمييز والتفضيل، إما أنه يعصي الله، وينتهك حرمة وغاية النص، أو أن النص يحمل في طياته الضعف والتناقض، فالظاهر من النفاق والإجرام والتعالي، والبشائع من الأعمال وأفعال حفدة المهاجرين، مثلما يلقونها على حاملي الرسالة، وعلى التاريخ ومسالك السيرة، يلقونها على النص بتحريفات التأويل.
فلو كانت غير التأويل للماضي، لم نزلت الآيات العديدة عن الإعراب ونفاقهم وكفرهم وجهالتهم، وقصة نزول القرآن عربيا علهم يتقون، ولا في بني إسرائيل وعقوقهم لأنبيائهم.
فلا يمكن أن يتم وصف الجهلاء والمجرمين، الذين انتهكوا حرمة النساء الإيزيديات والمسيحيات، وقتلوا شيوخهم وفرضوا الإسلام على أطفالهم كرها، بأنهم خير أمة على الأرض، لا في الماضي ولا اليوم ولا في السماء غداُ، فهم بأفعالهم أثبتوا على أنهم أعراب منافقون، وأوسخ شريحة من أمة كثرت بينهم الجهلاء والفجار، وليسوا بخير الناس، إن كانوا يعنون بها ذاتهم كمسلمين، أو غيرهم من الأمم، كما لا يرقون إلى سوية الخيرين من معتنقي الأديان الأخرى.
وبعيدا عن الإلغائية العنصرية، واستناداً على المنطق والمقارنات الفكرية والثقافية والحضارية، جل الشعوب الإسلامية، الذين لا يزالون يعانون من ثقافة الأنظمة الشمولية الدكتاتورية، لا يمكن أن يرقوا إلى سوية شعوب تجاوزوهم إنسانية لربما بقرون.
الإنسانية اليوم تواجه مرجعيات خبيثة وأئمة منافقون وأنظمة فاسدة، وحكام مارقون على الحكمة الإلهية، يعزفون عن المعروف، ويفعلون المنكر، ويجترون الخبائث، وينشرون الضغائن والكراهية، ويجرمون بحق أممهم قبل الأمم المجاورة، ويحاولون تحويلهم إلى أرذل الأمم، بأمرهم على فعل القبائح وإتيان المنكر، وعبادة الأوثان البشرية دون الله، بالاختفاء وراء النص الإلهي (كنتم خير أمة أخرجت للناس) بعدما يحاولون التلاعب بالتأويل من الماضي إلى الحاضر والمستمر، فالأمم براء منهم، والنص غني عن تأويلاتهم الموبوءة.