تنتهج السياسة التركية اليوم مصدرها من جملة من الحقائق والفرضيات التي تعود الى اكثر من قرنين وهي التي زاوجت ما بين العلمنة والاسلمة، وما بين القومية والدين، وما بين اليمين واليسار، الشريعة والقانون وما بين الحاضر والماضي، كل هذه المفردات تمثل رؤية جوهرية لكيفية تعامل صانع القرار التركي اليوم على الساحة السياسية الاقليمية والدولية مع القضايا والمواضيع الأنية، فالبحث في فضاء المنظومة العقلية التركية الحالية تكون ضمن دائرة العثمنة بشكلها الحديث، فهي تستمد قواها الروحية والنفسية والثقافية والاجتماعية من تلك الحقبة التي حكمت المنطقة لمدة اكثر من 4 قرون اي منذ فتح قسطنطينية عام 1453م وحتى انهيار الدول العثمانية عام 1919م تاركة تاريخا حافل بالأحداث رغم انها كانت تشهد بالمساؤى لمواطنيها اكثر من محاسنها الا ان السلطة الحاكمة تراها افضل نموذج للحكم التركي في المنطقة، فقد تأثرت السلطات الحاكمة في تركيا بعد انهيار الدولة العثمانية الى المجد الذي كانوا يحافظون عليه، وكانت تعمل على استرجاع تلك الحقبة وخصوصا بعد تسلم الرئيس عدنان مندريس الحكم في خمسينيات القرن المنصرم، وكانت كل الجهود تعول الى تقوية العلاقة مع الدول الشرقية والاسلامية والعربية، حيث ان سياسة مصطفى اتاتورك كانت تقتضي الى توجيه انظار تركيا نحو الحاضنة العلمانية "القارة الاوروبية" والابتعاد عن الشرق ومعادلاته المعقدة، واستمر هذا التوجه وبشكل ضعيف حتى صعود حزب العدالة والتنمية الى دفة الحكم عام 2002 ذات التوجه المزدوج ما بين الاسلاموية المعتدلة والعلمنة الحديثة، وما بين الرأسمالية والسيطرة على مفاصل السوق، حيث أبتدأ بوصلة التقاربات تتغير نحو الشرق وتبنى مناهج عديدة كما ذكره وزير الخارجية السابق أحمد داود أوغلو في كتاب " العمق الاستراتيجي" وذكره لعناوين الدبلوماسية الهادئة وتصفير المشاكل مع دول الجوار، كل هذا الدلالات هي مؤشرات الى ان السياسة التركية اصبحت تسلط الضوء على عدة مواضيع مصيرية بدل الموضع الواحد، فموضوعة الانضمام الى الاتحاد الاوروبي هي احدى الاهداف المهمة الى أنقرة لكن بسط النفوذ التركي في الشرق الاوسط والقارة السوداء ايضا ضمن اولويات الساسة الترك، وهي تكون على عدة مستويات:
فمثلا بعد عام 2006 ركزت السياسة التركية الى تعزيز الثقافة التركية ونشر العادات والتقاليد والثقافات وموديلات الملابس التركية عبر سلسلة من المسلسلات والافلام التركية المدبلجة الى اللغة العربية والفارسية والكوردية وبقية اللغات الموجود في المنطقة ، فهي كانت تسعى الى نشر الثقافة التركية الى تلك المجتمعات، اضافة الى الغزو الاقتصادي عبر الترويج لتلك ألبسة والكسسوارات التي كانت تظهر خلال تلك الدراما الفنية وبهذا كانت تغزو الاسواق بتلك السلع والحاجات، وقامت بعد ذلك بطرح الانتاجات الفنية التي كانت تسعى تمجيد التاريخ العثماني واظهار الجانب الايجابي والمشرق لنظام المماليك والحكام في تلك الازمنة واظهارهم على شكل أنظمة مثالية ولم تتشابه في طبيعة حكمها سوى عدالة الانبياء والرسل وتحريف الحقائق التاريخية لتكون ضمن البوتقة التجميلية للحكم العثماني.
اما اقتصاديا فقد عملت على دفع الشركات التركية الى رفع مستوى ميزانيتها الاستثمارية الى الحد المضاعف لكي تدخل السوق العربية بشكل كاسح، ودعمت الشركات النفطية الى دخول المناقصات في دول الجوار، وكذلك السيطرة على ابار النفط وزيادة تدفق المستثمرين الاتراك الى سوريا والعراق وليبيا، ووجهت غرفة التجارة الى العمل لدخول السوق الافريقية وضمان حصولهم على الموارد الطبيعية في جنوب القارة. وقامت بدعم التركمان في دول المنطقة خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 فقد دعمت 6 دول ناطقة باللغة التركية، اضافة الى دعم التركمان في العراق بعد عام 2003 وسوريا بعد عام 2011. اما على المستوى السياسي فقد انفرد الرئيس رجب طيب اردوغان الى تبنى سياسة التدخل في شؤون الدول المجاورة بشكل مباشر فمثلا في العراق عملت على تعقيد طبيعة العلاقة الموجود ما بين الحكومة الاتحادية والاقليم، والقيام بالعديد من العمليات العسكرية تحت ذريعة الحد من عمليات حزب العمال الكوردي، وووضع قواعد عسكرية في بعشيقة وعمادية في كوردستان العراق.
ومع اندلاع الثورات الربيع العربي، كانت لتركيا الذراع الطويل للتدخل في شؤون الدول العربية فهي لم تقف ساكناً حتى وتدخلت في شؤون مصر وعمدت الى تأييد جماعة اخوان المسلمين في مصر وساعدتهم للمشاركة في المظاهرات الهادف لإسقاط حسني مبارك وتقديم محمد مرسي لرئاسة الحكم، لكن سرعان ما ادرك المجتمع المصري خطورة الموقف فانتفضوا وأقالوا المرسى بعد فترة قليلة، وكذلك الحال في الجزائر حتى قامت بدعم الاحزاب الاسلامية فيها لكي تصل الى دفة الحكم، اما في سوريا فقد قامت الحكومة التركية بمناصرة المعارضة في البدء الى ان تطور الحال الى ان تقوم بأرسال قواتها لتحتل الحدود الشمالية من سوريا وخصوصا المناطق ذات الاغلبية الكوردية، بحجة ردع القوات الكوردية في سوريا والموالية لحزب العمال الكوردستان، وادخلت نفسها المعادلة التي المعقدة التي تحكم سوريا.
اما في العراق فقد برز دورها ابان مسألة تقرير المصير و"استفتاء اقليم كوردستان" حتى ابدت خطابات مباشرة بتدخلها الفوري في حال اعلان كيانا كورديا مستقلا من العراق، وانها سوف تقوم بإزالة اي تواجد اداري كوردي في المنطقة، ناهيك عن الخطابات التي تجلت في احقية ولاية موصل بتركيا وانها انفصلت عنها خلال معاهدة لوزان.
وفي ليبيا شكلت مذكرة التفاهم بين تركيا وحكومة الوفاق بقيادة فايز السراج حول التعاون الامني والعسكري وترسيم الحدود البحرية معضلة كبيرة حيث ان طموح اردوغان كانت تصب الى بسط نفوذه شرق بحر المتوسط، عبر مليشيات اسلامية متطرفة تسيطر على العاصمة طرابلس، التي يسعى الجيش الليبي بقيادة الجنرال حفتر الى تحريرها.
وفي ازمة قطر مع دول مجلس التعاون الخليجي فقد ساندت الحكومة القطرية وقامت بإرسال قوات اضافية الى قواعدها المتواجدة في قطر وابدأت كامل استعدادها الى حماية القطر في حال حدوث اي عدوان اتجاها من قبل السعودية او الامارات او المصر او البحرين. وعلى ما يبدوا ان التنافس على دول المنطقة لم تقف عند الشرق الاوسط بل تعدى ذلك لتصل الى الدول الافريقية وهذا ما يعتلي السياسة الخارجية التركية ضمن رؤياها لعام 2005 هو مبدا الانفتاح على افريقيا وهدفت إلى تعزيز الحضور الدبلوماسي والتجاري التركي في أرجاء القارّة. وشملت المبادرة افتتاح عشرات السفارات الجديدة ورحلات للخطوط الجوية التركية ومؤتمرات قمة تركية أفريقية ، حتى اصبحت انقرة تنافس السعودية والامارات من حيث بسط النفوذ والسيطرة الاقتصادية والتجارية والثقافية في دول القارة الافريقية ومنطقة البحر الاحمر تحت مسمى "مبادرات انسانية" حيث قامت بجملة من العمليات العمرانية والتنموية جذرية، وفتح مدارس تركية ومدارس عسكرية، ورفد الشركات التركية الى الاستثمار في صومال والسودان اثيوبيا وجيبوتي والخ.
وبهذا نرى ان الطموح التركي في ظل حكم حزب العدالة والتنمية تسعى الى استرجاع الهيمنة التركية في اجزاء من القارات الثلاثة تحت مسمى العثمانية او العثمنة الجديدة، وهي تحمل في طياتها معالم اسلامية كي تكسب عطف ومودة اناس وعلمانية من جانب اخر كما هو الان في تركيا المعاصرة، وهي ترى ان السبيل الامثل لتحقيق تلك النبوة هي عبر دكتاتورية شمولية تسعى الى تحقيق ذلك الطموح الطوراني الجوهر واسلامي المظهر.