بأسلوب غير مسبوق تصعد قناة (روسيا اليوم-RT) لهجتها حيال تركيا، وتنتقد تصرفاتها، وتصريحات مسؤوليها، متهمة إياها، وباسم الإدارة الروسية، بما تؤول إليه الوضع في منطقة إدلب، والسبب (هو عدم تنفيذها لالتزاماتها المتفقة عليها في مؤتمر سوتشي منذ ما يقارب السنتين) وتذكر أسم أردوغان بدون دبلوماسية، كما وبنبرة غير معهودة رد وزير خارجية روسيا (سيرغي لافروف) على المطالب التركية، قائلا ( أنه لا يمكن أن يكون الإرهابيون طرفاً باتفاقات وقف إطلاق النار) وأضاف أنه (لم يقدم أي أحد وعودا بعدم المساس بالإرهابيين هناك، وأن الجيش السوري يرد على استفزازات الإرهابيين، ونحن ندعم هذا التصرف) أي بما معناه أن تصفيتهم ستتم لا محالة، وأن قضية إعادة منطقة إدلب إلى جغرافية سلطة بشار الأسد جدلية محسومة لا نقاش عليها، والحوارات يجب أن تتم على قضايا أخرى؛ كقضية المدنيين؛ وكيفية التعامل مع المسلحين الذين سيتم القضاء عليهم عاجلا أم آجلاً.
وبالمقابل رد أردوغان، قائلاً: أن عملية معركة إدلب مسألة وقت. فهل عني بـ (الوقت)، بعد نفاذ الطرق الدبلوماسية مع الرئيس بوتين، بعدما فشلت الحوارات بين لجانهما في أنقرة وموسكو؟ أم بعد الحصول على تأكيد الدعم من حلف الناتو، ومعرفة الموقف الأمريكي؟ والأخيرة مشكوكة فيها وعلى الأغلب لن يتلقى أي رد إيجابي، للمآلات التي ستنجم عن مثل هذا الدعم في حال دخلت تركيا بثقلها العسكري مع أدواتها معركة إدلب ضد سلطة دمشق، في الوقت الذي أكدت فيها روسيا بأنها لن تتخلى عن الأخيرة، وانتقدت عن طريق المتحدثة باسم وزارة خارجيتها تصريح الأمين العام للناتو حول تركيا.
فلماذا هذا الانحراف الحاد في العلاقات التكتيكية بين روسيا وتركيا، في فترة زمنية مشابه للفترة التي انتقلت فيها علاقاتهم من الجمود الإستراتيجي إلى صخب عالمي؟ علما أنه يوم اتفقت مع تركيا في أستانا 2017م وسوتشي 2018م، وكان المعني به هي نفس المنظمات التي تود القضاء عليهم اليوم. فما الجديد على الساحة؟ ولماذا تغيرت لهجة التعامل الدبلوماسي مع تركيا؟ هل هي خدعة؟ للقضاء على الميليشيات الإيرانية والتركية معا؟ وإضعاف تركيا بحيث تقبل ما ستملى عليها من الشروط؟ وهذه الأخيرة يقال أيضا على الصمت الأمريكي حيال التدخل التركي في المناطق السورية؟ وهل فعلا ولأمرة في التاريخ تتفق روسيا وأمريكا على قضية تهم الطرفين، وهي إضعاف تركيا؟ لربما على خلفية قناعة الطرفين بمساعداتها المباشرة وغير المباشرة للمنظمات الإسلامية الإرهابية والراديكالية، وغيرها من الإشكاليات التي تؤثر على مصالح الدولتين.
في حال إلغاء الاحتمالية المذكورة، فالمواجهة في إدلب، والتي ستصعد على الأغلب، تدرج ضمن الصراع الروسي الأمريكي على سوريا، فمثلما استخدمت روسيا تركيا وأدواتها للضغط على أمريكا، وتمكنت من خلالهم دخول شرق الفرات بثقلها ورسخت قواعدها على مشارف قامشلو والمدن الأخرى وجميعها على أطراف منابع النفط، علما أنها حاولت سابقا وعن طريق مرتزقة روس، في شمال مدينة ديرالزور، وكان الرد الأمريكي حاسما وقويا، وبالتالي بحثت عن أساليب غير مباشرة ونجحت فيها، ليس فقط لذاتها بل أدخلت معها قطعات من جيش بشار الأسد أيضا إلى المنطقة، لتستخدمها كبعد قانوني ليس إلا.
انتبهت إدارة ترمب لخطئها مباشرة، والتي تبينت أنها بعملية إعلانها سحب قواتها والسماح لتركيا والمنظمات التكفيرية السورية بدخول ما بين سري كانيه وكري سبي، نخرت في الإستراتيجية الأمريكية ليس فقط في سوريا وشرق الفرات بل وفي العراق، وتخوفت من أن تمتد إلى مناطق أخرى، فأعادت النظر في مواقفها، وعلى أثرها لم تبالي بنقض روسيا لاتفاقيتها مع تركيا على المنطقة الأمنة، ووجدت أن روسيا أنقذتها في شرق الفرات، بشكل غير مباشر، عندما حددت من طموحات تركيا، وقد فعلتها روسيا ليس دعما لأمريكا بل لتفتح لذاتها أبواب شرق الفرات، بفروض شروط اتفاقيتها على تركيا، وبها أصبحت المهيمنة على المنطقة، وحصرت التمدد التركي ودورياتها، وبها قضت على الاتفاقية الأمريكية التركية، والتي كانت تقر بكامل السيادة التركية على المنطقة الكردية.
وإدارة ترمب الآن تعالج خسارتها تلك في شرق الفرات بأساليب متنوعة، ولا يستبعد أن تستخدم للعملية تركيا وبنفس الطريقة التي استخدمتها روسيا ضدها. والسؤال هنا: هل ستتجرأ أمريكا الإقدام على فتح مثل هذه الجبهة؟ وهل ستنجح في استمالة تركيا ثانية، وعزلها عن روسيا، والطعن في علاقاتهما الإستراتيجية؟ ونحن نعلم أن البنية الإيدلوجية الإسلامية لحزب العدالة والتنمية المتجهة نحو الراديكالية تعادي التوجه الكماليزمي، التي تتبناها معظم القوى السياسية الأخرى في تركيا، وهي التي اعتمدت عليها أمريكا والناتو على مدى قرن من الزمن أثناء الحرب الباردة. وعلينا ألا ننسى في الجانب الأخر تراكمات عداوة القرون الماضية بين العثمانيين وقياصرة الروس، والصور النمطية المترسخة في أذهان شعوبهما، والتي لا تزول بمواقف سياسية مرحلية.
بمراقبة الإعلام يلاحظ أن تركيا تخسر في الساحة السورية، أكثر مما تربح، كما وتتبين من خلال ما يجري بينها وبين روسيا من جهة، وما يعاد من تصريحات بين الناتو والإدارة التركية، إلى جانب الاتفاقيات الإستراتيجية بينها وبين أمريكا سابقا، تظهر أن تركيا تغوص في المستنقع السوري، ولكن من يقف خلفها، هل هي روسيا أم أمريكا؟
بتحليل ما تم وما تقوم به تركيا في الأروقة الدبلوماسية المتناقضة مع الإعلام، تبين العكس على المسافة الزمنية القصيرة، والصح في البعد الإستراتيجي، فقد حصل أردوغان على منطقة عفرين وقبلها جرابلس والباب، كطعم من بوتين، الذي حصل مقابلها على خلق خلافات ضمن الناتو، واستخدامها كأداة ضدهما، بعدما فشل بوتين في محاولاته السابقة مع أمريكا، وجاءت بعد مؤامرة دمجت فيها عدة إشكاليات، جميعنا نتذكرها، منها التغاضي عن إسقاط الطائرة ومقتل سفيره، ولعبة إنقاذه لأردوغان من الانقلاب، ونجح فيها، وعلى أثرها فتح بوتين لاقتصاد بلاده المحاصر من قبل أمريكا سوقا قريبا، كبيعه لأسلحته بمقدار ملياري دولار، كما وجرها إلى مستنقع سوريا وببطء، ليساعده بالقضاء على المنظمات التكفيرية السورية المسلحة، كما واستخدمها على مدى السنوات الست الماضية كأداة في صراعها مع أمريكا ضمن سوريا ومنطقة الشرق الأوسط، وظهرت نتائجها الآن على ساحة إدلب، ليس فقط بالقضاء على المعارضة بل ومعها على الميليشيات الإيرانية والتي ستجر تركيا أكثر إلى ساحة الصراع السوري.
وغداً ستظهر بشكل جلي مؤشرات هذه العملية على ساحة عفرين وشرق الفرات، والتي كانت حينها يظن أردوغان أن احتلاله للمناطق السورية جاءت على خلفية إصراره على بوتين لتطبيق مشروعه القاضي على الوجود الكردي، بحجة الإدارة الذاتية والـ ب ي د وارتباطاتها بالعمال الكردستاني، والتي كانت الأخيرة لا تقدم البديل عن هذه الحجة، مقابل كما ذكرنا خدماته لها بالضغط على الجانب الأمريكي، في شرق الفرات.
وفي الجانب الأخر، أي مع إدارة البيت الأبيض، تمكن أردوغان وبمسيرة مماثلة الحصول على موافقة ترمب باحتلال المنطقة الكردية في شرق الفرات، وكانت على أبواب تطبيقها لولا التحجيم الروسي، وفيما بعد انتباه أمريكا لخطئها، مع ذلك وجدت تركيا أنها باحتلال منطقة ما بين سري كانيه وكري سبي، مكسب مبدئي أملا بالتمدد لاحقا. في الوقت الذي كان يصر وعلى مدى سنوات ثلاث احتلال منبج، ولم يتمكن من إقناع الأمريكيين، لبعد تكتيكي لهم في غرب الفرات، والأن تتبين، ومن خلال التصريحات المتتالية من البنتاغون والوزارة الخارجية، أن الأخيرة قبل روسيا ندمت على ما قدمته من تنازلات، وتحاول إعادة تصحيح ما تم، والتي كلفت الإدارة الأمريكية الكثير.
ففي الجانب الأمريكي لا تزال المؤشرات غير واضحة؛ فيما إذا كانت العلاقات الإستراتيجية الخامدة مع تركيا والتي تسير بروتينها؛ ستعود إلى سابق عهدها، كما كانت حتى في بدايات مرحلة حكم حزب العدالة والتنمية الإسلامي، والمعادي إيديولوجيا، للعالم الغربي وعلى رأسها أمريكا، وليس حبا بروسيا، بل أتبعت منطق التقارب من روسيا بعد الخدع البوتينية في هذا المجال. مثلما هي غير واضحة فيما إذا كانت روسيا تفضل الحفاظ على الإستراتيجية المستيقظة حديثا بينهما، على حساب بعض الخسارات التكتيكية، أم أنها تجد أن الخلافات الجارية مع تركيا هي أبعاد لإستراتيجيتها الشاملة في المنطقة ولن تتخلى عنها لإرضاء مطامع أردوغان.
في الواقع تركيا ربحت حتى الآن أكثر من جميع الدول الداخلة في الصراع السوري، ولكن المتوقع أن تغوص في المستنقع السوري وربما الليبي، وستكون خساراتها في المراحل القادمة أضعاف ربحها، ولا يستبعد أن تكون تبعاتها انهيار اقتصادي، إلى جانب احتمالية تدهور العلاقات الإستراتيجية مع الدولتين الكبريين، تصاحبها تفاقم في الخلافات الداخلية ضمن حزب العدالة والتنمية، والتي قد تؤدي إلى تراجع دورها سريعا على الساحة السياسية الداخلية.