أوجزت الحلقة الاولى من المقال المنعطفات التي أعقبت الاوبئة والحروب والازمات الاقتصادية عبر التأريخ، ويواجه العالم اليوم وباء الكورونا بانتظار ما قد تتركه تلك المرحلة من تغييرات قد تكون جوهرية في المستقبل القريب.
ما عبرعنه رجال الفكر والسياسة والصحافة من وجهات نظرعما سيؤول اليه عالم ما بعد الكورونا قد تجاوز إنشغالات اصحاب الاختصاصات الطبية والصحة العامه في مواجهة الوباء، وهوأمرطبيعي ومنطقي فالوباء يتجاوز صحة الفرد ومرضه الى صحة المجتمع وأهلية الانظمة السياسية والاقتصادية في حمايته.
لاستشراف الصورة التي سيكون عليها عالم ما بعد الكورونا، علينا قراءة اسباب الارباك والتخبط الذي تشهده الحكومات في مواجهة الوباء رغم التطور العلمي والقدرات التكنولوجية العالية المتوفرة لديها، وتشخيص قصور الانظمة السياسيه ومناهجها الاقتصادية.
أهمية القرار السياسي:
يحلو للأعلام الرسمي التركيز على تأخر القادة في اتخاذ اجراءات الحجز الصحي وغلق الاقتصاد مؤقتاً لمنع انتشار الوباء، ويراد بذلك حرف الانظار عن الخلل البنيوي في النظام الاقتصادي وانعكاساته على الأنظمة الصحية، كما أنها تغفل ارتباط القرارات السياسية الخاطئه بالعقلية النيوليبرالية وقصورها الاخلاقي المتمثل بأولوية الاقتصاد وجني الارباح على حياة الناس وصحتهم، بحيث لم يتوان بعض السياسيين عن التصريح علناً بان استمرار عجلة الاقتصاد تستحق التضحية بكبار السن والمرضى!!. بقولنا هذا لانستهين بأهمية القرار السياسي الصائب في الوقت المناسب، فيكفي أن نقارن بين حالة كوريا الجنوبيه واميركا التي ظهرت فيهما اول إصابه في نفس اليوم، وقد رأينا كيف ان استهانة وتلكؤ الادارة الأمريكية قد ساهم في استفحال الوباء اضعافا مضاعفة مقارنة بكوريا الجنوبية، ولكن لايمكن اعتبار القرار السياسي سبباً وحيداً وفي معزل عن النظام العام، كما تحاول توظيف ذلك سياسياً الاطراف المنافسة لترامب.
النظام النيولبرالي في موقع الدفاع:
يكاد يكون هناك شبه اجماع على ان الخلل يكمن في تسليع ما هو أساسي في حياة الانسان وإخضاعه الى منطق السوق، فمن أساسيات النظام النيولبرالي الذي يحكم العالم تحجيم دور الدولة وتقليص الانفاق على برامج الرعاية الاجتماعيه والتعليم والصحة بوجه خاص،
والإفراط في خصخصه القطاعات التي تمثل عصب الحياة للأنسان. الخصخصة التي سوقت على انها المصباح السحري لأي معضلة اقتصادية ومفتاح لفردوس السعادة والازدهار، قد أضعفت من أهلية الانظمة الصحية في مواجهة الوباء، بما فيها انظمة الرعاية الشاملة التي كانت الشعوب تتمتع بها في ظل ما يسمى بدول الرفاه، وذلك لتقليص الانفاق الحكومي على تلك الانظمة في العقدين الأخيرين.
ولئلا يتخذ نقدنا لبوساً إيديولوجياً نسوق بعض الشواهد و الأمثلة:
العقلانية اللاعقلانية في منطق الاقتصاد الحر:
قد يبدو التعبير غامضاً أو متناقضاً للوهلة الاولى، فليصبر عليّ القارئ حتى يتضح المغزى في الامثلة التالية:
- في شهادته أمام الكونغرس ذكّر د. بيتر هورتز بما توصل اليه فريقه العلمي من تركيب اللقاح الناجح ضد أمراض فصيلة الكورونا ( السارز و الميرز و الكورونا القديمة ) وذلك عام 2016، ولو حصل على التمويل لتصنيعه بكميات كافيه، لساهم في انقاذ أعداداً كبيرة من الناس الآن ولاستمرت دورة الاقتصاد دون انهيار، فما الذي حصل؟ رفضت الدولة تمويل المشروع بسبب الأجندة النيوليبرالية ( تقليص الانفاق ) - علماً ان الفريق العلمي المتخصص بالبيئة والأوبئة في البنتاغون كان قد قدم تقريراً مفصلاً عام2017، يتنبأ فيه باحتمال ظهور وباء سريع الانتشار بالهواء -، ورفضت الشركات الخاصة تمويل المشروع ايضاً، وهي بهذا قد اتخذت قراراً عقلانياً وفق منطق السوق، فالأدارة الحكيمة لا تجمد أموالها دون أرباح في ثلاجات تخزين اللقاحات، إلا ان النتيجه اللاعقلانية تتمثل في حالتنا الآن ونحن ندخل حرباً مع الوباء دون أسلحة!!، وهذا ما قصدته بالعقلانية اللاعقلانية لاقتصاد السوق الحرة.
- في استشرافه لتطور الرأسمالية توقع ماركس تركيز رأس المال لدى أقلية قليلة جداً، وهذا ما نشهده بوضوح اليوم عن طريق اندماج الشركات مع بعضها وشراء الشركات الصغرى من قبل الشركات الأكبر في رأسمالها، الظاهرة المميزة للرأسمالية الاحتكارية، و هو ما يناقض جوهر الرأسمالية نفسها المتمثل بأهمية التنافس في السوق، ولكن ما علاقه هذا بالكورونا؟. في عام 2010 تعاقدت ادارة أوباما مع شركة نيوبورت لتصنيع اجهزة التنفس باعداد كبيرة تحسباً لأي وباء فيروسي رئوي، وكان من المؤمل البدء بالتسليم عام 2013، إلا أن شركة كوفيدينز اشترت شركة نيوبورت، فأصبح العقد ملغى قانوناً، وطالبت الشركة الجديدة الحكومة بتعديل العقد بضعف السعر، ولما كانت الحكومة تتعرض الى انتقادات الحزب الجمهوري واتهامها بزيادة نفقاتها، اضطرت الى الانسحاب من العقد، وهكذا توقف انتاج الاجهزة لعدم ربحية تسويقها، فليس من صالح المستشفيات الاستثمارية شراء أجهزة تركنها جانباً حتى تحين الحاجة اليها، ففي ذلك تجميد لرأسمالها الاستثماري، اذن موقف كوفيدينز والمستشفيات تعد عقلانية وفق منطق السوق في سعيها لزيادة الربح الاستثماري، إلا ان اللاعقلانية تكمن فيما يواجه الفرق الطبية اليوم من خيارات صعبة بل لاأخلاقية، حيث يتحتم عليهم انتقاء من سيسلّم الى فم الموت ومن سيعيش باستخدام المتوفر من أجهزة التنفس!!.
- أكثر ما تعانيه الفرق الطبية اليوم نقص الاسرة في المستشفيات، ويعود ذلك أيضاً الى خصخصة النظام الصحي، فالمستثمر يحرص على ان يحقق أقصى الارباح بحيث لا تجمد أمواله بأجنحة احتياطية فارغه في المستشفيات، وتشير الاحصائيات الى ان نظام الرعايه الحكومي في كوريا الجنوبية يوفر ضعف عدد الاسرة التي يوفرها النظام الخاص في اميركا (محسوبة بنسبة عدد السكان)، وقد أغلقت في العقد الاخير 120 مستشفى كبير في أرياف اميركا وتحولت الى منتجعات و فنادق تدر أرباحاً أكبر على المستثمر، فهل يتحمل المستثمر بتصرفه وفق عقلانية السوق مسؤولية الوضع اللاعقلاني الذي وصلنا اليه، أم يلام نظام تسليع الخدمات الصحيه وعرض الأمن الصحي للمواطن في بازار الاستثمار و الاحتكار؟.
من تلك الامثلة وغيرها الكثير يتضح ان وباء الكورونا قد وضع النظام النيولبرالي في قفص الاتهام، وهو لا يواجه تهمة الفشل في مواجهة الجائحة فقط، بل يرجّح العلماء أن سبب الاوبئة الرئيسي هو انتقالها من الحيوانات البرية التي تمتلك مناعة ضدها الى الانسان الذي يفتقدها، وان الاحتباس الحراري وتدمير الغابات قد جعل الحيوانات البرية تفقد مواطنها لتصبح في تماس مباشر مع الانسان، والمتهم الاول في ذلك هي العولمة النيوليبرالية التي تفتقد الى اي ضوابط في مجال الحفاظ على البيئة. اذن من المتوقع أن تفتح الابواب للتأمل و مراجعة آليات الأنظمة السياسية والاقتصادية، بل من المتوقع ان يجري صراع لرسم ملامح المستقبل بين القوى الراغبة بالتغيير وتلك التي ترغب بالأثراء والاستمرار بما كان عليه الحال قبل الوباء، وسيكون هذا ما ستناقشه الحلقة القادمة... يتبع