«كتابة الرواية أمر يسير، لكن الصعوبة تكمن في كتابة رواية جيدة. تماماً كما هي الحياة فإن كانت سهلة، لكتبت آلاف الروايات التي تحقّق آلاف المبيعات وتحصد أهم الجوائز الأدبية. وهناك العديد من الكتب لنقّاد وروائيين، حدّدوا من خلالها مقوّمات الرواية الناجحة، لكن الأفضل منها تلك التي تعين الكاتب على تحقيق هدفه».()
«ما يُكتب دون جهد، يُقرأ دون متعة». هذا ما قال الكاتب البريطاني «صموئيل جونسون»، وهذا ما نستطيع إسقاطه على الروائي والفنّان التشكيلي السوري «أيمن ناصر»، الذي عمل على روايته نتيجة تراكم التجربة على الصعيد الحياتي والتقني، أيّ القدرة على سبر غور الحياة وصقل قدراته على صعيد لغة السرد والحوار، وفي المقدّمة التخطيط لهيكل الرواية وشخصياتها.
يجب التأكيد على هذا العمل بأنه عمل روائي – إبداعي، وُظفت فيه التجربة الذاتية – الخيالية للكاتب، توظيفاً فنّياً، لا توظيفاً توثيقياً تقريرياً. هذا التوظيف الفنّي اختلط فيه الواقعي بالمتخيّل، البلاغي بالسردي الحكائي المنقوع بأحداث مجتمعية، الصّادم بالهادئ، واستنطاق لبيئة جغرافية وأمكنة مظلومة ومهمّشة قومياً ومدنياً وثقافياً.
تتميّز رواية «روْچين»، لكاتبها أيمن ناصر، الصادرة عام 2019م عن دار «الشامل» للنشر والتوزيع، والمؤلّفة من أربعة فصول مترابطة، بلغة بلاغية، تطغى عليها حوارات أدبية فكرية متماسكة، وحوادث خيالية صخبة، حيث ركّز على الحوار الصريح المباشر (الديالوج)، كأحد أبرز أنواع الحوار، إذ كثيراً ما نقرأ مشاهد حوارية مفعمة باللذة الفكرية – الذاتية وأبعادها، بين صوتين لشخصيتين مختلفتين، كالحوار بين «متعِب ونبيلة بن سعيد»، و «متعِب وروْچين»، و «متعِب وسامر»، و «متعِب وسرجون الآشوري أو حاتم الحميدي»...الخ، إذ أن هذه الحوارات المتفاعلة الحيوية أزالت الرتابة عن الرواية، بعد صفحات متوالية من السرد والأخبار، ليحقّق الإبانة والإفصاح عن خبايا الشخصيات والأفكار والقضايا التي يسعى إليها الروائي، حيث يقول الروائي على لسان متعِب:
«بدأت الروائية (شذا) الحوار، وهي تتأمّل اللوحات بقولها:
- سامر، تتجنّى على المرأة حين تشبّهها بالأفعى في أعمالك؟ رضينا أن تكون المرأة في أعمالكم سمكة، فرساً، شجرة، فراشة، أو حتى لبؤة، لكن أن تكون أفعى سامة، وقاتلة!
تحرّك سامر من وراء سيبة الرسم، مسح الفرشاة بخرقة كانت بيده ثم
وضعها على طرف الطاولة. حكّ ذقنه وقال بهدوئه المعتاد:
- أستغرب منك أستاذة شذا هذا الاتهام! ما أدراك أنّ الأفاعي التي
أرسمها سامّة؟! عليك أن تعودي إلى التاريخ قليلاً....
كأنّما شذا كانت مأخوذة بموسيقا الحوار وطبقته الثقافية العالية...الخ، كان عليها أن تقول شيئاً وهي تقترب من لوحة سامر:
- نعم! إنهم الرجال الذين يؤجِّجون حروب العالم، وإن لم يجدوا الحرب أشعلوها ليواجهوا خرابهم الداخلي، بتخريب العالم».
ونظراً لكون الشخصيات عنصراً ذو أهمية من عناصر الرواية، فلا بدّ من تكريس الوقت لرسم سمات ومسار وتطور كل منها. إذ كانت الشخصيات بسيطة وواضحة من حيث اسم الشخصية، وجملة مختصرة عن سطورها، ودوافعها، وعوائقها، وتحوّلاتها، وهدفها الأساسي الذي تنشده.
خطّ الصراع في الرّواية امتدّ على طول الفصل الثّاني حتّى نهاية الرّواية. إذ يُعتبر الصّراع أحد أهم الركائز الموضوعاتية – التقنية في آن واحد، والتي تتحرّك بموجبها عجلة الأحداث، وتنمو معها الشخصيات، وتتطوّر الزمكانية وتتوسّع، وتزداد حدّته وأهميته معاً كلّما تطوّرت الوقائع وتأزّمت الأوضاع، ولعلّ البطل الرئيسي أكثر الأطراف إدراكاً للصراع وخوضاً له، كون معظم أحداثها تدور حوله ومرتبطة به، إذ الصراع لدى أيمن كان مفعماً بالمفاجئات الشعورية والمكاشفات النفسية الأخلاقية، التي طغت تحديداً في خمسة مواضيع، الأول في مقالة «دينا» الكاتبة والصحفية في جريدة «أثيل»، التي يرأسها «متعِب المبروك» حول الفساد الثقافي وتداعياته، وقضية الإنجاب والعجز الجنسي الذي يعانيه زوج دينا «ناظم» مدير مكتب رئيس تحرير الجريدة ثانياً، وثالثاً علاقة دينا الجنسية بالدكتور متعِب، والرابع في قضية اختفاء ابن خالة متعِب «عامر» غرقاً في النهر، والخامس حول النقاش الساخن في الحافلة المتجهة إلى اللاذقية بين متعِب والفنّان ورسّام بورتريه «حاتم عبد الربّ»، وأكثر ما يثير هذه الحوارات ومواضيعها أن الكاتب أنهاها بخواتيم مفتوحة بعمق إبداعي كبير.
تتشكّل البنية السردية للخطاب الروائي من تضافر ثلاثة مكوّنات هي «الراوي، والمَروي، والمَروي له». فأيمن ناصر لا يتكلّم بصوته بشكل صريح، ولكنه فوّض راوياً تخييلياً، وجّهه إلى قارئ تخييلي، وما ميّز راوي الكاتب أنه كان متنوّعاً وذو هدف فكري مميّز، وهذا الراوي هو (الأنا) الثانية للروائي. حيث كان الراوي شخصية من شخصيات الرواية «متعِب، سرجون، روْچين، دينا…».
ومن المهمّ التمييز بين الروائي والراوي، فالروائي هو «الكاتب خالق العالم التخييلي، وهو الذي يختار الراوي، ولا يظهر ظهوراً مباشراً في النصّ الروائي». وأما الراوي فهو «أسلوب صياغة، أو أسلوب تقديم المادة القصصية، وقناع من الأقنعة العديدة التي يتخفّى الروائي خلفها في تقديم عمله السردي».
وقد أدّى التغيير الذي طرأ على طبيعة الراوي إلى تطوّر واضح في تقنيات صياغة المادة القصصية في الرواية. ومن نقاط التحوّل الهامّة التي طرأت على بنية التوصيل القصصي اختفاء الروائي؛ نتيجة موقف ينادي بنفي شخصيته. وقد كان «فولتير» أول مَن نادى بهذا المبدأ، حين قال «يجب أن يكون الروائي في عمله كالله في الكون: حاضر غائب».
في المقابل، نجد في الرواية عثرات وقع بها الكاتب، إذ طغى على بعض أقسام النصّ سرد ابتدائي لأحداث أضافت ضعفاً، أو ربّما لعنة فشل قراءاتية عليها. فمثلاً الصراع والحوار الذي جرى بين ناظم وزوجته دينا حول علاقة الأخيرة برئيس تحرير الجريدة، وقضية عجزه الجنسي وعدم قدرته على إشباع زوجته وإنجاب الأطفال منها هو صراع وحوار سرداني ابتدائي أقلّ ما يقال عنه بأن الكثير من ذلك مرّ على مسامع القارئ، وذلك إما في مسلسلات عربية أو أفلامها الطويلة، إذ أعطى ذاك السرد انطباعاً ركيكاً على النصّ، تفتقد إلى شروط الفكرة والموضوع ببعده الفكري الجديد وتقديم حدث نوعي. وكأن الكاتب طها بعض أقسام روايته نصّاً «سيناريوهاتياً» لفلم عربي طويل أو مسلسل ما.
ومن المفترض أن الرواية تدور أحداثها عن روْچين، أو تابوت آخر للوهم، وعلاقة عشق سامية خُلقت في عالم الافتراض والخيال، ورُبطت بالدكتور متعِب المبروك، إلا أن الكاتب وقع في فخ حبكة وسرد وحوارات وأحداث من الفصل الثاني إلى القسم الثالث من الفصل الأخير عن مواضيع وأفكار بعيدة معنوياً عن روح الرواية، وكأنه يجب أن يكون عنوان الرواية «متعِب ودينا، أو متعِب وسرجون، أو متعِب ونبيلة بن سعيد، أو متعِب وناظم...».
ولنعد إلى نقطة البداية، حيث تدور أحداث الرواية بأسلوب بلاغي مشوّق وأفكار جميلة من العاصمة دمشق وغربي كوردستان، الذي بات يُعرف اليوم بين القوميات المختلفة كما قبل الثورة أو الأزمة السورية بالشمال السوري، حول متعِب المبروك، بطل الرواية الرئيسي، وهو أستاذ الدراسات العليا ودكتور مادة النقد الأدبي بجامعة دمشق، كاتب مرموق وناقد لاذع، ورئيس تحرير جريدة ثقافية، يعيش صراعاً نفسياً ذاتياً، تعلّق بحبّ فتاة كوردية – إيزيدية تُدعى روْچين، التي تكبره بعقدين ونصف، وتسكن في قرية (تل قمر)، التابعة لمحافظة الحسكة، وهي شخصية افتراضية – خيالية، خلقها الكاتب بشكل رئيسي في الرواية، وبعدّة مواقف وأحداث، ليسأل القارئ عن إمكانية حقيقتها من افتراضيتها، حيث جاء في مطلع القسم الخامس، من الفصل الأول:
«هُيّئ لي أنني نهضت ومشيت تجاه الغرفة، وأنها بزغت خارجة من الباب، وحين اقتربت منها قالت برغبة أكيدة:
- لمَ لم تكن تنظر إليّ؟! ألا تريد أن تراني كيف كبُرت؟! تعال، سأريك.
ومثلما يجري في حلم، جذبَتني بعيداً عن غرفة أخيها إلى غرفة مجاورة للباب الخارجي تُستخدم لتخزين المؤونة، وأغلقت وراءها الباب بدرباس خشبي. رأيتها توسّع بأصابعها الرشيقة فتحة «البلوزة»، تُخرج من صدرها خطاباً عليه رشقة من عطرها، هزّته أمام أنفي كأنّما تنبّهني أنّه خطاب مختلف. وخلال ذلك كانت قد كشفت عن تلك القناة الفاصلة بين نهديها. سحر العالم كلّه كان يتجمّع في تلك المساحة الضيقة الواسعة من العالم ويلهب الخيال، لمحتُ وشماً لطاووسٍ منقوشاً فوق نهدها الأيسر، وآخر فوق النهد الأيمن بشكل متعاكس بحيث يتلامس ذيلاهما ببعض. ثم التصقت بي وهمست في عنقي:
- اقرأه في دمشق، كتبته لك صباح اليوم. كنت أعلم بقدومك.
- روْچين ماذا تفعلين؟ كُفي عن جنونك!
- ألا تعلم أن جنوني هو حريتي الوحيدة، حرية تكمن في أعماقي لا تستطيع منعها عنّي. دعني أمارسها بحقيقة واحدة. هي أنّك لي وحدي».
وأيضاً يقول في نهاية الفصل الأخير:
« فكّر ناظم، وأخذ نفساً عميقاً وأبعد أيّ استنتاج عن عقله. وضع الحقيبة جانباً. أراد أن يفهم ما يدور برأس معلّمه. لامس كتفه قائلاً:
- دكتور، الحافلة ستمشي.
- ألا تراني أتحدّث مع روْچين؟!
- روْچين؟! مَن روْچين؟! أين هي...، لا أرى أحداً؟!
صعق متعِب غير مصدّق، وقد تنبّه لعدم وجودها:
- ماذا؟! هل ذهبت؟ تساءل مدارياً ذهوله.
ردّ ناظم بتخابث:
- أغلب الظنّ أنها ذهبت. تفضّل دكتور نصعد الحافلة.».
رواية «روْچين»، رواية واقعية ممزوجة بخيال صخب وعاطفة رومانسية ولغة شعرية. رواية اجتماعية مليئة بصراع نفسي و(أنا) سوسيولوجية. رواية جريئة، إذ حُرّرت من المحاجّات المجتمعية ومآلاتها. تنتهي بنهاية مفاجئة، قد تكون عنصراً قوياً اشتغل عليه الكاتب، حيث ترك أبواب أسئلة فكرية تأمّلية نفسية مفتوحة على مصراعيها، حول ما إن سيعود بطل الرواية إلى أناه السوسيولوجية أم سيتجذّر بذاته – هواه الفطرية.
إذ قد يضاف على الرواية نجاحاً آخر لو حُرّرت أحداثها، وتحوّلت إلى سيناريو لمسلسل أو فيلم ما أو مسرحية، يخرجه كبار مخرجي العالم، لما لموضوع الرواية من قيم وأبعاد فكرية وثقافية وحياتية.
)) رشا المالح: ممثلة ومؤلفة سورية، تعيش حالياً في دبي، وقد كرست وقتها لمراجعة الكتب العالمية المتميزة وترجمتها ودراستها دراسة أدبية. صحيفة «البيان» الإماراتية.