تناول الجزء الاول النقاط الرئيسية في كتاب ( عصر رأسمالية الرقابة)، والذي يحذرنا من تغول الشركات التكنو رقمية مثل غوغل والفيس بوك وما تنتجه من برامج و لوغاريثمات فائقة الذكاء - مسترشدة بنظريات في علم النفس السلوكي والاقتصاد - ، ودور تلك البرامج في اضعاف الاسس الديمقراطية والاطاحة بمؤسساتها، بل واستهداف جوهر الارادة الحرة للفرد عبر اعادة هندسة أفكاره و رغباته ومشاعره وميوله النفسية ، وقد أشرت الى ان الكاتبة تميل الى التجريد والتحليل النظري في كتابها، مما دعاني الى إضافة بعض الامثلة لدعم رؤية الكاتبة ووضع القارئ أمام واقع حقيقي وملموس ينذر بما تراه الكاتبة تهديداً لمنجزات الانسان في مجال حقوق الانسان والديمقراطية .
أولاً : صنعت مئات البرامج الذكية والتي لا تكلف اكثر من سعر هيلوكوبتر، تقوم فيها كومبيوترات ذكية بالتواصل مع الموبايلات و تجعلها تسجل بالصوت والصورة ما يدور حولها ( في تجمع أو اجتماع أو مؤتمر أو مظاهرة مثلاً) ، بل تتواصل الموبايلات مع بعضها وتتشارك بالمعلومات دون علم أصحابها، وتستلم كومبيوترات مراكز الرقابة تلك المعلومات لتصنيفها وادراجها في ملفات المعنيين. بلاشك قد تكون مثل هذه البرامج أدوات فعالة في ملاحقة المجرمين والارهابيين ، إلا ان ذلك يتطلب العمل بها بشفافية تامة وفق تشريعات بدون ثغرات قانونية وفي حالات الضرورة القصوى ، فهل هذا ما يجري حقاً؟ . صفقات بيع تلك البرامج تتم بسرية تامة ولا يتوفر لدينا الا ما أفصحت عنه الصحافة الاستقصائية والتي كشفت أن معظم الدول النامية قد حازت عليها لرخص ثمنها ( نذكر منها الاردن، السعودية ، البحرين، الامارات ، المكسيك، نيجريا ، السودان ) والقائمة تطول، وان معظم تلك الدول تستخدمها للتجسس على المعارضين والناشطين في الدفاع عن الحقوق المدنية. لك ان تضيف هنا بأن معرفة الشعوب بانها مراقبة باستمرار ستكون رادعاً للكثيرين من الاشتراك في اي نشاط احتجاجي ، وقد يقترح البعض ان نترك موبايلاتنا في البيوت عند التجمع في نشاط ما، و لكن بعد قراءة الفقرة التالية و التي ستوضح برنامج تمييز الوجه ( face recognition ) بقدرته على التعامل مع ملامح الوجه كدالة أو كود يقود الى ملف المعلومات الخاصة بالفرد، عندئد سيكون السؤال هل يمكن ان نترك وجوهنا في بيوتنا أيضاً ؟ أو اين سنولي بوجوهنا ؟ وهل سيضطر المحتجون للبس الاقنعة مثلاً ؟ .
ثانياً: يجري الآن العمل على تطوير برامج جمع المعلومات بواسطة ملايين الكاميرات المنصوبة في الاماكن العامة و على بدلات الشرطة ، و النقل الآلي لتلك المعلومات الى مراكز رقابة مجهزة بمكائن الذكاء الاصطناعي القادرة على تصنيف وترتيب الملفات المعلوماتية اعتماداً على ملامح الوجه كدالة أو كود يدل على هوية الفرد، وبسرعة تفوق قدرة الانسان على انجازها يدوياً بملايين المرات ( حضر مراسل ال BBC تجربة لمراقبة سكان مدينة صينية مؤلفة من 4.7 مليون نسمة تمكنت فيها الاجهزة من تسجيل وتصنيف نشاطات السكان خلال 7 دقائق فقط ).
استيحاء من نظرية التحفيز صممت الصين برنامجاً مستقبلياً على هذه الشاكلة و على درجة عالية من التطور لفتح سجلات الكترونية لكل مواطن، تتابع فيه نشاطاته اليومية في كل مجالات الحياة، تعطى لكل مواطن درجة سلوك ( Score ) تحدد مدى تجاوبه مع توجيهات وتعليمات النظام، كما تمنح وفق درجات السلوك مكافآت وجوائز مادية ومعنوية ( توظيف ، علاوات،سياحة ، مقاعد دراسية... الخ)، وهذا ما يحفز على تسابق المواطنين على خدمة النظام للحصول على درجة سلوك أعلى، وربما يصبح الامتثال والخضوع اسلوب حياة طبيعي، ورديفاً للمواطنة الصالحة في نظر الأجيال القادمة. نجاح البرنامج قد يصبح نموذجاً لتعزيز الانظمة السلطوية وخاصة الغنية القادرة على تمويله كالسعودية مثلاً .
من الجدير بالذكر ان أجهزة الامن حتى في الانظمة الديقراطية وبحكم طبيعتها البوليسية تهيمن على ثقافتها النزعة السلطوية والفكر المحافظ، ولا يستبعد انتهاكها لحقوق الانسان اذا لم تردعها القوانين، فعلى سبيل المثال وجهت ولاية ألاباما عام 2000 أمراً الى منظمة حماية حقوق الملونين بتسليم قائمة بمعلومات كاملة عن اعضاءها والمتعاطفين معها ، ولم يحسم الامر لصالح المنظمة إلا بعد سلسلة من المحاكم ورفع القضية الى المحكمة العليا ، وقد كشف عن زرع جواسيس بين المتظاهرين السلميين في ساندروك احتجاجاً على مد أنابيب النفط وتلويث مياه المنطقة ، كما نشرت لوس انجلس تايمز مؤخراً أن بوليس المدينة قد زرع مندسين في منظمة سلمية مهمتها التثقيف ضد الفكر الفاشي تدعى ( Refuse Fascism ) ، في كل هذه الحالات يمكن للبرنامج المذكور تزويد السلطات بوافر المعلومات دون الحاجة الى أوامر ادارية أو زرع جواسيس و دون علم احد .
ثالثاً : أثارت فضيحة كامبرج أناليتيكا مخاوف الحريصين على شفافية الانتخابات في النظم الديمقراطية بالعالم ، فقد كشفت بريتني كايزر وكريس وايلي في شهادتيهما في المحاكم البريطانية ان مخزون المعلومات الخاصة لعشرات الملاين من المواطنين التي اشترتها الشركة من الفيس بوك قد تم استغلالها لتضليل الناخبين ليس في اميركا و بريطانيا فقط بل في عدد من الدول الاوربية والدول النامية لضمان فوز المرشح أو القضايا المطروحة للاستفتاء . كيف نجحت في ذلك ؟ ، استأجرت عالم النفس هوغان الذي صمم تطبيق ( تعرف على شخصيتك ) على الفيس بوك و عبر لوغاربثمات بالغة الذكاء تم تحديد الناخبين القابلين للاقناع ( The presuadable )، اعتماداً على طبيعة شخصياتهم القلقة والمتحمسة ومستوى ثقافتهم ، ثم أمطرتهم بالاخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة واثارة المخاوف من اللاجئين و الارهابيين والهويات والاديان الاخرى لدفعهم الى التصويت لمرشحي اليمين، و قد كشفت التحقيقات عن عقود بين الشركة ودعاة انفصال بريطانيا عن الاتحاد الاوربى ( بركست)، وعقد آخر مع حملة ترامب، علماً ان نائب رئيس الشركة هو ستيف بانون مدير حملة ترامب ومستشاره فيما بعد ، وان ممول الشركة ميرسر كان أيضاً الممول الأكبر لحملة ترامب 2016 . أغلقت الشركة من قبل السلطات البريطانية، ولكن السؤال يبقى ملحاً ، كيف يمكن حماية الديمقراطية دون تشريع قوانين صارمة لتضع ضوابط و محددات على الشركات الرقمية بحيث تضمن عدم ظهور كامبرج اناليتيكا جديدة.
آمل ان تكون تلك الامثلة كافية للكشف عن مخاطر تغول الشركات الرقمية وامتلاكها هيمنة شبه مطلقة في انتهاك فردانيتنا واجتياح الفضاء الخاص في حياتنا ، وآثار ذلك على مآلات الديقراطية و منجزات الحضارة الانسانية.