علم إقليم كوردستان هو العلم الرمزي للشعب الكوردي الذي جزأته اتفاقية سايكس بيكو 1916م بين ايران والعراق وتركيا وسوريا، وقد ظهر لأول مرة في بداية العشرينيات من القرن الماضي، وقُدِم بعد ذلك لأعضاء الوفد الدولي في مؤتمر باريس للسلام، والذي وضع خطة من أجل استقلال كوردستان كجزء من معاهدة سيفر (Sèrves) مع تركيا العثمانية عام 1920م، كما اعتمد كعلم رسمي عام 1946م لجمهورية كوردستان وعاصمتها مهاباد في الجزء الإيراني. هذه نبذة تاريخية مختصرة عن العلم الكوردستاني الذي اعتمده إقليم كوردستان منذ استقلاله الذاتي عام 1992م من قبل المجلس الوطني الكوردستاني (البرلمان)، ومن ثم بعد صدور الدستور العراقي 2005 الذي اعتبره علما رسميا للإقليم، والذي تعرض في كثير من المواقف إلى إشكاليات خاصة في المناطق المستقطعة أو (المتنازع عليها)، ليس اليوم بل ومنذ احتلال القوات الأمريكية للأراضي العراقية وإسقاطها نظام صدام حسين، مرورا بسيطرة منظمة داعش الإرهابية على محافظة نينوى وصلاح الدين والانبار وأجزاء من كركوك، هذه المنظمة التي تعاني من عقدة مركبة في التاريخ وما يدلل عليه، وخاصة الآثار بكل أشكالها، فقد استهدفت كل ما يؤشر إلى حضارة ما، وكانت الكنائس والمنائر والمراقد والمزارات الايزيدية القديمة هدفا لها، فدمرتها بالكامل وأسقطت اثنتان من أقدم منائر العراق وكوردستان، وهما منارة سنجار ومنارة الحدباء، وهما توأمتان لإمارة الاتابكة في الموصل وسنجار وثالثتهما في اربيل، ولكون هذه المنارة واقصد منارة سنجار لها حكاية مع التاريخ والأمريكان وداعش وثقافة التعريب والتغيير الديموغرافي فقد أصبح لها خصوصية الحديث.
بداية دعونا نتعرف قليلا على أصل المنارة دون الخوض في تفاصيل التاريخ، فهي منارة جامع شيد في مطلع القرن الثالث عشر الميلادي أي في عام 598 هجري من قبل قطب الدين محمد ابن عماد الدين زنكي، وهي ثالثة منارات الاتابكة في اربيل والحدباء في الموصل، وقد تعرضت خلال السبعمائة سنة من تاريخ بنائها للكثير من الهدم على أيدي الغزاة الذين كانوا يقصدون سنجار لذات الأسباب التي دفعت داعش وغيرها اليوم إلى استباحة المدينة وتغيير هويتها وتدميرها وهدم كل معالمها الحضارية والاثارية بما فيها المنارة.
بعد إسقاط نظام صدام حسين سيطر الأهالي على معظم مفاصل الإدارة حتى وصلت قوات البيشمركة التي ساعدتهم على إعادة الأمن والنظام، وأوقفت الفوضى العارمة التي صاحبت السقوط، بل وإعادة الحياة إلى كل أجهزة الإدارة والخدمات خلال اقل من أسبوع، بما فيها المدارس والمستشفيات والشرطة والمحاكم وبقية الدوائر ذات العلاقة بالخدمات الأساسية كالماء والكهرباء، وبعدها بشهر تقريبا وصلت بعض القوات الأمريكية من الموصل، بقيادة الجنرال ديفيد باتريوس الذي كان يقود الفرقة الرابعة التي تمركزت في الموصل حينذاك، والذي عُرف عن أهالي الموصل بأنه محامي البعثيين!.
حينما وصل سنجار طلب على الفور الاجتماع مع ممثلي الأهالي من كل المكونات والأديان والفعاليات السياسية والاجتماعية إضافة إلى قادة البيشمركة في المدينة، وقد كُلفت بتشكيل وفد من الأهالي ومن كل الشرائح والمكونات وقد ضم في حينه أكثر من ثلاثين شخصا يمثلون الكورد والعرب والديانات الثلاث (الإسلامية والايزيدية والمسيحية)، حيث تحدث باتريوس عن التغيير الذي حصل في العراق وإنهم اليوم القوة الوحيدة وعليه من الضروري انسحاب البيشمركة إلى مواقعها الأولية، مبررا ذلك بأنه لا يجوز بقاء قوتين مسلحتين في نفس المكان، ومدعيا بان مكونات من غير الكورد لا تستسيغ بقائها، مما دفعني للرد عليه بان قوات البيشمركة قوات نظامية لها تاريخها، وهي حليفة حالها حال بقية أعضاء التحالف الدولي وتعمل بالتنسيق معه، ولديها تاريخ طويل في محاربة الدكتاتوريات وخاصة نظام صدام حسين، الذين تقاتلونه انتم منذ عدة أيام فقط، وقد نجحت خلال اقل من أسبوع من وصولها إلى المدينة في إعادة دورة الحياة الطبيعية دون أن تفرق بين المكونات القومية والدينية، والذين يعترضون على وجودها هم أدوات النظام السابق الذي شوه المدينة وهجر سكانها الأصليين.
عموما وضمن آلية التنسيق وبعد مفاوضات جرت بين القيادات الرأسية تم سحب البيشمركة لكي تستقر بدلا عنهم قوات أمريكية اشترطنا أن تكون خارج المدينة وتحديدا في معسكرات الجيش السابق جنوب المدينة، وفعلا هذا الذي حصل حيث بدأت بعض العناصر المتضررة من سقوط النظام والمضادة لهوية المدينة الكوردستانية التغلغل إلى مقراتهم هناك، حتى تفاجأنا عصر احد الأيام بمداهمة قوة أمريكية للدوائر الحكومية والمقرات الحزبية وبدأت بتحطيم الأبواب المقفلة وكسر الدواليب ومصادرة السجلات وإنزال علم كوردستان وصور الزعيم مصطفى البارزاني والرئيس مسعود، ثم أبلغت بان رفع علم كوردستان سيؤدي إلى غلق المقرات واعتقال المسبب، وكذلك فعلت في معظم الدوائر والمقرات التي ترفع العلم وأنزلته وصادرت معظم الصور، وقد شاهدنا تلك العناصر التي كانت تتردد على قواعدهم ليل نهار من المعادين لهوية المدينة وانتمائها يقودونهم إلى حيث يرفع العلم الكوردستاني.
وفي مساء ذات اليوم كان رد فعل الأهالي ردا مدنيا حضاريا، فقد رفعوا جميعهم وعلى بيوتهم ومحلات عملهم أعلام كوردستان وبأعداد كبيرة جدا، بينما قامت مجموعة أخرى من الشبيبة باعتلاء منارة سنجار ولفها بالعلم الكوردستاني، حيث استيقظت المدينة في اليوم التالي ومئات الأعلام ترفرف فوق مبانيها، مما أدهش الأمريكان بل وأحرجهم هذا الرد المتحضر خاصة وإنهم يدعون إشاعة الديمقراطية وما فعلوه قبل أيام كان منافيا لما يدعوه، المهم أنهم أدركوا الدرس واعتذروا، بل وشاركوا في إعادة رفع العلم بكل احترام فوق مباني المدينة ومقرات الأحزاب.
خلاصة القول إن داعش ومن ماثلها اليوم فكرا وسلوكا هي منظمات خارج الزمن، وما اقترفته من جرائم وسلوك يدلل على غبائها الذي لا يختلف عن غباء أولئك الذين قادوا الأمريكان وورطوهم بإنزال علم كوردستان في المدينة، ووقوفهم بالضد من خيارات الأهالي وهويتهم بهذا السلوك الذي ما يزال البعض يتصور بأنه سيمحي هوية هذه المناطق وانتمائها الجغرافي والقومي والاجتماعي متناسيا إن هذا الشعب سيعيد بناء كل ما خربته ثقافتهم العنصرية ويعيد بناء مناراته ويجعلها متحفا يضم كل آثارنا ويذكر أجيالنا القادمة بهمجية وإجرام وبلادة كل من يعادي الشعوب وهويتها وإرادتها في الانعتاق والتحرر.