2020-06-02 11:19:26

عندما وقعت الاحتجاجات الامريكية، إثر مقتل جورج فلويد، الأمريكي من أصل أفريقي، في أُثناء اعتقاله على أيدي رجال الشرطة، ذهب تفكير كثير من العراقيين الى محاولة استجلاء وإيجاد أواصر للمقارنة بين الحدثين الكبيرين؛ الاحتجاجات العراقية الكبرى في تشرين الأول 2019 ومجرياتها من جهة، والاحتجاجات الامريكية الحالية من جهة اخرى.
وبرغم ان بعض الكتاب والمحللين، المحوا الى عدم جدوى المقارنة؛ انطلاقا من الفارق الكبير بين البيئتين والنظامين، فان المقايسة فرضت و تفرض نفسها، لأسباب عدة، في طليعتها؛ ان كثيرا من "العراقيين"، لاسيما من المحسوبين على التيارات والأحزاب الإسلامية في العراق، ممن صمتوا عن دماء الضحايا الابرياء من العراقيين، التي اريقت او حرضوا ضد الشباب العراقيين المنتفضين، اصبحوا فجأة في طليعة المنادين بحقوق الانسان دفاعا عن الأمريكي المقتول ـ وهو مظلوم بالتأكيد ـ وطفقوا يقحمون انفسهم في خضم الجدل بشأن حقوق الانسان، الذي نأوا عنه ولاذوا بصمت مريب ابان ثورة تشرين الشعبية؛ وسكتوا عن الدماء التي اراقتها الحكومة لشبان عراقيين طالبوا بمجرد حقوقهم المشروعة في التعيين والخدمات، الى الحد الذي وصلت فيه اعداد الشهداء الى اكثر من700 شهيد والوف الجرحى من بينهم آلاف تعرضوا الى إعاقة جسدية.
جرى كل ذلك والقوى التي كانت تعول على بقاء الوضع كما هو عليه؛ للحفاظ على امتيازاتها، كانت اما صامتة او انها تنفذ مسعى حثيث وخبيث، للتحريض على المتظاهرين السلميين، بذريعة تواجد طرف ثالث ومندسين، يطلقون النار على المتظاهرين وعلى القوات الأمنية بحسب قولهم.
من هنا مربط الفرس في شرعية المقارنة بين الامرين؛ فلقد كشفت الوقائع الامريكية الاوراق العراقية، وفضحت زيف تيارات عقائدية، تدعي امتلاكها ناصية التقوى والرحمة والفضيلة، ففضحتها مجريات الاحداث أيما فضيحة، وبينت مدى القسوة والظلم الذي مارسته، اذ ان منها من قام بعمليات اختطاف وتعذيب واغتيال لكثير ممن أسهم في الاحتجاجات العراقية.
وقطعا فاننا لن نستطيع ان نلم بجميع مجريات الاحدث وتداعياتها في المدة بين الانتفاضتين العراقية والأمريكية وابانهما في هذه العجالة؛ غير ان بروز هؤلاء المتشدقين بحقوق الانسان على حين غرة في العراق، يميط اللثام عن مدى الظلم الذي حاق و يحيق بالعراقيين، لاسيما الطبقات الشعبية والفقراء ومدى القسوة والاستهانة التي تعرضوا لها من قبل بعض العراقيين الذين حرضوا على قتل أبنائهم الثائرين، او سكتوا عن قتلهم، في حين باتوا الآن يتحدثون بكل عنفوان وحماس عن حقوق المواطن الأمريكي المسلوبة وقتل فرد من الشعب الأمريكي المظلوم!
عندما حدثت الانتفاضة العراقية اتهموها بدعاوى مضحكة، القت بظلال الشك على الأهلية السياسية لتلك القوى والأحزاب، منها ما يتحدثون به في قنواتهم الفضائية وما اكثرها عما يسمى بالجوكر؛ وهي شخصية سينمائية وهمية طرحت في فيلم امريكي، تناولوها في الفضائيات المحسوبة على التيارات الإسلامية بطريقة مبتذلة تسيء اول ما تسيء إليهم، فأثارت السخرية من بلاهتهم الإعلامية والسياسية.
سكتوا او تغاضوا عن المذبحة التي نفذت بحق العراقيين وجلهم من الشباب، برغم انه يفترض فيهم ان يدعمونهم ويازرونهم، لاسيما مع حديث تلك القوى شبه اليومي عن الفساد والفاسدين وضرورة القضاء على الفساد والمحاصصة؛ وهو ما انتفض ضده المتظاهرون.
وجه المقارنة الآخر الذي يفرض نفسه برغم اننا لم نزل في بداية الاحداث الامريكية، كما اننا لن نستطيع التنبؤ بتطوراتها، هو قلة الضحايا الامريكان الذين قتلوا مقارنة بالضحايا الشهداء العراقيين؛ ففي الوقت الذي لم يتجاوز عدد القتلى الامريكان أصابع اليد الواحدة فان ضحايا العراقيين للمدة نفسها، كانت قد تجاوزت الوف الشهداء والجرحى، برغم ان الانتفاضة العراقية سلمية بالكامل، ولم تدمر مؤسسات الحكومة والدولة، ولم تحرق مراكز الشرطة ومقرات الامن مثلما فعل ويفعل المحتجون الامريكيون؛ بل ان المتظاهرين العراقيين دأبوا على حراسة المؤسسات الحيوية التي تواجدوا بقربها لاسيما المصارف ووضعوا أشخاصا لحمايتها؛ فيما احرق الامريكيون جميع مراكز الشرطة في المنطقة التي جرى فيها قتل المواطن الأمريكي، وخربوا مؤسسات للدولة والحكومة، وكذلك فعلوا في ولايات ومناطق أخرى، كما حدثت اعمال نهب لأسواق ومحال، فيما لم يفعل شباب العراق ذلك، برغم فقرهم وانعدام حقوقهم المادية والمعنوية التي تتوفر للامريكيين.
أمر آخر ايضاً، أحدث الفارق الكبير بين الواقعتين، هو ما افصحت عنه التغطية الإعلامية لحدث كبير مثل الاحتجاجات والتظاهرات، اذ رأينا مراسلو وسائل الإعلام الامريكية، لاسيما المرئية، حتى تلك المحسوبة على الحزب الجمهوري الذي يتزعمه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، تمارس عملها بمهنية وتغطي الاحداث أولا بأول؛ في حين ختل مراسلو المحطات الفضائية للحكومة العراقية، وما اكثرها، في مقراتهم، واختاروا بدلا من ذلك زوايا واوقات لا يتوجد فيها المتظاهرون؛ ليتحدثوا عن الأمن المستتب، وحكومة "العادل" عبد المهدي المسيطرة، في مشاهد تدعو للسخرية واحتقار مراسليها.
هذا غيض من فيض المقارنة غير العادلة بين الحدثين العراقي والامريكي؛ فيحسب للشباب العراقيين وعيهم المتنامي، وحرصهم على سمعتهم، ونقاء ثورتهم؛ ويحسب على الحكومة العراقية اجرامها وعدم جدارتها وانعدام شعبيتها وقسوتها منقطعة النظير؛ و يحسب على القوى السياسية العراقية، الا ما ندر، تفضيلها مصالحها الخاصة ونفاقها وسطوتها على مصالح الناس وعموم السكان، الذين عبروا عن موقفهم باحتجاجات سلمية متعاظمة؛ جاهدت كثير من الأحزاب في محاولة وأدها واجهاضها وتشويه سمعتها بدعاوى ملفقة، اثبت المنتفضون بتضحياتهم الأسطورية وتسابقهم للموت خطأها و خطلها.