The Age of Surveillance Capitalism
الجزء الاول
البيوت حاضنة أسرارنا وطقوسنا وأحاديثنا وأحلامنا ويومياتنا الخاصة التي هي جوهر فردانيتنا، وقد ادركت الانظمة الشمولية أن تركيع مواطنها واذلاله يبدأ باختراق حياته الخاصة، حيث يقتحم رجالاتها بيوتنا، يفتشون عن فكرة تسللت الى عقولنا أو دونتها أقلامنا، عن تنهيدة تسربت بصورة قصيدة أو خاطرة، أو لوشاية ضد زائر نستحسن صحبته.
الصورة التي تخيلها جورج اورويل عن ظهور الدكتاتور على شاشة الحائط في بيوت المواطنين وهو يراقب حركاتهم وسكناتهم، ويقرأ ملامح وجوههم وانفعالاتهم ،ويلقي بتوجيهاته لتشكيل نمط تفكيرهم وسلوكياتهم ، تلك الصورة لم يدر بخلد أحد أنها ستصبح واقعاً نعيشه كل يوم ونحن سعداء، فالنظام الجديد ليس بحاجة الى رجال مخابرات وهراوات، رجاله أجهزة الذكاء الاصطناعي التي ندخلها بيوتنا بكامل ارادتنا، بل لا خيار لنا سوى ان نفعل ذلك، نبحث في غوغل فيبحث فينا ، رغباتنا ، نزعاتنا ، ميولنا السياسية ، علاقاتنا ، حاجاتنا المادية والنفسية. نشاهد التلفزيون فتراقبنا كاميراته المتلصصة، حساسات تسجيل وتصوير في المراوح و الغسالات و الثرموسسات و مكانس الروبوت، بل صنعت أسرة نوم تسجل بالصوت والصورة تقلبات النائم وعدد نبضات قلبه وأنفاسه، تجسس المخابرات على غرف نومنا لم تعد اليوم طرفة نتندر بها بل واقعاً متحققاً ، الموبايل مخبر يسجل أين تذهب وماذا تفعل ومع من تتحدث . اذا كان لدى النظام الشمولي التقليدي ملفات استخباراتية عن نشاطات و تحركات الناشطين، فلدى غوغل وفيس بوك وغيرها ملف لكل فرد منا، يتضمن ما لا يعرفه هو عن نفسه. تنتزع الانظمة القمعية بالسجن والتعذيب اعترافات معارضيها عن اصدقائهم ورفاقهم، بينما يكفي تنزيل أي تطبيق على جهاز الموبايل لحيازة المعلومات المخزونة عن أصدقائك ورفاقك، بالطبع بعد أن تضغط على عبارة(موافق) على شروط ( التعاقد )، وهل لديك خيار آخر؟ اللهم الا اذا اخترت العيش في العصر ما قبل الرقمي!. من أهم مرتكزات الديقراطية الليبرالية مفهوما الفردانية والتعاقد، اللذان يتم انتهاكهما في العصر الرقمي، كلما ضغطت على زر تشغيل الكومبيوتر أو الموبايل.
تخطت الشركات التكنو-رقمية بنفوذها مؤسسات الدولة الديمقراطية، التشريعية منها والتنفيذية، وقد اكتسبت حصانة شبه مطلقة ضد اي ضوابط قانونية أو محددات أخلاقية باجتياحها الفضاء الخاص، فالى اي مدى يتشيأ الانسان في ظل هيمنتها ؟، والى اين تمضي بالحضارة الانسانية، وما مصير المؤسسات الديمقراطية، وقد تزاوج علم النفس مع التكنولوجيا الرقمية لاعادة صنع انسان معدوم الارادة الحرة، وبالتالي التفكير الحر ؟، تلك الاسئلة وغيرها تضعنا في مواجهتها شوشانا زوبوف في دراسة تحليلية معمقة بعنوان ( عصر رأسمالية الرقابة ).
قبل الخوض في تفصيلات الكتاب، أدعو القارئ الى التمييز بين تكنولوجيا المعلومات وتطورها المتسارع ودورها الانجازي الهائل في خدمة الانسان، في مجال ادارة الاقتصاد والاعمال والتواصل والصحة والامن وغيرها، وبين سياسات الشركات التكنو -رقمية في استثمار تلك المنجزات العلمية لتكديس الأرباح، غير آبهة بالآثار الجانبية المدمرة لا بسبب التكنولوجيا بحد ذاتها، بل لسياساتها التي ستفضي الى خلق نظام شمولي عالمي.
تذكرنا الكاتبة بلحظة تأريخية حاسمة، حين اجتاح الاسبان المكسيك فظن الهنود الحمر آنذاك انهم أمام آلهة، اذ لم يروا من قبل مثل أشكالهم و ازياءهم و احصنتهم وأسلحتهم، وما كرس هذا الاعتقاد أن الاوربيين قد حملو بأجسادهم آلاف الفيروسات التي لا يعرفها جسد الهندي الأحمر ولا يمتلك مناعة ضدها آنذاك، مما ادى الى موت الملايين منهم، اذن تلك المخلوقات القادرة على صناعة كل هذا الموت لا بد ان تكون آلهة هبطت من السماء ، ولم يدرك الهنود الحمر الا بعد فوات الأوان ان تلك الآلهة قد جاءت لأبادتهم جسدياً، و اليوم تترسخ في اذهاننا الوهية الشركات التكنو-رقمية لقدراتها العلمية و قد قاربت السحر ، الا ان الآلهة الجديدة لا تنوي ابادتنا جسدياً ولا مصلحة لها بذلك ، لكنها ستهاجم جوهر انسانيتنا عبر تشيؤ الانسان ومصادرة إرادته الحرة ما لم تسن قوانين و محددات تشريعية لتنظيم استخدام التكولوجيا لصالح تعزيز الديمقراطية وحفظ كرامة المواطن.
ربما يظن بعضنا أن الملفات المعلوماتية عن حياة ورغبات و نشاطات كل فرد منا تستخدمها تلك الشركات لغرض بيعها للشركات الصناعية والخدمية كي تمطرنا باعلاناتها الدعائية فحسب، ولو اقتصر الامر على هذا فلا بأس، بل قد يجد بعضنا لهذا الاجتياح مسوغاً اقتصادياً، الا ان البرامج واجهزة الذكاء الصناعي قد تجاوزت السوق التجاري التقليدي الى أسواق السياسة و الامن والحروب و الانشطة المخابراتية وغيرها، وبعض تلك البرامج تمثل تهديداً خطيرا،ً خاصة اذا ما حازت عليها الانظمة السلطوية.
ترى الكاتبة ان العصر الرقمي يشهد ميلاد طور جديد للرأسمالية، أو لنقل نمط انتاج مختلف في طبيعة علاقاته الانتاجية، وهذا ما سينعكس دراماتيكيا على الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي. ففي ظل الرأسمالية الصناعية والخدمية المواطنون مستهلكون، إلا أن علاقتنا بالشركات الرقمية لم تعد علاقة استهلاكية ، فنحن المواطنين مادة اولية يتم استثمار نشاطاتنا اليومية ومجمل حياتنا الخاصة مثلما تستثمر شركات الانتاج الصناعي ما في باطن الارض من مواد اولية كالبترول و الراديوم ، أما وسائل الانتاج فهي مكائن الذكاء الاصطناعي، حيث تعالج المعلومات التي جمعت من يوميات سكان الارض وتقوم لا بفرزها وتصنيفها فحسب، بل ببناء برامج فائقة الذكاء لاعادة تشكيل وعي الانسان وسلوكه ورغباته وحتى طبيعة مشاعره بحيث تتناغم مع خدمة المستهلك، والمستهلك هنا شركات الانتاج الصناعية و المؤسسات الخدمية وأجهزة المخابرات والأمن والحكومات الديمقراطية أو الشمولية و مرشحو الانتخابات وغيرهم. تصطلح الكاتبة على تلك البرامج - التي تجني منها الشركات التكنو_رقمية مليارات الدولارات - بمصطلح فائض القيمة السلوكي. وقد كشفت عن الاهتمام المتزايد للشركات الرقمية بتجارب عالم النفس السلوكي ب. ف. سكينر تحديدا،ً والتعاقد مع علماء من مدرسته في علم النفس . يقول سكينر ان الارادة الحرة للأنسان ليست سوى وهم في مخيلتنا ، و ان إعادة تشكيل اطباع وعادات وطريقة تفكير الانسان ممكنة، فالانسان ليس حراً بل يمكن دفعه لاتخاذ قرارات فرضت عليه متوهما انه هو من قرر خياراته بنفسه، وقد خلص الى تلك الاستنتاجات بعد أن أجرى تجارب ناجحة على الفئران والحمام فيما يسمى ب( أقفاص سكينر)، أثبت فيها ان بامكانه جعل تلك الحيوانات تتصرف بشكل مخالف لطبيعتها اذا ما طبق عليها نظام الحوافز والعقوبات، وهو مصر على أن ذلك ينطبق على الانسان أيضاً، ولا مجال هنا لسرد تجاربه بالتفصيل. وقد لقنت أجهزة الذكاء الصناعي ايضاً بقواعد وأساليب مستمدة من نظرية التحفيز ( Nudge Theory) لعالم الاقتصاد ريتشارد ثالر، وتقوم النظرية على افتراض ان الانسان في معظم الاحيان غير قادر على اتخاذ القرارات الصائبة، مما يستدعي دفعه الى ذلك من قبل قوة خارجية حكومية أو غير حكومية ذات خبرة ودراية اكبر بمصالحه. [ المفارقة هنا ان دعاة السوق الحرة ما انفكوا يروجون لايديولوجيتهم على اعتبار ان الانسان مخلوق عقلاني وهو الأدرى بمصالحه ولذا يجب ان تترك له الحرية الكاملة في السوق دون تدخل اي قوة خارجية وخاصة الحكومة ]. البرامج الذكية المبنية على نظرية التحفيز للتأثير على سلوك وخيارات الانسان في كافة مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لا تختلف عملياً عن برامج غسيل الأدمغة، وتمثل تهديداً للديمقراطية لأعطاء نخبة - ممن يزعمون معرفتهم بمصالحنا أكثر من انفسنا - الاحقية في التأثير على مجمل خياراتنا في الحياة ، هذا مع اننا لانغفل ان استثمارها في مجالات معينة سيكون ذا فوائد جمة ، مثل محاربة السمنة و التحفيز على نظام تغذية صحي و تنمية عادات جيدة كممارسة الرياضة والجد بالعمل وتنمية روح الطموح الشخصي و التقنين في صرف الطاقة وغيرها، وقد انشئت في معظم الدول الاوربية لجان تحفيز لتلك الأغراض تدعى (Nudge Committee).
تتبعت الكاتبة مراحل تطور خطط اقتحام الشركات التكنو- رقمية لعالمنا الخاص، اذ بدأت أولاً بجمع ملايين التيرابايت من المعلومات عبر الواقع الافتراضي وألعاب الفيديو والتطبيقات الرقمية، ثم انتقلت الى الواقع الحقيقي في برنامج خرائط غوغل و العاب بوكي مان وتسيير سيارات بلا سائق . بالطبع لا أحد ينكر الفوائد الكبيرة لبرامج مثل خرائط غوغل في تسهيل المواصلات ونقل البضائع وما الى ذلك وأثرها على الاقتصاد الوطني والحياة الشخصية، إلا ان علامات استفهام كبيرة برزت حين تم التحقيق في قضايا المحاكم التي اثيرت في مدن في سويسرا ونيوزيلندا وغيرها، والتي كشفت أن غوغل توجه كاميرات متطورة لتصوير ما في داخل البيوت بدل الشوارع والبنايات من الخارج مما يشير الى أن الهدف اقتحام الفضاء الخاص بحجة رسم الخرائط. وأخيراً تطورت أجهزة الذكاء الصناعي في معالجة تلك المعلومات الخاصة لانتاج برامج اعادة تصنيع الوعي والسلوك والكشف عما سيتخذه الفرد من قرارات في المستقبل القريب، و المدهش ان أجهزة الذكاء الصناعي تتمتع بالقدرة على التواصل فيما بينها وتبادل المعلومات والاستفادة من أخطاء بعضها البعض و التعلم مما يدخلها الانسان من بيانات وما يردها من الأجهزة الاخرى، وبسرعة تفوق تعلم الانسان بآلاف المرات.
رغم الحجم الكبير للكتاب (660 صفحة) وما فيه من تفصيلات واسهاب، الا ان الكاتبة آثرت التركيز على الجانب النظري والتحليلات ذات الطابع التجريدي أحياناً، ولذا أجدني ملزماً بتقديم بعض الأمثلة التوضيحية لاقناع القارئ بأهمية الموضوع الذي قد لا يرى فيه البعض الا نوعاً من الترف الفكري، وهذا ما ستتم تغطيته في الجزء الثاني من المقال ....................................... يتبع