لنبدأ قصة المرض من أولها. قبل عشرة أيام، أقام أحد الاصدقاء واسمه جاسم حفلا بمناسبة رجوعه من سفر، حيث التقط فيروس مرض كوفد 19 (Covid-19) من شخص آخر كان يحمل الفيروس من دون علمه. بعد ذلك بثلاثة أيام، سعل في يده قبل أن يفتح باب بيته للترحيب بصديق له يدعى قاسم الفراتي. (يمكن للعاب مرضى كوفد 19 أن يستوعب نصف تريليون جزيء فيروس لكل ملعقة صغيرة، ويحوله السعال إلى رذاذ منتشر). بينما كان قاسم يدخل البيت، أخذ نفسا فاستقر 32 الف جزيء فيروسي على بطانة فمه وحنجرته. كانت الفيروسات واسمها (SARS-CoV-2) تتكاثر داخل جسد جاسم. وبينما كان يتحدث، فإن مرور أنفاسه فوق البطانة الرطبة في سقف حلقه كانت قطرات صغيرة من المخاط المحمّل بالفيروسات تندفع بشكل غير مرئي في الهواء فوق طاولة قاسم. يستقر البعض على الطعام الذي قدمه جاسم ولم يتم تناوله بعد على طبق قاسم، وبعضها ينجرف على أصابعه، والبعض الآخر ينجذب إلى الجيوب الأنفية أو يستقر في حلقه. في الوقت الذي مد فيه قاسم يده ليودع صديقه، يكون جسمه قد اجترع 40 ألف جزيء فيروس. وبمجرد الانتهاء من المصافحة، يصل هذا الرقم إلى 300 ألف.
تنجذب إحدى القطرات إلى الممرات المتفرعة لرئتي قاسم وتستقر على السطح الدافئ الرطب، وتترسب جزيئات الفيروس في المخاط الذي يغطي الأنسجة. كل جسيم مستدير وصغير جدًا، إذا قمت بتضخيم شعرة من الرأس بحيث تكون حجمها بحجم ملعب كرة قدم، فسيكون عرض جسيم الفيروس عشرة سنتيمترات. يتكون الغشاء الخارجي للفيروس من طبقة زيتية مدمجة مع جزيئات بروتينية خشنة تسمى بروتينات السنبلة. هذه تخرج مثل النتوءات على جسيم الفيروس الكروي. في وسط جسيم الفيروس يوجد حبل ملتف من المادة الوراثية للفيروس وهي من نوع الحامض النووي الرايبوزي (RNA).
عندما يتدفق الفيروس عبر مخاط الرئة، فإنه ينتقل إلى إحدى الخلايا التي تبطن السطح. الخلية أكبر بكثير من الفيروس، يبلغ عرضها ثمانية أمتار مقارنة بعرض عشرة سنتيمترات للفيروس في ملعب كرة القدم الذي تكلمنا عنه اعلاه. لقد جهزت مليار سنة من التطور الخلية بوسائل كثيرة لمقاومة المهاجمين. ولكن لديها أيضا نقطة ضعف- باب خلفي. يبرز من سطح الخلية جزء من البروتين يسمى إنزيم تحويل الأنجيوتنسين 2 أو مستقبلات أي سي إي 2 (ACE2) . في العادة، يلعب هذا البروتين دورًا في تعديل النشاط الهرموني داخل الجسم. اليوم بالنسبة لخلايا قاسم، سيكون بمثابة مرساة للفيروس التاجي.
عندما يقع بروتين السنبلة على سطح خلية الرئة، يتطابق شكله مع شكل (أي سي إي 2) بشكل وثيق بحيث يلتصق به مثل المادة اللاصقة. ثم يندمج غشاء الفيروس مع غشاء الخلية، ويسكب محتويات الحامض النووي الرايبوزي (رنا RNA ) في داخل خلية الرئة.
يبدأ الحامض الرايبوزي للفيروس بالعمل حالما يدخل الخلية. للخلية مادتها الوراثية الخاصة بها وهي الحامض النووي الديوكسي رايبوزي (دنا DNA)، الذي تنتج اشكال منسوخة منه في شكل (رنا) ليتم نسخها باستمرار وإرسالها من نواة إلى سايتوبلازم الخلية، حيث توفر تعليمات حول كيفية صنع البروتينات التي تؤدي جميع وظائف الخلية، في مجمعات خلوية من (رنا) والبروتينات تسمى الريبوسومات.. إنها تشبه ورشة عمل تصنيع جماعية، حيث يقوم العمال، بإضافة قطعة بعد قطعة لصناعة جهاز حسب تعليمات المهندس.
بمجرد أن يواجه الريبوسوم الخلوي رنا الفيروسي، يبدأ ذلك الريبوسوم في قراءة الشفرة المكتوبة على رنا وبناء البروتينات الفيروسية. ثم تبدأ هذه البروتينات بمساعدة رنا الفيروسي على نسخ نفسه، وبدورها تقوم هذه النسخ باختطاف المزيد من الريبوسومات في الخلية وهلم جرا. وبينما تقوم هذه النسخ بعملية الاختطاف تمنع البروتينات الفيروسية الأخرى الخلية من القتال، وسرعان ما تطغى متطلبات رنا الفيروسية على الأعمال العادية للخلية، حيث أن طاقتها وآلاتها الآن مشغولة ببناء مكونات عدد لا يحصى من نسخ فيروسية متماثلة. ويتم نقل هذه المكونات على حزام ناقل نحو سطح الخلية، وهناك يلتف غشاء الفيروس وبروتينات السنبلة حول خيوط رنا، فيتكون جسيم الفيروس الجديد. تتجمع هذه الجسيمات في فقاعات داخلية، تسمى الحويصلات، التي تتحرك إلى سطح الخلية، وتنفجر لتطلق جزيئات فيروس جديدة في جسمك بعشرات ومئات الآلاف.
وفي الوقت نفسه، فإن بروتينات السنبلة التي لم يتم دمجها في فيروسات جديدة تتضمّن نفسها مباشرة في غشاء الخلية المضيفة بحيث تلتصق بسطح الخلية المجاورة، مثل التصاق المغناطيس بقطعة حديد. ثم تلتحم الخليتان، وتنتقل مجموعة كبيرة من رنا الفيروسي إلى الخلية المضيفة الجديدة.
يتكرر المشهد مرارًا وتكرارًا في جميع أنحاء الرئة والحلق والفم بعد اختراق الخلية واختطافها. وبافتراض أن الفيروس يتصرف مثل قريبه، كورونا السارس، لأننا لا زلنا لا نعرف تماما تصرفات الفيروس الجديد، فإن كل جيل من الاصابة يستغرق حوالي يوم لذلك يمكن أن يضاعف الفيروس مليون مرة. تنتشر الفيروسات المكررة في المخاط، وتغزو مجرى الدم، وتصب من خلال الجهاز الهضمي.
لغاية الآن لا يشعر قاسم بأي مما يحدث. في الواقع، ما زال يشعر أنه بخير تمامًا. إذا كان لديه أي شكوى على الإطلاق، فهذا بسبب الملل. لقد كان قاسم مواطنًا صالحا، وبقي في المنزل تنفيذا لتعليمات التباعد الاجتماعي، وبعد يومين من "طلعان الروح"، قرر أن صحته العقلية معرضة للخطر إذا لم يخرج إلى خارج البيت.
اتصل قاسم تلفونيا بصديق له، واتفق على رؤيته في مطعم كباب السعادة. كان يأمل في الاستمتاع بوقت لطيف من الدردشة مع صديقه لكن قناع الوجه الذي ارتداه كاد يقتل الأجواء. في نهاية الأمسية ودع قاسم صديقه بقبلات على الخد، كانت أمسية رائعة. ما لا يعرفه هو أنه قام بإهداء صديقه مليونا من فيروساته، وفي غضون خمسة أيام، سوف تظهر اعراض المرض على صديقه.
مثل بقايا مصنع مهدم تم تجزئته ومن ثم تجريده من أجزاءه ومعداته، وتركه ليتلاشى، فإن خلايا قاسم المصابة تستمر في افراز جزيئات الفيروس حتى تحترق وتنتهي. مع انتشار شظايا الخلايا المتحللة عبر مجرى الدم، يشعر جهاز المناعة أخيرًا أن هناك خطأ ما. تكتشف خلايا الدم البيضاء شظايا الخلايا الميتة وتطلق مواد كيميائية تسمى السيتوكينات التي تعمل كإشارة إنذار، وتنشط أجزاء أخرى من الجهاز المناعي للعمل. عندما تستجيب الخلايا المناعية للخلية المصابة بالفيروسات فأنها تهاجمها وتدمرها. تدور معركة مجهرية هائلة داخل الجسم بين جهاز المناعة الخاص به وقوات العدو الجبارة. ومع تصاعد حدة المعركة، ترتفع درجة حرارة الجسم وتصبح المنطقة المصابة ملتهبة.
بعد يومين، وقاسم جالس لتناول الغداء، يدرك أن مجرد التفكير بالأكل يجعله يشعر بالغثيان. يستلقي وينام لبضع ساعات. عندما يستيقظ، يدرك أن حالته أصبحت أكثر سوأ. صدره يشعر بالضيق، ولديه سعال جاف، يقيس درجة حرارته ثم يقرأ النتيجة: 39 درجة مئوية. يستغفر الله، ويفكر، ويعود مرة أخرى إلى السرير. يحاول ان يقنع نفسه أنه قد يكون مصابا بمجرد إنفلونزا عادية، وحتى إذا كان يحدث الأسوأ، فأنه لازال صغير السن وبصحة جيدة. أنه ليس في المجموعة عالية الخطورة.
أنه على حق، بالطبع، إلى حد ما. مع الراحة في الفراش، يتحسن معظم المصابين. ولكن لأسباب لا يفهمها العلماء، يعاني حوالي 20 بالمائة من الأشخاص من اعراض شديدة.
بعد أربعة أيام من الحمى العنيفة، والشعور بالآلام في كل مكان من جسمه، أدرك قاسم بأنه حقا مريض. لديه سعال جاف يهزه بشدة لدرجة أن ظهره يؤلمه. يقاتل من أجل التنفس ليتوجه إلى أقرب مستشفى. وفي هذه الاثناء يترك 375 مليون جزيئات فيروس ملطخة على أسطح مختلفة من السيارة و 300 مليون أخرى تطفو في الهواء).
خلال يوم من وصول قاسم للمستشفى تدهورت حالته. تقيأ لعدة أيام وبدأ في الهلوسة. تباطؤ معدل ضربات قلبه إلى 50 نبضة في الدقيقة. وبحلول الوقت الذي تقوم فيه الممرضة بربط أنبوب جهاز التنفس الصناعي في أسفل الحلق.
يبدأ جسم قاسم بالتحطم. لقد أصاب جهاز المناعة نفسه في "عاصفة السيتوكين" (Cytokine storm)- وهي زيادة مفرطة في الكثافة لدرجة أنه لم يعد يحارب العدوى الفيروسية فحسب، بل خلايا الجسم نفسها أيضًا. تقتحم خلايا الدم البيضاء الرئة وتدمّر الأنسجة. يملأ السائل الحويصلات الصغيرة التي تسمح للدم بامتصاص الأكسجين. بشكل فعال، تبدأ الرئة بالغرق، حتى مع قيام جهاز التنفس الصناعي بضخ الهواء المخصب بالأكسجين إليها.
هذا ليس أسوأ ما في الأمر. شدة الاستجابة المناعية هي أنه في ظل هجومها، يتم إغلاق الأعضاء في جميع أنحاء الجسم، وهي عملية تعرف باسم متلازمة الخلل الوظيفي المتعدد الأعضاء. عندما يفشل الكبد، فإنه لا يستطيع معالجة السموم في الدم. وتبدأ خلايا الدماغ المحرومة من الأكسجين في الموت.
ومن ثم، يشعر قاسم بالتحسن. لقد انتهى أسوأ خطر. مع ضرب الهجوم الفيروسي، سوف يستعيد جهاز المناعة قوته، وستبدأ الرحلة البطيئة والمضنية للشفاء التام. بعد بضعة أسابيع من الآن، سيزيل الأطباء الأنبوب من فم قاسم ويخرجون جهاز التنفس الصناعي. ستعود له شهيته، وسيعود اللون الطبيعي إلى خديه، وفي صباح جميل، سيخرج في الهواء النقي ويتوجه بالسيارة إلى منزله سالما معافى.