من الواضح بأن التعاطي مع الآخرين فن وعلم قائم بذاته فهو مبني علی فلسفة الأخذ والعطاء. وفي حالة حدوث تعارض في المصالح نری بأن العقل الموضوعي المتجرّد من الآراء المسبقة والافتراضات السائدة ومن جميع العوامل التي تحجب البصيرة عن رؤية الحقيقة یلتجأ الی الطریق الأمثل، طریق الحوار أو الحدیث البناء والمثمر للتوصل مع الطرف الآخر إلى حلّ مقنع أو الی التفاهم. إذنْ العقل الموضوعي يحصّن صاحبه من الانجراف مع تيارات الأهواء والميول والرغبات.
الحوار هو أساساً وسیلة ولیس غایة، أما ترکیز الإنتباه لما يقوله الطرف الآخر ومحاولة فهمه فهماً جيداً فسیقدم للمحاور الفاعل مفاتيح الحل والإدارة بشكل فعّال وبهذا یكون أقدرعلى سد أبواب الخلاف أو ممارسة الضغوط عليه لإقناعه أو لإثبات أن الحق كلّه أو بعضه مع أي طرف.
لقد ظهر في فترة ماقبل عملیة إستفتاء كوردستان من أجل الإستقلال والی الیوم عدد غیر قلیل من الشخصیات القیادیة والسیاسیة في العراق بأسلوب "المعلِّم" أو "الناصح الأول" لقیادة شعب كوردستان تضمّن کلامهم الكثير من التجریح والتهدید والإستعلاء بهدف إستفراز من یهمه الأمر بغیة منع التواصل مع بغداد أو لسدّ أبواب الحوار ومنع الوصول إلى حل.
هؤلاء یتناسون بأن لصوت الشعب في كوردستان قیمة كبیرة لا یمکن لأحد التفریط به، مع أنّە واضح للكثير بأن هذا الشعب ناضل طوال عقود من الزمن في سبیل الحریة و مورس ضده حروب الإبادة الجماعیة وضحی بالغالي والنفیس من أجل الوصول الی حقه الشرعي في تقریر مصیرە.
من یرید محاورة ممثلي شعب كوردستان، علیه أن یعتمد علی العقل والإقناع بالأدلة العلمية والحجج المنطقية ويبتعد عن التعصب والترهيب والتهديد والانفعال العاطفي، فهذا الشعب الأبي المبتكر لعناوین جدیدة للحیاة والتطور، تلك التي أتاحت لمجتمعاتها أن تصنع ذاتها، لایهاب من الموجات اللاحضاریة الهدّامة و لا یفزع من ردود فعل سلبیة أو عدمیة مدمرة و لا یتوّجس من إستخدام الحصار الإقتصادي الظالم وأسلحة الدمار الشامل ضده.
بإقتراب موعد الإنتخابات المقبلة عام ٢٠١٨ في العراق یتجلی مرة أخری لدی أصحاب عقلیة الاتباع والتقلید هاجس القبض علی السلطة والحفاظ علیها بأسالیب التشبیح الإستراتیجي وسیاسة الغطرسة والإستكبار علی هذه الساحة أو تلك، کما فعلت الحکومات الدکتاتوریة الفاشلة من قبل، والتأكید بالسیر بعکس البوصلة بعد هدر ثروات البلاد و حرق ورقة التعایش السلمي المشترك.
من السذاجة والغفلة أن یطمئن شعب كوردستان الی ما یقوله أصحاب المشاریع والدعوات الی بناء عراق إتحادي لا یُنتهَك فیها مایدّعون الیه، فأصحاب العیون النقدیة في كوردستان لا يُخدعون أو يُؤخذون بالإطروحات والتصریحات والبیانات، بعد كل هذا الإخفاق والإحباط في المشاریع والشعارات، التي ترجمت بأضدادها لدی الحاكم العروبي والطائفي، الذي لعب علی الورقة الطائفیة من أجل زعامته وساهم في تغذیة المخاوف المتبادلة بین الکیانات والجماعات، بإعتباره حارس أمین للیقینیات المطلقة والحقائق المتعالیة والأصنام المقدسة المسيئة لقضیة شعب كوردستان العادلة.
نحن نعلم بأن للدول العظمی المهیمنة علی الإستراتیجیات في الشرق الأوسط و للدول الإقلیمیة المجاورة الهاضمة لحقوق الكیانات المتواجدة في إطار جغرافیتها السیاسیة مصالح كثیرة في قیام دولة كوردستان من عدمها، لكن ما یؤسفنا هو أن شركاء لنا تقرّ وتعتبر الإستفتاء باطلاً من أساسه ولاترید رفع الظلم التاریخي عن شعبنا لتحقیق الإستقلال والسیادة لە. أن ما یسعی الیه العقول الوحدویة من رفع شعار المحافظة علی عراق موحد هو ما يشکو منه شعب كوردستان من البربریة، فالهوية الكوردستانیة هي منتوج اجتماعي ثقافي تاريخي، يتفرد بها شعب كوردستان من أجل أن يتميز عن باقي المجتمعات، فمن لا هویة أو فكرة عنده یصنع بها نفسه وواقعه، بإستثمارها في مجال من المجالات أو مستوی من المستویات، یشهد علی عجزه و یخسر فاعلیته وسلطتە بقدر ما یعطي الفرصة لسواه لكي یسیطر علیه أو یقرر عنه.
مایریده شعب كوردستان مع العراق و الدول المجاورة هو بناء علاقات الوساطة والشراكة والمسؤولیة المتبادلة في عملیات الخلق والإنتاج أو في أفعال التنمیة والبناء بالتواصل والتعاون أو بالتبادل والتفاعل ولا يقبل من أیة جهة علاقات النخبة والوصایة والأستذة وإعادة خلق المركزیة الفوقیة ومظاهر البربریة المعاصرة.
وختاماً: "ما نحتاج الیه لیس الدخول في التاریخ، كما یحسب أهل العجز والسبات، بل الخروج من التاریخ بکهوفه وسرادیبه من أجل صناعة حاضر كوردستان الذي یهيء لمستقبل یعدّ بالأحسن."